والمكاري في سياحاته المستمرة يتعرف إلى أناس من شتى الطبقات، ويرى قرى عديدة جديدة، فيتسع جو نفسه ومعقوله، ويجتمع له كثير من النوادر والحكايات التي يفاكهك بها في الطريق. أما أنه محتقر؛ فلأنه فكه ومفيد، وقد تعود الناس أن يحتقروا من يفاكههم إن كان على المسارح التمثيلية، أو في مسرح الحياة.
من المكارين وبغالهم تتشكل السكة الحديدية التي تمتد من نواحي الجبل كلها، ولكن الفرق بين قاطرة المكارين وقاطرة السكة كبير؛ فالأولى إذا رفست تضر بصاحبها، والثانية إذا رفست تضر بالشعب الذي تعيش على حسابه. الأولى لا تتذمر، والثانية لا تقنع. الأولى تمشي ساكتة، والثانية تسير وهي تقرقع وتضج. الأولى لا تتعب من العمل، والثانية تحتاج إلى تجديد دائم في قوتها التجارية. في الأولى تتجسم فضائل الحيوان، وفي الثانية تتمثل مطامع الشركات التي يؤسسها الإنسان. فإذا شئت أن تكون سعيدا موفقا، فاسأل الله أن يجمع فيك من طباع الحيوانات إخلاص الكلاب، ووداعة الغنم، وثبات النمل، ونشاط البغال.
نستأنف القصة - أو بالأحرى نبدأ بها - فنعود إلى المكاري الذي هرول من الدكان إلى الخان؛ ليركب العربة التي تصعد إلى الجبل مرة كل يوم. ولا بد قبل أن نباشر القصص أن نزيد القارئ علما بهذا المكاري الذي كان يمتاز عن إخوانه بغير الأمور التي تفلسفنا في ذكرها. فإذا كان إخوانه يجوبون الجبال والسهول اللبنانية والسورية، فهو قد قطع البحار، وساح فيما وراءها من الديار. وإذا كان زملاؤه يمشون وراء بغالهم، وقلما يركبون العربات، فأبو طنوس، مكارينا، اعتاد أن يسافر في السكك الحديدية، وفي المركبات الكهربائية، في البلاد الأميركية، فتعطلت لذلك رجلاه، أو كادت ، وصار يبذل ثلاثين غرشا غير آسف كل مرة يزور فيها المدينة.
قلنا إن في المكاري ذكاء فطريا، واستعدادا لاقتباس الأفكار الجديدة، والاقتناع بها. وقد تعلم أبو طنوس أثناء إقامته في نيويورك شيئا من اللغة الإنكليزية، فهذب الاقتباس والاقتداء ذكاءه الفطري. وكثيرا ما كان يحضر اجتماعات الأميركيين السياسية بعد تجنسه بالجنسية الأميركية، وحيازته حق الانتخاب، فكان تأثير المهاجرة في عقليته كتأثير الهواء في النبات، والنور في الأزهار.
كان أبو طنوس يكره رجال الدين كرها شديدا، وله معهم مواقف تذكر، فهو أحد الذين سخروا من أحد الكهان وزجروه؛ لخطبة خطبها المؤلف ليلة 9 شباط المشهورة في تاريخ المهاجرة السورية. وكان إذا حدثك في الكهان والقسس، يختم دائما حديثه: «تجنبهم تعش سعيدا.»
جاء أحد المرسلين يسأل أبا طنوس يوم كان في نيويورك أن ينضم إلى جمعية الطائفة، فأجاب: «ما أحلى الجمعية التي تكون أنت رأسها، ويكون أبو طنوس ذنبها! إليك عني.» عندما سئل أن يتبرع لبناء كنيسة للطائفة، أجاب متهكما: «يوم يتم بناء الكنيسة أقدم لها طبلا وزمرا.»
رفع أحد المرسلين في نيويورك عريضة إلى رئيس الأساقفة يشكو فيها سلوك أحد إخوانه المرسلين هناك، فشارك أبو طنوس في توقيع العريضة، ولكنه بعد أن فعل ذلك ذهب توا إلى المرسل المشكو منه، وقال له: «إذا رفعت عريضة ضد أخيك الكاهن، فأنا أوقعها بسرور.»
ادعى رئيس الرسالة في نيويورك مرة أنه اكتشف سما في الماء المقدس عندما كان الشماس يصبه له في الكأس ساعة القداس، واتهم أحد معاونيه؛ قائلا: «يريد أن يقتلني ليفوز بمنصبي»، فأحدثت المسألة شغبا في الجالية، وشرع كل سوري يبدي رأيه فيها، فمنهم من قال إن رئيس الرسالة ناقم على معاونه، وهو يريد أن يخرجه من نيويورك بأية طريقة كانت. التهمة باطلة، والسم موجود في التهمة، لا في الماء.
ومنهم من صدق الرئيس وناصره على المعاون.
ومنهم من أساء الظن بالمدعي؛ قائلا: «ألا يجوز أن يكون الرئيس نفسه وضع السم في الماء، ثم نبه الرعية إليه؛ ليتهم معاونه، ويزيد بأهمية نفسه؟»
صفحة غير معروفة