وقال الشيخ تقي الدين في بعض أجوبته "قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: " من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" ولازم ذلك أن من لم يفقهه في الدين لم يرد به خيرًا فيكون التفقه في الدين فرضًا والفقه في الدين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقهًا لكن من الناس من قد يعجز عن الأدلة التفصيلية في جميع أموره فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته ويلزمه ما يقدر عليه
"وأما القادر على الاستدلال فقيل يحرم عليه التقليد مطلقًا وقيل يجوز مطلقًا وقيل يجوز عند الحاجة كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال وهذا القول أعدل الأقوال.
والاجتهاد ليس هو أمرًا واحدًا لا يقبل التجزي والانقسام بل قد يكون الرجل مجتهدًا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة، وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه، فمن نظر في مسألة تنازع فيها العلماء ورأى مع أحد القولين نصوصًا لم يعلم لها معارضًا بعد نظر مثله فهو بين أمرين: إما أن يتبع قول القائل الأخير لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره باشتغاله على مذهب إمام آخر، وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه وحينئذ فيكون موافقته لإمام يقاوم به ذلك الإمام وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال إن نظر هذا قاصر وليس اجتهاده تامًا في هذا المسألة لضعف آلة الاجتهاد في حقه أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النصوص فهذا يجب عليه اتباع النصوص وإن لم يفعل كان متبعًا للظن وما تهوى الأنفس، وكان من أكبر العصاة لله ورسوله، بخلاف من يقول قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص وأنا لا أعلمها فهذا يقال له قد قال الله تعالى ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ وقال النبي ﷺ: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح فعليك أن تتبع ذلك ثم أن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضًا راجحًا كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده، وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من حق هو محمود فيه بخلاف اصراره على قول لا حجة معه عليه وترك القول الذي ترجحت حجته. وأما الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم.
"وإذا كان الإمام المقلد قد سمع الحديث وتركه لا سيما إن كان قد رواه أيضًا فمثل هذا لا يكون عذار في ترك النص فقد بينا فيما كتبناه في (رفع الملام عن الأئمة الاعلام) نحوًا من عشرين عذرًا للأئمة في ترك العمل ببعض الحديث وبينا أنهم يعذرون في الترك لتلك الاعذار وأما نحن فلسنا معذورين في تركنا لهذا القول فمن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه أو القياس أو عمل بعض الأمصار وقد تبين لآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه وان نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر ومقدم على القياس والعمل لم يكن عذر ذلك الرجل عذرًا في حقه فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان
1 / 47