رسائل الجاحظ
محقق
عبد السلام محمد هارون
الناشر
مكتبة الخانجي، القاهرة
سنة النشر
1384 ه - 1964 م
تصانيف
جعلت فداك. إنما أخرجك من شيء إلى شيء، وأورد عليك الباب بعد الباب، لأن من شأن الناس ملالة الكثير، واستثقال الطويل وإن كثرت محاسنه وجمت فوائده. وإنما أردت أن يكون استطرافك للآتي قبل أن ينقضي استطرافك للماضي؛ ولأنك متى كنت للشيء متوقعا، وله منتظرا، كان أحظى لما يرد عليك، وأشهى لما يهدى إليك. وكل منتظر معظم، وكل مأمول مكرم.
كل ذلك رغبة في الفائدة، وصبابة بالعلم، وكلفا بالاقتباس، وشحا على نصيبي منك، وضنا بما أؤمله عندك، ومداراة لطباعك، واستزادة من نشاطك. ولأنك على كل حال بشر، ولأنك متناهي القوة مدبر.
فصل
والعقل - حفظك الله - أطول رقدة من العين، وأحوج إلى الشحذ من السيف، وأفقر إلى التعاهد، وأسرع إلى التغير، وأدواؤه أقتل، وأطباؤه أقل. فمن تداركه قبل التفاقم أدرك أكثر حاجته، ومن رامه بعد التفاقم لم يدرك شيئا من حاجته.
ومن أكبر أسباب العلم كثرة الخواطر، ثم معرفة وجوه المطالب. ثم في الخواطر الغث والسمين، والفاسد والصحيح، والمسرع إليك والبطيء عنك، والدقيق الذي لا يكاد يفهم، والجليل الذي لا يلقى الفهم. ثم هي على طبقاتها في التقديم والتأخير، وعلى منازلها في التباين والتمييز.
صفحة ١٠٤