رسائل الجاحظ
محقق
عبد السلام محمد هارون
الناشر
مكتبة الخانجي، القاهرة
سنة النشر
1384 ه - 1964 م
تصانيف
ومما يستدل به على أنهم قد استقصوا هذا الباب واستفرغوه، وبلغوا أقصى غايته وتعرفوه، أن السيف إلى أن يتقلده متقلد، أو يضرب به ضارب، قد مر على أيد كثيرة، وعلى طبقات من الصناع، كل واحد منهم لا يعمل عمل صاحبه ولا يحسنه، ولا يدعيه ولا يتكلفه؛ لأن الذي يذيب حديد السيف ويميعه ويصفيه ويهذبه، غير الذي يمده ويمطله، والذي يمده ويمطله غير الذي يطبعه ويسوي متنه، ويقيم خشيبته، والذي يطبعه ويسوي متنه غير الذي يسقيه ويرهفه، والذي يسقيه ويرهفه، غير الذي يركب قبيعته، ويستوثق من سيلانه، والذي يعمل مسامير السيلان، وشاربي القبيعة ونعل السيف غير الذي ينحت خشب غمده. والذي ينحت خشب غمده غير الذي يدبغ جلده، والذي يدبغ جلده غير الذي يحليه، والذي يحليه ويركب نصله غير الذي يخرز حمائله. وكذلك السرج، وحالات السهم والجعبة والرمح، وجميع السلاح مما هو جارح أو جنة.
والتركي يعمل هذا كله بنفسه، من ابتدائه إلى غايته، ولا يستعين برفيق، ولا يفزع إلى رأي صديق، ولا يختلف إلى صائغ، ولا يشغل قلبه بمطاله وتسويفه، وأكاذيب مواعيده، وبغرم كرائه.
وليس في الأرض كل تركي كما وصفنا، كما أنه ليس كل يوناني حكيما، ولا كل صيني حاذقا، ولا كل أعرابي شاعرا فائقا، ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعم وأتم، وفيهم أظهر وأكثر.
قد قلنا في السبب الذي تكاملت به النجدة والفروسية في الترك دون جميع الأمم، وفي العلل التي من أجلها نظموا جميع معاني الحرب، وهي معان تشتمل على مذاهب غريبة، وخصال عجيبة، فمنها ما يقضى لأهله بالكرم، وببعد الهمة، وطلب الغاية. ومنها ما يدل على الأدب السديد، والرأي الأصيل، والفطنة الثاقبة، والبصيرة النافذة.
صفحة ٢١٩