الخروج الى ذلك المتنزه ، فلما أفاق مما به ، وعرف خطأه من صوابه ، استعملت الافتنان في عتابه ، وأقسمت بالله ورسوله وكتابه ، لا تنزهت بعدها أبدا ، ولا تنفست قط إلا الصعدا ، فقال لله درك وهذا الطراز المذهب ، فانك استعملت هاهنا القول بالموجب ، فقلت : وعالم السر والنجوى ، ما تعمدت ذلك وإنما جاء عفوا ، وما زال يذكرني لطايف قد مرت أحلى من الحلوى ، والذ من المن والسلوى ، ثم سألني بالأسماء الحسنى ، أن أنظم هذا المعنى ، فقلت ارتجالا ، ولأمره امتثالا :
وصديق قال لي ما نظرت
مثل وادي السيل عيني أبدا
فاستحسن ذلك ، وأراد أن يسلك بي هذه المسالك ، فقلت قصر الأعنة ، فاني في حال لا يقوى على إمساك القلم فيها ملاعب الأسنة ، وأعلم أني ما خرجت هذا اليوم ، إلا لأتذكر أولئك القوم ، وأتأسف على انتثار ذلك النظام ، والأيادي البيض التي كانت الأطواق والناس الحمام ، وأين تلك الدولة ، التي كانت عليها طلاوة ، ولها في الأسماع والأبصار حلاوة ، وأين الملوك الذين تفيئو ظل السعادة ، وجرت أفعالهم وأقوالهم على وفق الإرادة ، وكانوا في الحسن والاحسان ممن له الحسنى وزيادة ، وإذا ذلك المنشد قد انشد واستعمل فينا نغمات معبد :
ما كان ذكر المنحنا طعمه
مثل فجاج النحل لولا هم
فلما سمع هذا الصوت ، نظر إلي نظر المغشي عليه من الموت ، ثم إني سألته عن بني أبيه ، فتلا علي قوله تعالى : ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) وما زال يذرف من شؤونه ، ويتساقط اللؤلؤ الرطب من عيونه ،
صفحة ٤٠