ثم لنرجع إلى حديث أهل الردة وأمر السبي، لأن ذكره المقصود في رسالتنا هذه لنفي جهالة الجهال، التي منعت من السبي بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأمة، قد ذكرنا في صدر الرسالة ردة عمان على يد لقيط بن مالك الأزدي، وكان يقال له: ذو التاج، وكان يسمى في الجاهلية الجلندي، ولما غلب على عمان وغلب خنفر بن الجلندي وعبدها عليها وهزمها إلى الاجبال، أمدهما أبو بكر بحذيفة بن محصن العلقاني من حمير، وعرفجة بن هرثمة من الأزد، وقد كان قال: حذيفة لعمان، وعرفجة لمهرة، وأنتما متساندان، وكل واحد منكما أمير صاحبه في وجهة، فخرجا متساندين، وأمرهما أن يجدا السير إلى عمان، فإذا كانا منهما قريبا كاتبا خنفرا وعبدا وعملا برأيهما، وقد كان أبو بكر أيضا كتب إلى شرحبيل بن حسنة أن يسير إلى عمان مددا لحذيفة وعرفجة وقال: إن يلحق بكم عكرمة فهو على الناس، وهو وجهكم إلى مهرة وحضرموت واليمن، ولما بلغ لقيط مسيرهم إلى رخام في جانب عمان ونهض خنفر وعبد فعسكرا بأصحار، ووافى الناس عكرمة وتوافت جنود المسلمين إلى أصحار فاستبرؤوا من يليهم، وأصلحوا الجهات، ثم كاتبوا رؤساء أصحاب لقيط فاستجاب لهم طائفة، منهم: سيد بني جديد فانفضوا عن لقيط فنهدوا إليه وقد رقت جنوده، وإن كان في الدهم الأكثر فنهدوا إلى (دبى) وكان لقيط قد جمع القيالات وتركهم خلف الناس حفيظة لهم لئلا ينهزموا ويحافظوا، فاقتتل القوم قتالا شديدا قلما سمع بمثله؛ فاستظهر لقيط على الناس، وكاد يستعلي وجعل يطعن في الزيادة، والمسلمون في النقصان على أن الحفيظة قائمة في المسلمين، والرايات قائمة إلا أن الخطب قد اشتد على المسلمين، وكثرت القتلى فيهم، وفشت الجرائح، وكاد أن يقع لأعداء الله الظفر، فبينما الناس فيما هم فيه إذ وردت أمداد المسلمين من بني ناجية عليهم الحارث بن راشد السامي ومن انضاف إليهم من القبائل: عبد القيس والشواذب فاستعلى المسلمون على المرتدين فقتلوهم قتلا ذريعا بلغت القتلى عشرة آلاف قتيل سوى الشداد، وحويت الذراري والسبايا، وسارت الغنائم إلى القباض وقسمت، وأقررت من الأخماس ثمانمائة رأس، وأنفذت مع عرفجة وأقام حذيفة بعمان، وذلك رأي أبي بكر.
واستقرت الأمور وعاد الإسلام إلى أحسن عاداته، والغرض بذكره ما تعلق بالسبي في العرب بعد النبي .
فأردنا بيان ذلك بوجهه وفنونه وجهاته وأعداده ليكون غرضا يقصده من أراد معرفة تلك الأحوال، وليعلم صحة ذلك من كانت له بسطة في علم الآثار؛ فأردنا أن نبين وقوع السبا في العرب بحيث لا يمكن أحد ممن يستحي من المباهتة من إنكاره، وإن ذلك ظاهر متيقن بمشهد أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وآله - وأصحابه، فهم الأئمة المعصومون: علي بن أبي طالب عليه السلام وولداه الحسن والحسين - عليهما السلام - فلم ينكروا ذلك، بل صوبوه وأخذ علي عليه السلام منهم، ووطئ بحكم الملك، وكذلك فعل فضلاء الصحابة بغير مناكرة منهم في ذلك؛ فكيف ينبغي لجهال أهل العصر إنكار وقوع السبا فيمن هو أقبح من أهل ذلك العصر أفعالا وأشنع مقالا.
صفحة ٥٩