كلمة في تصدير الطبعة الثالثة
مقدمة الطبعة الثانية
الغاب
كلمة في تصدير الطبعة الثالثة
مقدمة الطبعة الثانية
الغاب
مجمع الأحياء
مجمع الأحياء
تأليف
عباس محمود العقاد
كلمة في تصدير الطبعة الثالثة
هذه الرسالة وليدة الحرب العالمية الماضية، شغلني موضوعها يومئذ لأنه موضوع الصراع في الحياة الإنسانية بل في الحياة عامة، وأحببت أن أعرف لهذا الصراع معنى يطمئن إليه الضمير، فانتهيت بالرسالة إلى معنى فيه بعض الاطمئنان أو كل الاطمئنان، وهو أن الحق والنواميس الطبيعية يتلاقيان.
وأعدت طبع الرسالة بعد الحرب الماضية بسنتين، فقلت في مقدمة الطبعة الثانية: «لا أزال أعتقد بعد الحرب كما كنت أعتقد قبلها أن الغيرة على الحق هي روح الإنسانية، أو هي مظهر أنانيتها وحب البقاء فيها، فإذا هي رضيت لأمة أن تستنزف موارد الأمم بغير الحق ثم اطمأنت إلى هذه الحالة، فقد آذن ذلك بانحلالها، وكان منها بمثابة ضعف الوطنية في الأمة وضعف الحيوية في الفرد، وكلاهما نذير الفناء.»
وها هي ذي الطبعة الثالثة لمجمع الأحياء تصدر والدنيا مشغولة بحرب عالمية أخرى هي أشد هولا، وأوسع مدى، وأقوى اختلافا على المبادئ والآراء من الحرب التي نشبت قبل ثلاثين سنة، فإذا كان هناك خاطر يرد على الذهن في تصدير هذه الطبعة - خلال هذه الحرب القائمة - فذلك الخاطر مما يزكي موضوع الرسالة ويؤدي نتيجتها، أو يسير بنا في وجهتها، وهي أن الصراع الأكبر الذي نشهده اليوم سينتهي أيضا إلى عاقبة فيها بعض الاطمئنان أو كل الاطمئنان؛ لأنها تناقض القوة العمياء: قوة الحديد والنار، وتشايع القوة البصيرة: قوة العدل والحرية.
عباس محمود العقاد
أكتوبر 1944
مقدمة الطبعة الثانية
خواطر عامة حول موضوع الرسالة
كتبت هذه الرسالة في النضال بين الأهواء والمبادئ، واستكناه وجه الحكمة التي تبدأ منها وتعود إليها أعمال الناس ومساعيهم في هذه الحياة، وفحواها «أن الخير والشر في هذه الدنيا لا ينفصلان، وأن أشرف ما يعرفه الناس من الحق غيرتهم على ما يعتقدون أنه الحق، وأن الحق الذي نعرفه ونغار عليه غير الحق الذي تتوخاه حركات الكون المتجلية في تاريخ البشر، فليس ما نعتقده حقا إلا أداة موصلة إلى الحق العميق المكنون عنا، والذي يرتسم طرف منه في عقائد الطبائع القوية السليمة، ومهما بلغ من إجحاف هذه العقائد وقسوتها فهي أرحم بالناس من الموت، والموت كائن لا محالة في خلو الناس من العقائد، أفرادا كانوا أو جماعات.
وإننا إذا أردنا أن نعرف رحمة القوى المسخرة لهذا الوجود، فلا نعرفها بقياس قوانينها إلى القوانين التي نتخيلها ونفترضها ونود أن نجريها في الوجود لو كان الأمر بيدنا، ولكننا نعرف هذه الرحمة المحجوبة بشيء بين واضح؛ هو اليقين بأن القانون الذي يوضع لبقاء فرد واحد في عصر واحد، غير القانون الذي يوضع لبقاء جميع الأمم في جميع العصور. وإننا لو سألنا ساخطا متمردا على الكون أي الحكمتين أعم رحمة وأوفر خيرا؛ الحكمة التي تضع القانون الأول، أو الحكمة التي تضع القانون الثاني؟ لما تردد في الجواب، وحينئذ نعلم أن نظاما ترسمه الحكمة الخالدة لا يمكن أن تكون سعادته وقفا على مخلوق يولد اليوم ويموت غدا، وأن السعادة المطلقة للفرد معناها الإبادة المطلقة للنوع، وليس أرحم من حكمة تفدي الوجود الإنساني قاطبة بسعادة واحد منه، ولكنها رحمة لا نعلم أي الناس أحق بظهور آياتها في أعماله وآماله؛ لأننا لا نعلم غايتها، وإذا جهلنا هذه الغاية فنحن لا نجهل حقيقة ثابتة مقررة لا مراء فيها ولا جدال، وهي أنه ليس في العالم فرد أو شعب مهما عظم اقتداره واشتد سعيه وضخمت أهبته وأحكمت تدبيراته، يحق له أن يزعم أنه قد صنع في مدته الزائلة ما يؤهله لأن يستوعب غاية الكون الأبدية في غايته الموقوتة، فإذا هو اقتدر وسعى وتأهب ودبر، ثم كان من غاية الكون أن لا تتحقق غايته كما يريدها ويتخيلها، فكل ما في الأمر أن غاية الكون أكبر من غاية هذا الفرد أو ذاك الشعب، ومتى تعارضت الغايتان - ولا بد أن تتعارضا في حادثة من الحوادث - فلا ظلم في تضحية الصغرى منهما لأجل الكبرى، بل الظلم أن يدرك بمجهود أحد الشعوب ما لا يجوز أن يدرك إلا بمجهود الشعوب كافة ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وقد يأسف الإنسان لهذا القضاء أسفا يقتل نفسه، ويغم على عقله، ويشل حواسه وطبائعه، فيقف حائرا لا يدري بم ينصح الذين يريد لهم الخير! وقد يرى أن الشر والخير سواء في أداء غاية الوجود، وأن فوز الشعب الخامل قد يفضي إلى أسباب هذه الغاية كما تفضي إليها خيبة الشعب العامل، فكيف ينصح لهذا الشعب أو ذاك بالجد والعمل، ولا ينصح له بالتواني والجمود؟! وكيف يقيس الأعمال بعضها إلى بعض، وليس لديه المقياس الذي تقدر به نتائج هذه الأعمال؟! وماذا يقول وماذا يصنع وكل قول ككل قول، وكل صنع ككل صنع؟! وهذا أعظم ما يبتلى به العقل من ضروب الحيرة، وربما غله وقيد حركته وأيأسه، ولكن العقول الكبيرة لا تلبث أن تنصل من هذه الحيرة مطمئنة صافية، ولن تضيرها شيئا إذا سلم الجسم من رجة صدمتها، فتعلم أن الظلام الذي كان يغشاها ويلفها في كفن الخبال والتردد ليس هو ظلام العماية المخيمة على أعين الأقدار، وإنما هو ظلام ينتهي إليه كل بصر يرمي إلى ما وراء طفاوة النور المفاضة حوله، ويثبت عنده أن ما أعنته من الألم اللاذع، إنما هو ألم العجز عن استشفاف حجب المستقبل البعيد، لا ألم الكون المتخبط في فوضى ذلك المستقبل، ويعزيه عن هذا العجز أنه لم يؤت العقل ليضبط به أعنة الحوادث، ويصرف به مقادير الخلق، ويسيطر على قوانين الأرض والسماء.
وليس من الحرمان أن تنقصه هذه القدرة، ويعوزه الحكم على أمور لا سلطان له على تصاريفها، ولا يد له بتعديلها، فهو إما أن يعلمها ويقبض على أزمتها ليطمئن ويهدأ - فلعمري ما أعظم الثمن الذي يطلبه من الكون جزاء اطمئنانه وهدوئه! إذ هو ثمن لا يقل عن التحكم في نظامه تحكم الأرباب الخالقين - وإما أن يجهلها، وهذا قصاراه ومبلغ حقه على الكون، فلا يذهب به القلق وراء حده، ولا يحسب أن كل مجهول فريسة الجهل، وأن كل مخبوء ضائع، وأن البلاء كل البلاء على من يجيئون بعده أنه جهلهم ولم يشرف عليهم، ولعله بعد ذلك يرتاح إلى هذا الذي كان يحيره ويضله، ونعنى به اختلاف الجزاء عن العمل، فيأنس فيه أثرا من اللطف بالناس، ومدعاة إلى التعادل بين أنصبتهم؛ لأنهم لو جزموا بفوز كل متفوق في مقدرته وأهبته، لما بقي لمن تسد في وجوههم أبواب التفوق، أو تحول الحوائل يوما من الأيام بينهم وبين المقدرة والأهبة؛ سبيل إلى مطمع في الحياة.
على أن يأس المغبون، إذا تمادى به الحزن ولج في الاستسلام، لن يجتث من طبائع الناس بواعث الحياة والتجديد، ولن يطمس ذلك المعين الفوار في صدر الإنسان، فهو من قديم الزمن ينحسر من جانب ليطغى من جانب آخر، ويغيض هنا لينبع هناك، ومهما سلم لهذا المخلوق كيانه وهواؤه وأواصره التي تربطه بالمخلوقات أشباهه، فينابيعه معه موفورة وافية، وأصوله فيه مستقلة نامية، بل معه على غير علم منه مبادئه ومصائره، وأسلافه وسلائله، ونعيمه وعذابه، وأصنامه وأربابه، لا يضعفه حملها بل يقويه، ولا يثقله احتواؤها بل ينشطه ويحييه، وما هو بضائره أن يختل حكمه على حكمة الوجود، أو يكثر من التأويل في افتراض أوائله وأواخره، ما دام ذلك لا يخرجه من قلب هذا الوجود أو ينحيه عن مؤثراته، فليبدأ أول الوجود أي مبدأ، ولينته آخره أي منتهى، فإنما قلبه هو قلبه، وصميمه على تعاقب الأزمان هو صميمه، والإنسان عالق بحياته في هذا الصميم لا في أوائله الأزلية ولا في نهايته الأبدية، فهو أيان عاش أحاط به هذا العالم، وحيثما نظرت له عين تحسن أن ترى، فثم شيء لها تراه، وأينما وجدت نفس تحسن أن تدرك، فثم حقائق أمامها تدركها، ولن تظمأ حاجة من حاجات النفس وهذه الموارد باقية. اللهم إلا تلك الحاجة المحكوم عليها بالظمأ الأبدي، والتي تموت إن رويت، وهي الحاجة إلى الكمال، وبها تتم الحاجات جميعا، ومن قبلها يجذبنا زمام الغيب القدير. هذه ينابيع الإنسان التي يعول عليها؛ كلما أضاع أملا أخرجت له أملا جديدا، وكأنها خزانة الجدة العجوز تتربص بالأبناء المسرفين حتى يقنطوا ويضيقوا ذرعا، فتفرج أزمهم وتسري عنهم وتزودهم بالنصائح الموفقة لهم، وهذه الجدة العجوز لا تبض لك بأمل وعندك أمل خلافه، ولا تفتح لك بابها وأمامك باب سواه، وربما أقنعتك في كل مرة بأنك تحرز الأمل الأخير، فلا تكاد تصدقها حتى يتبين لك أنها خزانة لا تنفد، وكنز ذو أوان لا يفتأ يتجدد ولا يتبدد!»
في هذا المعنى وما ذهب مذهبه كتبت هذه الرسالة، ولم أزل منذ دارت في نفسي هذه الخواطر أسمع حجة واحدة هي أكثر ما يورده الناس على فساد نظام الكون، وهي مع ذلك أوهن الحجج وأظهرها بطلانا، وتلك الحجة هي تباين موازين الجزاء، وتنزلها على خلاف المقرر المسلم به في عرفهم، فهم يقولون: أما كان العدل يقضي بالتسوية بين الناس في منازلهم وحظوظهم؟ أليس من الغبن أن يغتضر الشاب ويؤخر الهرم، وأن يحرم العامل ويغدق على العاجز، وأن يرتفع الوضيع ويبتذل الكريم، وإن كان هذا مراد الأقدار أفما كان في وسعها أن ترضي كل مخلوق بنصيبه، وتغني كل طالب عما ليس في يده؟ وازدادت هذه الشكوى بعد الحرب الكبرى فسمعت في كل مكان، وكان لها فعل عجيب في تغير الأحوال، وستسمع في كل حين ما دام الاختلاف بين الناس، فتكون من أقوى دوافع التيار الإنساني.
والشاكون بهذا اللسان لا يداخلهم الريب في عدل شكواهم، بيد أنهم ينسون أن أنانيتهم هي الشاكية المتلهفة على التغيير، وأن ليس العالم هو المفتقر إليه، المتوقف نظامه عليه. وإن أحدهم ليقول في أيام رضاه ما لا يقول في أيام سخطه، ثم يتقلب أمله في حالتي الرضا والسخط ... فهل يريد أن يتحول العالم معه كلما تحولت به الصروف وتقلبت عليه الآمال؟
يشكون من تفاوت الأعمار والحظوظ، وهم إنما تعجبهم من الرجل شجاعته وهمته وجوده، لأن الأعمار مجهولة، ولن يكون لرجل فضل بشجاعة أو همة أو وجود لو زالت المخاطر من الدنيا وتساوى الناس في الآجال أو أمنوا بالموت إلا في وقت معلوم، فإذا أمن الشيب والشبان فهل يرضيهم هذا العدل الذي لا تعيش معه فضيلة، والذي يجعل الإنسان أشبه بالإنسان من اللبنة باللبنة، فتبطل مزايا البأس والذكاء والأريحية والمروءة؛ لا قائد ولا مقود، ولا سيد ولا مسود، ولا حاسد ولا محسود، ولا تتشعب علوم أو تتنوع صناعات، أو تتعدد خصال وأعمال، أو تتفرع أجناس وأديان، فأي دنيا تكون هذه وأي حياة؟ إن هؤلاء الشاكين، لو أسند إليهم أمر الكون، لحاروا في تصور هيئة غير هيئته، ولهدموه قبل أن يؤسسوه؛ لأنهم يحسبون أن العالم إذا احتاج بعض أجزائه إلى متمم من أجزائه الأخرى، كان ذلك حجة على نقصه في مجموعه، فتراهم ينكرون الفوضى والفوضى ما يطلبونه، ويريدون العدل والعدل ما يتبرمون به؛ إذ كيف يكون العدل في غير نظام، وكيف يكون النظام في غير اختلاف؟ أليس قضاء على الكون بالعدم ألا يختلف جزء منه عن جزء في شيء من الأشياء؟ ثم أليس من الجور والخلل أن تتفاوت أجزاؤه في خصائصها وصفاتها وتتساوى في أعمالها ومزاياها؟ ومتى علمنا هذا فلنعلم أن من تمام هذا العدل في هذا النظام أن يسلب الناس الرضا به كما سلبوا التساوي فيه؛ لأن الرضا عائد بهم إلى التساوي، والتساوي عائد بهم إلى الفناء، ولن يرضى الناس إلا كرهوا التحول، وكفوا عن العمل، ولن يكف الناس عن العمل إلا تلفوا واضمحلوا. ولنعلم كذلك أن سلامة الأشرار وسوء عقبى الأخيار، بعض الأحيان، هي قوام الخير في هذه الحياة، وإلا فكيف يكون في الأخلاق فضيلة ورذيلة إذا تحقق جزاؤهما في كل عمل وفي كل يوم؟ وأي فضيلة هذه التي يحملها صاحبها أولا فأولا لينال ثوابها، كما يحمل الأجير دفتره يوما فيوما وهو على ثقة من قبض أجرته؟ أوليس جديرا إذن أن يحمدوا هذا الخلاف، وإن كانت طبائعهم لتتألم منه على رغمها؟ وأن يزداد حمدهم له متى علموا أن هذا الألم هو بغية تطلب لذاتها، لا عرض يأتي في طريق ذلك الخلاف المحمود؟
ولست أقول إن هذا الألم قربان على مذبح غرض أسمى من الحياة، ولكني أقول إنه قربان الفرد للنوع في سبيل الحياة نفسها، وقد يترقى النوع بهذا القربان أو يقتصر الأمر فيه على التجدد المتكرر، ولكن الحياة وحدها كافية لمن يحيا ولو لم يتحقق بعدها الكمال المنشود ... انظروا إلى الفرق الذي لا حد له بين العدم والوجود! ثم انظروا إلى الفرق الذي لا يحاط به بين الوجود المجرد والحياة الشاعرة الناطقة. انظروا إلى هذا الفرق ما مسافته من الزمان، وما عمقه من الإحساس والإدراك، وما حده من الجمال، واذكروا أنكم تتمتعون في كل لحظة من لحظات عمركم بالفرق السحيق بين العدم والحياة ... اذكروا أن روح الوجود تثب فيكم كل لحظة من تلكم اللحظات من هاوية العدم إلى قلب الدنيا النابض الجياش، ويا لها من وثبة! ... ما أعظمها وأجلها وما أكبر فرح النفس بها! واذكروا أن أحقر عمل يأتي به المرء في حياته بينه وبين العدم مسافة لا تعبر، وأن من جلائل أعمال الحياة ما يجعل الحياة الحقيرة كالعدم، فترى أن الموت أهون عليها من فقده، ولعل أضعف ممن يحتقر الحياة إيمانا بعظمتها أولئك الذين يجعلون بعض الحياة غرضا لكلها، أولئك الذي يحسبون أنهم إذا قالوا إن غرض الحياة اللذة أو السعادة أو القوة، كانوا أبعد عن الهذر ممن يقول إن الغرض من النبات امتصاص زبدة الطين أو اجتذاب ألوان النور، الذين يزعمون أنهم إذا فرقوا بين حياة مرضية في نظرهم وحياة أخرى غير مرضية لا يطالبون بالفرق بين الحياة والموت؛ هؤلاء ضعاف الإيمان بالحياة لأنهم يتجاوزون عنها اكتفاء ببعضها، ومثلهم في ذلك مثل المختلفين على الغرض من تكون البحر؛ فيقولون تارة إنه اللآلئ والجواهر، وتارة إنه إنشاء السحب وتلطيف الهواء، وتارة إنه التيارات والرياح، وتارة إنه المد والجزر، وتارة إنه نقل السفن عليه، والحقيقة بعيدة عن كل هذا، وليس البحر بحرا لجملة هذه الأغراض أو لواحد منها، وكذلك الحياة لا تحصر أغراضها ولا تدفع بنا إلى الأغراض التي تفهمها عقولنا، فمن أراد أن يفهم غرضها فليسألها تجبه في نفسه؛ لأن السائل هو الجواب، بل هو كلمة من لغتها المكتوبة الناطقة بغرضها ، وعلى قدر ما في هذه الكلمة من المعنى يكون حظ السائل من فهم جواب الحياة.
فلنفهمها بلغتها ولا نحاول التعبير عنها بلغتنا، وأقرب ما نشبه به تلك اللغة المبدعة أنها وحي ناطق بالمجاز، كامن في العقول والقلوب والأرواح والحواس، تكتبه بطريقة تصويرية كطريقة المعبرين عن المعاني برموز الكتابة المصورة؛ فتنبت شجرة لتقول النضرة والنماء، وتنشئ ربيعا لتقول الحب والرواء، وتسعر حربا لتقول التنازع على البقاء، بل تبدع كونا لتقول الله والسماء. أو هي تصور ولا تلفظ ونحن نفسر ولا نقرأ، وقد صورت حقائقها مرة واحدة في كتاب واحد نحن حروفه وكلماته وأرقامه، فلا نحاول أن نكون قارئين محيطين بهذا الكتاب، وحسبنا منه ما ننطوي عليه من مغزاه. •••
ولقد كان تأليف هذه الرسالة وطبعها في إبان الحرب الكبرى، تلك الحرب التي بلغ فيها الصراع بين المبادئ والأهواء ما لم يبلغه في حروب العالم قديمها وحديثها، فبعثت مخلفات القرون الأولى في نفوس الناس، وقلقلت دعائمها كأنها اعتزمت أن تنشئها نشأة جديدة، فشككت قوما كانوا يؤمنون، وجذبت إلى الإيمان قوما كانوا يشكون أو ينكرون، وخيل إلى أناس أنها الوقعة الفاصلة بين الحق والباطل، لا تقوم للمقهور منهما قائمة بعدها، وربما كانت هواجسها هذه مما حركني إلى استعراض الخواطر التي كانت تدور بخلدي من قبل، ثم إلى تدوينها في هذه الرسالة. والآن وقد انتهت الحرب نهايتها، وجاءت بما في الحسبان وما ليس في الحسبان؛ أراني لا أجد في أسبابها أو أدوارها أو نتائجها تفسيرا جديدا للمنازعات بين الناس، فالحريق هائل ولكن النار قديمة، وإن عود الثقاب ونظام المجموعة الشمسية ليستمدان النار من مصدر واحد، وقد يلخص كل ما صنعته الحرب في جملة وجيزة، وهي أنها عجلت التدرج القديم المطرد في نقل الحكم من أيدي الأقلين إلى أيدي الأكثرين، وسوف يكون لذلك شأن خطير في تصريف أعمال الأمم وضبط معاملاتها وعلاقاتها؛ إذ من البديهي أن الفرق بعيد بين حكومة لا تحتمل خطرا كبيرا أو صغيرا ما لم تحتمه مطالب الأكثرين ممن تلحق بهم مغبته، وحكومة أخرى كالحكومات المعهودة تحتمل كل الأخطار إرضاء للأفراد المعدودين من المتربعين في دسوتها.
ولا أزال أعتقد بعد الحرب - كما كنت أعتقد قبلها - أن الغيرة على الحق هي روح الإنسانية، أو هي مظهر أنانيتها وحب البقاء فيها، فإذا هي رضيت لأمة أن تستنزف موارد الأمم بغير الحق ثم اطمأنت إلى هذه الحالة، فقد آذن ذلك بانحلالها، وكان منها بمثابة ضعف الوطنية في الأمة وضعف الحيوية في الفرد، وكلاهما نذير الفناء.
وأختم هذه المقدمة كما ختمت الرسالة قائلا: اسمعوا صوت الطبيعة، اسمعوه همسا قبل أن تضطركم إلى سماعه زمجرة ووعيدا، وليسمعه كل حي على شاكلته؛ يسمعه الشرير فيتمادى في شره، وتسمعه الأمة فتقضي على ذلك الشرير، وتسمعه الإنسانية فتنحي على الأمة التي تفرط في حقوق الحياة، أو التي تمسخ عناصرها الباقية في الأمم إيثارا لمنافعها المحدودة. وما دام هذا الصوت مسموع النداء، فالعالم الإنساني ممدود البقاء.
عباس محمود العقاد
القاهرة في 8 يناير سنة 1920
الغاب
أين أنا؟ وماذا أرى؟ ومن ذا جاء بي إلى هنا؟ ... ويقظة هذه أم حلم في الكرى؟ أم جاء بي إلى هذه الأرض النائية متصرف فعال لما يريد، أحب أن ينزل في روعي أن الدنيا ليست كلها قصورا باذخة، وأرائك شامخة، ومعامل وأسواقا، ومحابر وأوراقا، ومحافل وجحافل، ومساهر ومساخر، ودرهما ودينارا، وفضة ونضارا، وأن المرء قد يحيا حفل حياته، وينظر مدى عينيه، ويسمع شبع أذنيه، ويحب ويبغض ملء قلبه، وينتعش وسع نفسه، وهو لم يعطف على لندن ونيويورك، أو يسمع ببابل وبغداد، ولم يقرأ فلسفة أرسطو وسبنسر، أو يطرق أذنه اسم هومر وشكسبير، وأنه يقصد كل القصد في إنفاق ساعاته، وهو لم يركب البخار ولا طار في الهواء، ولم يستخدم النار ولا سخر الكهرباء، فهل هذه إرادة ذلك المتصرف الفعال لما يريد؟ وهل أفلح فيما أراد؟
أنا الآن في قلب أفريقيا، والذي أراه حيالي غاب أشجارها باسقات تطالع السحاب من أمم، وجذورها غائرات تذهب في طباق الأرض ذهابها في القدم، يلجأ إليها الهواء فكأنه لاجئ إلى حصن، ويقع عليها الضياء فلا ينفذ إلا بإذن. اشتبكت أعاليها فكأنها السقوف، وهالت مداخلها فتقول هي سراديب أو كهوف، ظلالها أثبت على أديم الغبراء من أصباغ الفراعنة القدماء، لا تنسخها الشمس الساطعة ولا القمر الزاهر، وأصولها أعمق في قرار الأرض من قبر آدم وحواء، ولا يلحقها ظن الفاحص ولا يتعلق بها وهم الحافر. وفيها من الأحياء ما لا يوجد في أعمر الحواضر عداده، ولا ينتهي على طول الزمن أمداده. كواسر صارخة، وعصافير صادحة، وهوام صافرة، زاحفة أو طائرة، ووحوش زائرة، ودواب هادرة، يضرب كل منها على نغمته فيتألف من لغطها المختلف موسيقى الطبيعة المبدعة التي لا تعبأ شيئا بصناعة الموصلي ودحمان، ولا تحفل فتيلا بأفانين واجنر وشوبان. والأزهار نافحات العطر تثني على الشمس بآلائها، وتبرز لها بما كستها من حلل أضوائها، فكأنما هي بأشجارها وأزهارها وأمواهها وثمارها جنة متوحشة متأبدة تئوي صنوف الحيوان، وتأنف أن تكون لهوا ونزهة لبني الإنسان.
أوغلت فيها وبي من حب الاستكشاف فوق ما بي من محاذرة الخطر، فما توسطت رحبتها حتى لاحت لي على بعد امرأة جليلة الهيئة شريفة الطلعة، فدنوت منها، فلم أكد أصدق ما أرى. رأيتها مفتوحة العينين لكنها ضريرة لا تبصر ولا تحيد، وتمثلت لي وقد أخذ بيمينها قائد خفي يتبينه النظر بعد التأمل المضجر والتفرس الشديد، فأدهشني حالها واختبأت أنظر ما شأن تلك المرأة في هذه البقعة، فإذا هي تقول بصوت جهير مطاع ...
سلاما يا ساكني الغاب، سلاما يا أبناء الحياة، سلاما يسل غل الصدور، ويصلح ما بين الواتر والموتور! إلي يا أبنائي فأنا أمكم الحياة، جئتكم في يد القدر أدعوكم لأمر خطير!
وما كان إلا كلمح البصر حتى مادت الغاب بكل شاهق وزافر، مما يمشي على قدمين، أو يدرج على أربع، أو يطير على جناحين، أو يزحف على بطنه، أو يتلوى على نفسه، أقدارا متفاوتة، وأشكالا متباينة، وألوانا متنافرة، من حيوانات وأناسي، فيهم الشمالي والجنوبي، والشرقي والغربي، كلهم ينسلون صوب ذلك النداء، نداء الحياة المطاع.
فلما علمت أن المرأة الماثلة أمامي هي الحياة ! الحياة التي يعبدها الناسك في الصومعة، والعربيد في الحانة، الحياة التي تحبها الدودة المتقلبة في الأقذار، والشاعر العارج في ملكوت الخواطر والأفكار، والحياة التي يضن بها الطفل ابن ساعة، والشيخ ابن مائة وعشرين حجة، والحياة التي لا شبيه لها في الكون ولا نظير؛ تقدمت أتأملها، فلا أكذبك أيها القارئ أني وجدت بها شيات ومعائب كثيرة لا تبدو لأول نظرة، ووجدتها تموه تلك الشيات والمعائب خفية وجهرة، وكأني نظرت على صدرها تميمة من تمائم السحر، أظنها لبستها لتغرم الأنظار بها، وتعمى القلوب عما لا يستحسن منها، ولكن لمحاسنها مع هذا معاني ماكرة، يفتتن بها عاشقوها وهم أبناؤها، مهما خدعتهم وعذبتهم وعبثت بهم. فلو سألت أيا كان في ذلك الحشد المختلط، لقال لك: إنها فتانة القبح والجمال، قتالة الصد والمطال، هذا وهي ما لاحت قط لواحد منهم كما تلوح لجاره، ولا ظهرت لأحدهم في زي واحد بين ليله ونهاره.
وقفت تلك المرأة العمياء المقودة بيد القدر، وقد لزم كل مقامه، وأنشأت تقول ...
خطاب الحياة
أتدرون يا بني لم دعوتكم؟ دعوتكم لما شجرت بينكم شواجر البغضاء، وتقطعت بكم أسباب الرحم، فعدا بعضكم على بعض، وأصبح الحي منكم ينظر إلى سائر الأحياء، كأنه الحي وحده وهي أحجار صماء، لا شعور لها، ولا رغبة في البقاء عندها، أو هو لا يعرف فيها الحياة إلا ليراها أصلح لخدمته، وأهيب من المادة الجامدة لسطوته.
هذا وأنتم جميعا أبنائي، أرضعتكم لباني، وسرت في عروقكم دمائي، وميزتكم عن الجماد، فجعلتكم جندا لي على أعدائي، يؤلمني الألم في أصغركم وأوضعكم كما يؤلمني في أضخمكم وأرفعكم، وأعالج من الأوجاع والحسرات لمفارقة الجثة الناقصة الدقيقة ما أعالجه لمفارقة البنية التامة القويمة.
غركم تباين خلقكم، وتعدد سماتكم وسحنكم، فخلتم أنكم شتيت مفلول، ونثير مبدد، لا تفيئون إلى أصل، ولا تلتقون عند غاية، فهل نسيتم أن كلمة الأحياء تشملكم؟ وأن الموت عدو لكم؟ وأنتم بين جنوده وعناصره في هذا الكون وحدكم؟
فاليوم أجمعكم في هذه الغاب ليمشي بعضكم إلى بعض بالسلم فتعتصموا به، وتتناصحوا فيما باعد بينكم وأولع بعضكم ببعض فتقلعوا عنه، ذلك أولى لكم من هذه الشحناء التي شقت عصاكم، وأشمتت الجماد بكم، وصيرت بعضكم يتمنى لو أنه صخرة جامدة أو جثة خامدة، ويحسب الحياة لعنة عليه وعلى الخلق أجمعين.
إنكم تفهمونني جميعا وتفقهون ما أوحي إليكم به الآن، لكنكم لا يفهم بعضكم بعضا، ولا يعي أحدكم سريرة صاحبه إلا رجما بالغيب وأخذا بالظن، فليكن لكم ما دمتم في هذا الحشد علم الإنسان وبيانه وبصيرته، ولتشرب أرواحكم فنونه وتواريخه وأديانه؛ تتعاونون بها على التفاهم والإبانة عما في سرائركم، أما طبائعكم فحافظوا عليها جد المحافظة، فإنها دليلكم فيما سينطق به كل منكم عن رغبته وفكره، والمعالم التي تميز بين أحدكم وغيره، وهي قوام أنفسكم وملاك وجودكم، وليس التجاوز عن هذه المعالم بأسهل علي أو عليكم من التجاوز عن الحياة.
فابدءوا باسم الخلاق الحكيم، وتكلمي يا يمامة فإنك رمز السلم والسلامة، قرن الله بهما عملكم، وأظل بهما في التفرق والاجتماع شملكم.
فجأروا بلغة واحدة وصوت واحد بين زئير الأسد وصرير الجندب: آمين آمين. •••
وقبل أن تبدأ اليمامة خطابها نظرت أتصفح ما حوته الغاب من تلك الوجوه، فسرعان ما توسمت العقل والمعرفة والتؤدة في الأناسي منهم والوحوش، فقلت: تالله لقد أخطأت الحياة، فإني لا أرى هنا إلا خلقا واحدا، سوى أن هذي دواب في أشكال الأناسي، وهذي أناسي في أشكال الدواب!
ثم صعدت اليمامة على ذؤابة شجرة عالية، وهتفت قائلة ...
خطاب اليمامة
معشر الأحياء:
قال تعالى:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض .
ومصداق هذه الآية الكريمة يا بني أمي قائم في ملك الله الواسع أنى ذهبتم بأبصاركم، فقلبوا الطرف فيما حولكم هل ترون اليمام والزرازير أكثر أم البواشق والنسور؟ وهل البقر والشاء أبقى على القتل والذبح أم الأسود والنمور؟ وهل صغار الأسماك أوفر وأغزر أم كبار التماسيح والحيتان؟ وهل أنواع الحيوان أجم وأنمى أم قبائل الإنسان؟
فإن تبينتم - ولا بد أن تتبينوا - أن الكثرة في جانب الضعف، فتدبروا ذلك تعلموا أن الله لم يخلق المخلوقات المستضعفة عبثا، وأنه لم يقدر عليها الفناء مذ خلقها ضعيفة كما يفتري أولاة الشر ومستحلو دم البريء، بل وهب لها من إرادة البقاء ما وهب لعامة الأحياء، وتمت فيها هذه الإرادة بالكثرة كما تمت في سواها بالقوة، فالجناية عليها جناية على إرادة البقاء، والسطو على حياتها انتحار في صورة اعتداء.
ولقد سمعتم أمنا الرءوم تناديكم قائلة لكم إننا رضعنا جميعا من لبانها، وإنه إذا نسب الأبناء فكلنا بضعة من جثمانها، وإنها تتألم في أصغر حي إذا مسه الألم، ويشق عليها أن تخرج منه ليستولي عليه العدم. وقالت لكم إن أخذكم الحي أخذ الجماد الذي لا يحفل حالة من حالاته مضيع لمعنى الحياة، حاط من شرفها، فميزوا بين المادة الصماء وإخوانكم في رغبة البقاء.
إن بعضكم ليقلق أحشاءه الجوع ساعة، فما هو إلا أن يساق إليه حيوان ساع نام فينقض عليه فيزهق روحه لينال منه ملء فمه لحما، ثم يتركه جيفة لا حراك بها، وليت هذه الأكلة تغنيه عن الطعام بعدها، ولكنه يفعل ذلك كلما جاع، ويجوع في اليوم مرات، أفمن أجل شبع ساعة تسلبون حياة هي كل ما يملك صاحبها من الوجود؟ أليس هذا أقصى ما تنتهي إليه عبادة الغرض وتحكم الشراهة؟
ولا يقولن متهكم منكم: لشد ما تغار اليمامة على تأييد فلسفة الرحمة بيننا؟ أفإن خلقها الله نسرا أو أسدا أيكون هذا رأيها وهذه غيرتها؟ فأقول لهذا المتهكم: إنني لا أدري ماذا يصير من رأيي لو كنت خلقت نسرا أو أسدا، على أن الذي أتحققه الآن وأؤكده أنه لا نسور الذرى ولا ليوث الشرى ينبغي لها أن تترفع عن فلسفة الرحمة؛ إذ ليس من قدير بئيس فيكم إلا وثم من هو أقدر منه وأشد بأسا، وليس من غالب بالقوة اليوم إلا وهو مغلوب بها غدا، وهب القوة انتهت إلى أحدكم واجتمع له الحول والحيلة، فهل أعطاه الدهر أمانا على نفسه أن لا تقهره الكثرة أو المكيدة يوما، فلا ترعى فيه عهدا لإحسان ولا ذماما لحق؟ وتذره ينادي العدل فلا يجده، ويناشد قاهريه الذمة فلا تنجده، فإذا نسي الرحمة وهو قادر عليها، فبأي وجه يذكر بها سواه وهو محتاج إليها؟
أنا إنما أدعوكم إلى دين سواء بينكم يرضيكم جميعا ولا يظلم منكم أحدا؛ دين يحوطكم بحارس من العدل والحق ويرصد عليكم وازعا من الواجب والضمير، فإن صدكم حارس العدل أو وازع الضمير مرة عن أعدائكم، صدهم ألف مرة عنكم. والعاقل من لم يغتر بيومه وتدبر عواقب أمره؛ ولأن تسمعوا هذا الهتاف مني أجمل بكم من أن تسمعوه من الضرورة القاسرة، وأنتم بحكمها عالمون.
ولما سكتت اليمامة كان وقع كلامها مختلفا بين خشوع وموافقة واستهجان وسخر وجمود، ولم تطل هذه الحال إلا ريث أن وثب الثعلب قائلا ...
خطاب الثعلب
معشر الأحياء:
أنا لا أجهل يا بني أمي أن بينكم كثيرا يتهمونني بالخبث والخسة، فمن خطر له من هؤلاء أن يشك فيما سأقوله الساعة فليفعل؛ فإني لا أحاول تبرئة نفسي!
وعظتكم اليمامة وأوصتكم بالضعفاء، وقالت لكم إن الله بارك في مخلوقاته الضعيفة ليحرم عليكم قتلها، أما أنا فأسلوبي في الوعظ غير هذا الأسلوب، وطريقتي في المنطق خلاف هذه الطريقة؛ أنا أقول لكم إن الله أكثر من مخلوقاته الضعيفة لأنه قدر على أكثرها الفناء في هذا المعترك العصيب، فإن رغبتم في المزيد فاسمعوا ما أقول. إن شئتم أن تستقيم أحوالكم، ويهدأ بالكم، ويعرف كل منكم مقداره، فانبذوا من بينكم هذه الكلمات الفارغة: العدل والحق والواجب والضمير؛ فإنها أوهام يضيع الجهد وراءها هدرا، وعلالات تخدع أصحابها ولا ترد عنهم ضررا.
فما دام في الدنيا القوي والضعيف، وما دامت المساواة مستحيلة، حتى بين الفردين من جنس واحد، والأخوين من نبعة واحدة، فلا عدل.
وما دام الجهل يغطي على أبصار الجاهلين، والخوف والاضطرار يلجمان أفواه العارفين، والأمر يحسن اليوم ويقبح غدا، فلا حق.
وما دامت البرية تحيا بالأهواء وتموت طبائعها بموتها، والغاية من الوجود مستورة عنا، والطبيعة لا تكشف لنا بواطنها القصوى؛ فلا واجب.
وما دام العدل مستحيلا، والحق معدوما والواجب مجهولا؛ فلا ضمير.
فاطرحوا عنكم هذه الترهات التي ما أظن مخترع الغول والعنقاء والشيطان أوسع من مخترعها خيالا، أو أقدر منه على تمثيل المعدوم وتصوير شيء من لا شيء.
أطلقوا القيود عن غرائزكم المستقرة في فطرتكم، فهي أفضل من هذه الفضائل التي لا ترجع من طبائع النفوس، عاليها وسافلها، إلى أساس مكين.
إنكم تذمون الحسد وهو الحافز للكمال والمرغب في المزيد، وهل كان امتعاض الحي من أن يسبقه سابق إلا صورة أخرى لبغض النقص وحب الكمال؟ ولعمري كيف كان الخلق يتزاحمون على التقدم، إن كان أحدهم لا يسوءه أن يتقدم عليه سواه، ولا يشعر من نفسه بالكراهة له والنقمة عليه؟ ولا أكثر يا قوم مما قيل في ذم الحسد، فلو كانت خلة من الخلال يستدل على شيوعها أو ندرتها بما يقال فيها مدحا أو ذما، لكان حريا بالحسد أن لا يوجد في صدر مخلوق، لكني أراه عميق المنبت في الطباع. وما كان إجماعنا على مقته وإخفائه لأنه خلة ذميمة في ذاتها، بل لأن إظهار الحسد فيه غض من قدر الحاسد وإقرار بتفوق المحسود عليه، والخالق القدير أحكم من أن يودع هذه الصفة في النفوس عبثا، فلا بد لها من منافع ترجح بما فيها من المضار، وأقل ما يقال فيها أنها تستفز الحاسد وتغري المحسود بالحرص على ما في يده، والازدياد منه خوف الشماتة.
وأنتم تنكرون البغض وهو مسبار المقاومة، وعنوان مناعة الحوزة، وسياج النفس من أعدائها، فمن لم يبغض عدوه لم يحبب نفسه ولم يحم حوزته، ومن لم يحبب نفسه ويحم حوزته فهو جدير بالفناء.
وأنتم تعافون النفاق والنفاق ديدن الطبيعة، والتلون قانونها الذي لا تستحي منه، ولو لم يكن النفاق أصلا من أصول الطبيعة لما كانت جلود الحيوان تتلون بألوان الأشياء التي تكتنفها لتخدع فريستها أو مفترسها، بل لما زينت الطبيعة صغار الذكور والإناث لينخدع بعضهم بجمال بعض، فيندفعوا جميعا في قضاء غرضها ولا غرض لهم منه؛ ولما حببت الآباء في الأبناء ليدوم النوع ولا أرب لأنفسهم في دوامه، بل لما كان لكل مخلوق سر يضمره ويظهر للعالم خلافه، ولما كان لكل أمة سياسة مجهولة وسياسة معلومة، وأعظم من هذا أن الوجود نفسه له وجهان: وجه واضح ينكشف لأول وهلة، ووجه غامض لا تراه الأنظار مهما نقبت عنه وحدقت فيه. ولست أنظر في هذا القول إلى نتائج النفاق القريبة، ولكني ناظر إلى النتائج البعيدة التي نجهلها نحن وتعلمها القدرة التي تسخرنا فيما تريد، فنحن نحب أحيانا أن نخدع غيرنا بلا سبب نعرفه، وأن نستر الحقيقة بلا موجب لكتمانها، ولو كان مدار الأمر على فائدتنا القريبة التي نعرفها ونسعى إليها، لما خفي عنا كنهها، والحقيقة أننا نفعل ذلك مسوقين مرغمين، وليس من شأننا معرفة أسباب ذلك النفاق، وإنما هو شأن تلك القدرة العالية وحدها.
وأنتم تستنكفون من الملق والدهان، فهلا ذكرتم أن من لم يعرف قدرته فهو الغبي الجاهل، وأن من عرف قدرته فصادم بها من هم أعلى منه يدا فهو الطائش المغرور المستحق لجزاء الطائشين المغرورين، وأن من يتملق اليوم عدوه قد يتحكم به غدا، ولكن من يعاند القادرين يموت، فلا هو قضى أربه ولا هو أبقى على نفسه.
وأنتم تمقتون الكبرياء ومن لم يمقتها منكم مقتموه، وهذا وايم الله من ظلم الضعفاء! لأن الكبرياء حق الكبير، والإدلال بالمقدرة مزية القادر على العاجز، والقوي على الضعيف، لو حرمناه إياها لظلمناه وجعلناه كالضعيف، فلحقت القدرة بالعجز، والقوة بالضعف، ورغبت النفوس عن موضع الفاضل إلى موضع المفضول، وجنحت عن البطش والجبروت إلى الضئولة والاستكانة. ولعمري إن زهو العظيم بعظمته لأمر طبيعي معقول، ولكن الأمر المستهجن المقبوح هو أنفة الصغير من الإقرار بتفوق الكبير عليه، كأنه يريد أن لا يحس الكبير بكبره، لا لشيء إلا أنه يحس بصغره إزاءه، وهذا عين الظلم والافتئات. (تصفيق من جانب الأسد.)
وأنتم تحنقون على الأنانية، ولولا الأنانية لكنتم الآن في خبر كان، ولانقرض الأحياء وفاز الموت على الحياة في هذه الأرض. إن الخالق لم يودع الحياة في نفوسنا لنبغضها، ونخجل من حبها ، وننضوها عنا لأول من يطلبها منا، كلا بل أودعت فينا الحياة لنفتتن بها، ونتفانى في حفظها ونحتجن إليها كل ما حولها، ونطبع صورتها على البعيد والقريب منا، والظافر الظافر من غلبت أنانيته على كل أنانية، وانطبع أثره على كل موجود، فإن الوجود لا يقوم بقولي إن غيري أحق بالخير مني، بل هو قائم باعتقاد كل أنه أحق بالخير من الخلق قاطبة. ومتى أصبح كل حي ينبذ عنه الحياة ليأخذها غيره، فمن هو إذن الذي يعيش ويحيا؟ وعلى أننا لو فرضنا على الخلوقات أن تتخلى عن الخير لغيرها، فما هي في الواقع إلا أنانية مقلوبة تمشي على رأسها، وكأننا جعلنا كل مخلوق ينتظر الخير من غيره لنفسه، فأي شيء صنعنا؟ وماذا غيرنا من طبيعة الأنانية؟
وأنتم تتذمرون من القسوة والاعتداء لأنكم متشبثون بحياتكم، ولو أنصفتم القاسي المعتدي لعرفتم عذره، فإنه هو أيضا يحب أن يحيا كما ينبغي لمثله، وإذا كان خوف القسوة والاعتداء من لوازم الحياة عند الضعفاء، فلا حياة بغيرهما عند الفاتك الصئول، وإن جعله قادرا على الفتك بغيره هو الذي أمره بالفتك به وخلوه ذلك حقا لا منازع فيه، وما قتل المرهق المغلوب إلا الذي منحه الحياة وأعجزه عن رد عادية المعتدين.
وأنتم تشمئزون من السرقة ولكنكم تعظمون الاغتيال. إذا تسور لص في ظلام الليل بيتا فأمسكتموه على هذه الحالة فضحتموه وشهرتم به، فكأنكم تحقرونه لاعتقاده أنه يأتي عملا حقيرا يجب إخفاؤه. فإذا سرق فرد أمة أكبرتم دهاءه وأجللتم حيلته وذكاءه، وإذا سطا رجل على شعب سجدتم لهيبته وتمسحتم بأذياله ... فكأنكم لا تستطيعون أن تحتقروا إلا من يبالي باحتقاركم واحترامكم، وأما من يحتقركم ويستعبدكم فأنتم وأموالكم طوع يديه ورهن أمره، ولست ألومكم على ذلك فهذا هو الحق عندي؛ إذ من شأن الحقير أن يشعر بحقارة كل عمل يأتيه، لأنه لا يحق له إحراز ما عنده بله السلب من غيره، وأما العاتي المتجبر فليس يصدر منه عمل حقير؛ لأن من شأنه أن يأمر ويتغلب على من لا يستطيع رد أمره والتغلب عليه، فهو لا يشعر بخجل من انتهاب غيره، بل يدع المنهوب يخجل من نفسه، ويتوارى عن الأنظار، أما هو فيرفع رأسه ويشمخ بأنفه على الراضين والمنكرين، بلا حياء ولا مبالاة. وإنكم ما اتفقتم على أن يكون لكل منكم ملكه، لا يعدو عليه أحد، ولا يشاركه فيه غاصب، إلا لأنكم وجدتم في ذلك مصلحتكم، فما هي حجتكم على من لا يجد مصلحته في قبول هذه الشريعة؟ أو على الذين يرون أنكم ظلمتموهم بسماحكم لمن هم أقل منهم استحقاقا وأحط فكرا بأن يكونوا أوفر حظا وأجل قدرا؟ أما والله إن العدل ليقضي بأن لا تلزموهم شريعتكم، وتتركوهم يدينون بما يرون فيه مصلحتهم ... بيد أنكم لا تقضون بالعدل بل تقضون بالغلبة، وأنتم تجبرونهم على الإذعان لشريعتكم لأنكم أكثر منهم عددا، وليس لأنهم يتمسكون بمبدأ في التماس الرزق والقوة يخالف مبدأكم؛ فما من حجة لكم أو لهم إلا المصلحة دون سواها.
وأنتم تستقبحون الغدر، فهل قام أمر خطير قط بغير غدر؟ ومن كان يطمح إلى المراتب التي يكثر حولها الطلاب، وتتقطع دونها الرقاب، ويقف الخلق للطامح إليها بين منافس وحاسد ومتزلف وكاره، فكيف يجرؤ على إظهار ما يضمر والوفاء بجميع ما يعد؟ ومن كان يرغب في التسلط على الخلق بما فيهم من المحاسن والخبائث، فكيف يلتفت إلى محاسنهم وحدها، ويغفل عن خبائثهم فلا يعبأ بها؟ أليس هذا من الحمق والغفلة؟ سلوا الشيوخ وذوي التجارب الذين طال تمرسهم بالأهوال والمصائب، وحفيت أقدامهم سعيا وراء الآمال والرغائب: كم غدروا ونكثوا وظلموا وكذبوا، مكرهين أو طائعين، لأجل أمل صغير أو خوفا من ضرر يسير، فما بالكم بمن يتصدى لأعظم الأوطار ويتعرض لأهول الأخطار؟ ولا أقصر القول على الشيوخ لأن الشبان لا يغدرون ولا ينكثون ولا يظلمون ولا يكذبون، بل لأن هؤلاء يأثمون وهم جاهلون ما يفعلون، وهم يسمون الأشياء بغير أسمائها، ويأتون الأمور من غير أبوابها، فإن كان فيهم من هم أطهر من الشيوخ قلبا، وأصدق لسانا، فذلك لأنهم لم يخوضوا غمرات الدنيا، ولم يتجرعوا مرارتها ، ولم يطأطئوا رءوسهم لضروراتها التي لا تقبل عذرا، ولا تسمع للضمائر والأخلاق صوتا، ولو علموا كما يعلم الشيوخ أنهم قلما يقدمون على عمل، إلا وهم بين ضرورتين أو أكثر، لكان الشبان كالشيوخ والشيوخ كالشبان.
وأنتم تقولون لا تخن من ائتمنك، فليت شعري إن كانت لك لبانة لازبة، أتقضيها ممن يوجس منك ويستعد لغدرك، أم ممن يطمئن إليك ويثق بك؟
وأنتم تزدرون من لا غيرة له ولا حمية عنده لعرضه، وكأي من لامز فيكم يهمس: هذا فلان العظيم كان يعلم عن زوجه ما يكره، وكان يتغاضى عن الشبهة وإن كانت لتفقأ عينه، طمعا في مسعدة أو اتقاء لمناوأة ... فهو نذل يدنس العظمة ويلوث الرئاسة! ... رويدكم أيها السادة! هلا قلتم إن شغفه بالمجد أكبر من شغفه بزوجه، وإنه أشد على المجد غيرة منه على امرأة؟ وهلا عرفتم أن البصقة تلوث الكوب، ولكن ألف جيفة لا تلوث البحر المتموج اليعبوب؟ وزعمتم أنه نذل مزدرى، فهلا قلتم إنه يزدري العالم حين يترفع عن أحكامه ومصطلحاته، ويستجهل الدنيا حيث يراها تعبد المجد، ثم لا تأنف أن تضع مفاتيحه بعض الأحيان في يد السفاسف والشهوات؟
وكم ذا أفصل لكم أيها الأحياء ما أنتم مليئون بعلمه لو انتبهتم إلي، فاعلموا يا إخوتي أن الحسد والبغض والنفاق والملق والكبرياء والأنانية والقسوة والسرقة والغدر والخيانة والتغاضي عن العورات ألصق بكم، وأقرب إلى طباعكم، وأجدى لكم، من العدل والحق والواجب والضمير، فهلموا بنا نقذف بهذه الأوهام في عرض اليم، ولا تأخذنكم باليم رحمة ... فيطلق القوي يده غير حاسب حسابا ولا متوقع عتابا أو عقابا، ويخلد الضعيف إلى ضعفه فيرضى بالخسف ولا يشكو من العسف، متعللا بالعدل الذي لا يسمع نداء الضعفاء، والحق الذي لا يقوى على كبح جماح الأهواء، متعلقا بالواجب الأعمى والضمير الموسوس. والنفس إذا علمت أن لا مفر لها مما يصيبها، وأن الأقوياء لا يتجاوزون حقهم ولا يخرجون عن حدهم في عدوانهم عليها، وأنه لا مهرب لها من هؤلاء الأقوياء إلا إلى قوة مثل قوتهم لا قبل لها بخلقها، هان عليها احتمال بلائها وصبرت على بغي ظالميها. فاسمعوا أيها الأقوياء: هذه حقوقكم ومزاياكم. واسمعوا أيها الضعفاء: هذه علالتكم وسلواكم. وآمنوا إن كنتم تعقلون.
ولما فرغ الثعلب من خطابه بهت الجمع، فوجموا ساعة لا ينطقون لفرط ما بدهتهم آراؤه المرعبة، فلما ثابوا إلى أنفسهم ضجوا وصخبوا، فعلا التصفيق من جانب، والصفير من جانب، وكادت تكون فتنة، ولبثوا كذلك في اختلاط ولجب حتى هدأت ثائرتهم، فسمعوا القرد يقهقه قهقهة عالية ويقول: لله درك يا ثعالة! ما أدهاك في صراحتك، وأعظم كيدك في نصحك، وأشد محاباتك وتدليسك في إخلاصك! ... لقليل والله عليك أن يجزيك أبو الحارث على هذه الخطبة البليغة بقفص من الدجاج ... وتوجه إلى الجمع وهو يقول: لعلكم تضحكون من تصدي للثعلب وتولي الرد عليه والذب عن الفضيلة، فاضحكوا ما بدا لكم، فما هي بأولى مضحكاتي، وما أنتم عن الضحك بممسكين. ثم ظهر عليه الجد وتهيأ لإلقاء خطاب طويل جليل، فقال ...
خطاب القرد
معشر الأحياء:
ليس بأهل لعظيم من الحظ ولا يسير من لم يكن عنده من صدق العزيمة وحسن البصيرة ما يلهمه شراء الآجل الكبير بالعاجل اليسير.
ألا وإن الحياة، معشر الأحياء، لا تسلم لمن طلب الحياة فحسب، أما من طلب غاية فوقها فتسلم له الحياة، ويسلم له ما فوق الحياة.
ومن تمسك بالقوة وحدها أضاع القوة وتدلى إلى الضعف، وأما من تطلع إلى أعلى منها، فذلك الذي تدين له القوة، ويدين له ما هو أعلى من القوة.
كذلك، يا قوم، من قنع بالكفاف عز عليه الكفاف، ومن طمع في الغنى ينال الكفاف وينال الغنى.
فإذا علمتم هذا، فاعلموا أن العدل والحق والواجب والضمير لو كانت مجهولة لوجب اختراعها، ولو كانت أوهاما مخترعة لوجب اتباعها؛ لأن العدل فوق المصلحة، والحق فوق القوة، والواجب فوق الهوى، والضمير فوق الشريعة، فمتى أردنا أن نظفر بالمصلحة، ونتصرف بالقوة، ونتمتع بالهوى، ونصون الشريعة، فعلينا بما فوقها، علينا بالعدل والحق والواجب والضمير.
أنا لا أنهج أيها السادة نهج المجادلين، فأتتبع كل كلمة قالها الثعلب بالتفنيد، وأبطل كل حجة أتى بها، وأدحض كل رأي ندب إليه، كأن الحق لا يقوم بين اثنين حتى يكون أحدهما مصيبا لا موضع عنده للخطأ، أو مخطئا لا موضع عنده للصواب، فقد أرى الصواب في كثير مما قال الثعلب، وأوافقه على معظم مقدماته بل على ظاهرها كله، ولكني أراه عرف شيئا وغابت عنه أشياء، وربما نظرت مثله إلى العالم فألفيته طافحا بالشر، مكتظا بالرذيلة، حتى إذا نظرت إلى النتائج البعيدة والغايات الأبدية احتجب الشر عني، فلا أرى إلا خيرا محضا.
فأما أن القوة عماد الحياة وأساس الحق وبغية كل نفس، وأنه يحل لها ما لا يحل لغيرها، ويدرك بالجور والغدر أحيانا ما لا يدرك بالعدل والوفاء، فهذا صحيح لا ريب فيه، ولكن أية قوة؟ وإلى أي حد؟
ليست القوة ضربا واحدا ولكنها قوتان: قوة السيل الجارف العرم، تجتاح السدود، وتدمر الصروح، وتهلك الحرث والنسل، وتطغى على العامر فتخربه، وعلى الغامر فلا تعمره، ثم تسيح على وجه الرمال فتذهب جفاء وينتهي بذلك أمرها، كأن لم تكن شيئا مذكورا، وهذه قوة الخراب.
وقوة الينبوع العذب المتفجر الفياض، تنسرب في مجاريها، وتسري سريان الدم في العروق، فتروي العطاش، وتصلح الموات، وتنبت على ضفافها الخيرات، وتنشأ فوقها المدن الآهلة، فيها سكن للناس ومستراد، والمروج الناضرة فيها مسرة للناظرين ورزق للعباد؛ وهذه قوة العمار.
القوة قوتان: قوة البخار الهائم تعمي الأبصار هبوته، وتلفح الوجوه وقدته، وتتبدد في الهواء حركته، ثم يمحى أثره وتغيب عن الأبصار صورته؛ وهذه القوة الطائشة.
وقوة البخار المضطرب في المراجل، يسير الجبال، ويضاعف ثمرات الأعمال، ويصل الغرب بالشرق والجنوب بالشمال، ينهض بما لا تنهض به الألوف المؤلفة من السواعد والمعاول، ويقضي في ساعة ما لم يكن يقضى في الدهر المتطاول؛ وهذه القوة الحكيمة.
القوة قوتان: قوة الطاغية الغشوم، والجبار الظلوم، يسوق الصفوف اللجبة تصخب بالحياة فإذا هي جثث يحوم عليها الحمام، ويطرق المدائن الفخمة فتندك آكاما على آكام، وركاما من فوقه ركام، ثم يقف فوق الأشلاء الممزقة والكواهل المرهقة، يعجب بما بلغت إليه قدرته على الخراب والإرهاب، ويختال بما أوتيه من سطوة التنكيل والعذاب؛ وهذه قوة الهمجية.
وقوة الجواد الغيور، يرى المساكين يدلحون بالعبء فيسره أنه قادر على رفعه، ويبصر الضعفاء يئنون من الظلم فيطربه أنه زعيم بدفعه، وينظر العتل الجهول شامخا بأنفه فيلذ له أن يطأه بقدمه، ويسمع دلال المحامد ينادي عليها في سوق الفخار فيشتريها بلحمه ودمه، ويقصده الناس فيرى أنهم أقروا له بنهاية القدرة ساعة عرفوه بحاجتهم إليه، ووفوه أجره حين مدوا أيديهم مستعينين به، ثم يقف بين غرس أياديه وثمار مساعيه، فيستروح من شكر الناس له غبطة لا يستروح مثلها ذلك العتل من خشيتهم إياه؛ وهذه قوة المدنية.
فيا من يعبد القوة! أي القوتين أحق بالسيادة وأولى من الخلق بالعبادة؟
فلقد مضى زمان كانت فيه القوة كلها من الضرب الأول؛ قوة خراب طائشة همجية. كان ذلك وركب العالم في أول مراحله، فلما تقدم الركب اصطبغت القوة بصبغة أخرى أبقى لها وللعالم من صبغتها الأولى، واستقامت الفطر على هذه الوجهة دهورا وأجيالا بأمر الطبيعة أم القوتين الطائشة والسديدة، لا بأمر عامل فضولي من خارجها؛ لأن هذا العامل الفضولي غير موجود. بيد أنه كما ينثلم المجرى أو يعوقه عائق، فيندفع الينبوغ المروي سيلا جارفا، وكما ينشعب المرجل فينطلق البخار المحرك دخانا عاصفا، كذلك تفسد الطبائع، فتنقلب قوة العظيم بلاء على قومه ووبالا لبني جنسه، فيقال لها حينئذ: قوة مدبرة من المدنية إلى الهمجية، وتعد نكسة في الخلق، وأعجوبة نصفها بشري ونصفها حيواني وحشي، وهذه هي قوة الغشمة الطامعين الذين لا يبالون شيئا في جانب قضاء أوطارهم وإظهار أنانيتهم.
وإن شئتم برهانا على أن العمل بالقوة فحسب هو خلل في الطبع، ورجوع إلى حال خلفها الإنسان وراءه ليتبدل حالا خيرا منها، فانظروا أي الناس يظهر فيهم حب التدمير، ويغلب عليهم العمل بالقوة منفردة عن الضمير. أليسوا هم الطفل والهمجي والمجنون؟ فانظروا في أي مرحلة من مراحل الخلق هؤلاء الثلاثة؛ أما الطفل فهو في أول عهده بالحياة الفطرية، وأما الهمجي فهو في أول عهده بالحياة الاجتماعية، وأما المجنون فهو مدني سلبت منه المدنية فارتد إلى الهمجية أو الوحشية؛ إذ ليس الجنون إلا نوعا من المسخ والرجعة، وآية ذلك دور المجانين، ترون فيها من يمشي على أربع تقليدا للدواب، ومن سلبت منه قوة النطق فأصبح يعوي عواء الذئاب، ويحاول الكلام كمن لم يعرف قط ما هو النطق والخطاب، ومن يأكل لحم أخيه حيا كما ينهش السبع فريسته، ويتنمر لأخيه المشفق تنمر الضيغم أخطأ قنيصته، وترون أمارات الوحشية بادية في ملامحهم ونظراتهم وإشاراتهم، فتعلمون أي مسافة بين القوة والضمير، وتهولكم هذه الهوة التي يريد الثعلب أن يسقط الخلق عامة فيها.
أرأيتم، أيها الصحاب، لو بقيت كل قوة في الأرض والسماء فوضى على نشأتها الأولى، أين كانت تكون الآن الكواكب الساطعة، والأنهار الجارية، والصناعات المعجزة، والأئمة المصلحون؟
ولو أن الثعلب ألقى خطبته هذه في مستهل الخليقة وفجر الحياة، لدن كانت كل قوة حربا على نفسها وعلى غيرها، وكان كل ضعيف قائما وحده عزلا أمام كل قوي، لما عدا الواقع ولا قال غير الحق. أما والقوة قد هجمت في ألف ناحية قبل أن تنتهي إلينا، وحاولت كل محاولة تستطيعها قبل أن تحل بنا، وعرفت جهد ما تقدر عليه إذا انفردت بنفسها، وقصارى ما تبلغ إليه إذا أعلنت حكمها باسمها، فاليوم قد اضطرت أن تلقي مقادتها لشيء أكبر منها، وخرجت من تلك التجارب مهذبة مستقيمة. ويا للعجب يا قوم! إن الذي هذب القوة وأبطل حكمها الأعمى هو القوة لا سواها.
أقول يا للعجب، ولا عجب هناك، لو أنعمتم النظر معي في الأمر، وعرفتم أن القوة إنما سلمت للحق بعد أن أذعنت لقوة أكبر منها، فكأنها نقضت شريعة القوة من جهة لتؤيدها من جهة أخرى، وما ظلمها الحق ولا غلب عليها الضعف، ولكنه نظم صفوفها وحمى الكبير والصغير منها، فحفظها من التخاذل والضياع.
معشر الأحياء:
كأني بأول قوي عرف نفسه، فاعتز بسطوته وأعجبته قدرته، وأقبل يهز سيفه على رأس الضعيف ويقول له: إنك أضعف مني، فاصدع بأمري ، وألحق وجودك بي، وسلمني زمامك، واعمل لي لا لنفسك، وإلا أبدتك وهشمتك وجعلتك ترابا لقدمي. فرعب المسكين مما سمع، وتلفت الضعفاء بعضهم إلى بعض وقد علموا بعد حين أنهم مقصودون بهذا الوعيد فردا فردا، فأجلبوا وتألبوا وصاروا باجتماعهم أقوى من أقوى الأقوياء، فكروا إلى ذلك المتمرد الجبار قائلين: إنك أضعف منا، فاصدع بأمرنا، وألحق وجودك بوجودنا، وسلمنا زمامك، واعمل لنا لا لنفسك، فإن أطعت أطعنا، وانتفعت بقوتك وانتفعنا، وإن أبيت أبدناك وهشمناك وجعلناك ترابا لأقدامنا ... فعلم القوي منذ ذلك الحين أن عليه واجبا كما أن له حقا، وكذلك نجم الحق بجانب القوة.
لا تقولوا يا قوم: حسدوه. فليس من الحسد أن يرفع القتيل يد القاتل عن عنقه.
ولا تقولوا: ظلموه. فما ظلمك من ردك إلى الحكم الذي ترده أنت إليه، ولا جار عليك من يعاملك بالقسطاس الذي تعامله به.
ولا تقولوا: أخطئوا وضلوا. فإن ما تفعله النفوس بداهة بوحي الطبائع وإلهام الحياد ذودا عن كيانها وإبقاء لجنسها وإعلاء لشأنها، لا يكون خطأ أو ضلالا، ولو جاز ذلك لكان الخطأ أصدق من الصواب، والضلال خيرا من الهدى.
معشر الأحياء:
إن كان في الدنيا شيء معصوم من الخطأ فهو فطرة النفوس السليمة، لأنها لا تريد إلا ما تريده الطبيعة لها، ولا تهم إلا بما تهم به القدرة العظيمة التي ركبتها ودعتها إلى الوجود.
سموا حنق الجماهير على العظماء كيف شئتم، فإنما هي أحرف تتغير ولا تتغير الحقائق والغايات. سموه حسدا أو أنانية أو اضطهادا أو انتقاما أو غيرة أو جهلا. سموه كيف شئتم ثم انظروا إلى الباعث وانظروا إلى النتيجة، فإن كان الباعث مستمدا من الطبع والنتيجة حفظ النوع، فغيروا لغتكم فهو أيسر وأجدى من تغيير قوانين الطبيعة وإرادة الخالق الحكيم.
انظروا إلى الأمم التي سادت فيها فلسفة الثعلب، ونسي الجماهير أنفسهم فأقروا للأقوياء بالحق المطلق في التصرف بهم، ثم أخبروني هل أفلحت تلكم الأمم؟
انظروا إلى الهند ومصر في العهد القديم، ألم يكن السوقة رجزا لا يجوز مسه في نظر رءوس البراهمة؟ ألم يكن الشعب متاعا زهيدا في نظر كهنة الفراعنة؟ أما كان ساداتهم آلهة وأبناء آلهة؟ هل تأشب بين الطبقات حجاب أصفق وأصلب مما تأشب بينها في هذين البلدين؟ فماذا أورثهم ذلك؟ هل دام لأولئك السادة بأسهم، واستتب لهم مدى الدهر مجدهم؟ كلا، بل أمن الأعلياء على منازلهم فأفسدهم البطر والدعة فسفلوا، وحجرت المسكنة على نفوس جماهيرهم فلم ينبغ منهم خلف لأولئك الأعلياء، فتهافتوا، فكانوا جميعا من الخاسرين.
والعالم - وفقكم الله - كالقدر الفائرة لا تزال تعلو وتهبط ما دام في مائها حرارة. ادخروا أعلاها وأريقوا ما دونه ينفد الماء ولا تدخروا شيئا، ودعوا ماءها يهدأ أو تستقر طباقه تفتر الحرارة وتخفت الحركة، والجماهير - أصلحكم الله - هم من كل نوع مادته وذخيرته؛ منها تتجدد حياته، ومنها يكمل نقصه، فمن قضى عليهم بالهوان الدائم فقد قضى على النوع بأسره قضاء يحيط ضرره بالأعلين والأدنين على السواء.
فها أنتم أولاء ترون أن التسليم للقوة يهزمها ويضعفها، وأن مقاومتها تشحذ سلاحها وتضاعفها، فإذا كانت رحمة القوي للضعيف الإبقاء عليه، فرحمة الضعيف للقوي منازعته، وكذلك تشمل رحمة ربكم الخلق جميعا.
ولقد يقول قائل منكم: إن المقاومة شأن الجماهير مع كل عظمة يناوئون العظيم، سواء كان جبارا طاغيا أو إماما هاديا أو مفكرا واعيا، فإن لم يقدروا على مناوأته، أضمروا له الحقد، وانطووا له على البغض، وتربصوا به الدوائر، كأن لهم ترة عنده، أو كأنه أخذ العظمة منهم وأساء إليهم بالتفوق عليهم.
أقول لهذا القائل: أصبت، ونعم ما يصنع الجماهير!
إنكم تكرهون مناوأة الجماهير للعظماء مع أنه لا تثبت لعظيم عظمة إلا بالثبات على المناوأة، وتلومون الجماهير في التريث عن تلبية النوابغ كأنهم يستطيعون أن يغيروا أنفسهم كلما خطر لنابغ منهم أن يدعوهم إلى ذلك، وهم في الحقيقة لا يتريثون عن أمر يدعوهم إليه نابغ أو مسيطر إلا لأحد سببين: فإما أنه لا يلائمهم، أو لأن أسبابه لا تتهيأ لهم، وعذرهم واضح في الحالتين؛ أليس الخير قبل أن تتهيأ أسبابه وتتمهد مواضعه شرا عاجلا أو مطلبا مستحيلا؟ فلو أنصفتم الجماهير لرأيتم في تباطئهم عن إجابة نداء النوابغ دليلا على أن الوقت لم يحن بعد لإجابته، فكم من عظيم يرى ما لا يروقه من أحوال العالم فيخاله عيبا، وما العيب إلا في تفكيره، ويتعجل إصلاحه ثم يحسب إصرار الناس عليه جهلا، وما الجهل إلا في تعجله، ويظن أن ما يدعو إليه من بدائه العقول، وما بديهة الفرد مهما عظم بأصدق من بدائه النوع برمته، فهو إذا أصاب أصاب من جانب واحد، وهم بعد لا يعرفون جانب الصواب منه إلا إذا ناوءوه، فإن ثبت أخذوا به، وإن لم يثبت فقد كان الضرر في الأخذ به لا في نبذه وإهماله؛ هذا هو محك العظمة ولا محك سواه. على أنني لا أقول للعظماء: كفوا عن دعوة الجماهير، بل أقول لهم: ادعوهم إلى ما تظنونه صلاحا لهم، ثم أقول للجماهير: قاوموهم حتى يثبت لكم أنهم أهل لغير المقاومة منكم، فمن هذا وذاك يصيب العظماء الإجلال من الجماهير، ويصيب الجماهير النفع من العظماء، ولولا ذلك لاشتبهت علينا الظواهر فخلطنا بين الجليل والحقير، والنافع والضار، والباقي والزائل.
كذلك يا قوم يصطدم الشر بالشر فيتجلى الخير، ويلتحم الباطل بالباطل فيتضح الحق، وتتزن القوة بالقوة فيظهر العدل، والخير والحق والعدل قواعد لا تقوم بغير واجب، والواجب أبو الضمير.
معشر الأحياء:
سمعتم من الثعلب أن مبادئ الخير أوهام ملفقة، مخترعها أوسع خيالا من مخترع الغول والعنقاء والشيطان، فيا لتلك القريحة الهائلة! لوددت لو تستطيع الحياة أن تنجب عقلا فذا يقدر على اختراع العدل والحق والواجب والضمير، فنفديه بنصف الأحياء! أو يقدر إنسان واحد على أن يستعرض أمامه ميادين العصور المقبلة قبل أن يماط عنها ستار الغيب، فيرى كيف تصطرع فيها القوى وكيف يراوغ بعضها بعضا، ويقتفي خططها المعوجة إلى أقصاها، ثم يتنبأ عن الخطط القويمة التي ستضطر إلى اتخاذها، فيصورها أصدق تصوير في مبادئ خالدة، مبادئ فوق ما تصف الأهواء المختلفة وتزين المصالح المتناقضة، مبادئ تصلح للنوع والفرد والقوي والضعيف والسر والعلن والحاضر والمستقبل. أيقدر على كل هذا إنسان؟ ما هذا بشرا، إن هذا إلا إله قدير.
ولكن أنصار الشر قد اعتادوا، يا قوم، أن يصفوا أنفسهم بالدهاء والحزم، ويصفوا أنصار الخير بالغرارة والتفريط، وسبب هذا الاغترار بأنفسهم أنهم ينظرون وراء ألفاظ الخير والفضيلة والذمة وما يشاكلها، فيروعهم الكفاح والخديعة والظلم والغيلة، ويحسبون أنهم عرفوا ما لم يعرفه أحد من قبلهم، ويعجبون لدعاة الخير كيف تعمى عيونهم عن هذه الشرور الملموسة والظلم الواضح، فيقولون عنهم إنهم تباع خيالات وعشاق أحلام. هذا ودعاة الخير يضحكون من قصر نظرهم مع ادعائهم بعد النظر، ويقولون لهم: انظروا وراء الكفاح والخديعة والظلم والغيلة، ألا ترون هناك غرضا واحدا عميما يشمل هذه الأغراض ويدمجها في أطوائه؟ نعم، قد يظفر الأشرار بالأخيار، وقد يموت الأخيار قبل أن يظفروا بخصومهم لقصر الحياة واتساع مجال النضال، إلا أن الخير يتغلب على الشر في نهاية الأمر، وإنما يمهله ويملي له إملاء الواثق المطمئن إلى سلطانه. الأخيار يموتون والخير لا يموت، والأشرار قد ينتصرون والشر لا ينتصر، فالنظرة الأولى أيها القوم للخير والثانية للشر، أما النظرة الثالثة فتردنا إلى خير لا كالخير الأول الذي يظهر على وجوه الأشياء، ولكنه خير واسع شامل بعيد القرار.
يقول السيد المسيح: «مثل ملكوت السموات رجل زرع في أرضه حنطة، وبينما الناس نيام دب إليها بعض عدوه فدس الزؤان في بذور الحنطة، فلما اعتم النبت وأخرج شطأه ظهر الزؤان معه، وجاء العبيد مولاهم يقولون: أولست أيها السيد قد زرعت حبا صالحا في أرضك؟ فمن أين له الزؤان؟ قال: تلك دسيسة عدو. قالوا: أنذهب فنجمعه؟ قال: لا، لئلا تقتلعوا الحنطة معه وأنتم تجمعونه، ولكن تصبرون حتى يحين الحصاد فآمر الحصادين أن يجمعوا الزؤان فيطرحوا به في النار، ثم يضموا الحنطة إلى البيدر.» •••
فالأنبياء وهم أوسع دعاة الخير بصيرة وأعمقهم نفسا وأبعدهم بديهة، لا يزعمون وهم يدعون الناس إلى الخير ويأمرونهم بالبر أنهم سيمحون الشر ويقتلعونه من جذوره، ولم يجهلوا أن الخير بالشر مختلط اختلاطا لا سبيل إلى فصله وفرزه، ولكنهم حببوا الناس في العمل الصالح لأن الناس لا يحتاجون إلى من يحثهم على العمل القبيح، وقالوا لهم: لا تنسوا غيركم، لأنهم في غنى عمن يقول لهم اذكروا أنفسكم، ولينطلق كل منكم وراء مصلحته ولو صغرت، لا يبالي أدركها قاتلا أو سارقا أو خائنا، فذلك خير له من أن تفوته بحال من الأحوال. فهل يلامون على ذلك، أو يقال إنهم غفلوا عن الشر الملموس؟ أم يلام لائموهم ويقال إن هؤلاء الدعاة العلويين لمسوا الشر البعيد الذي خفي عن أعين أولئك اللائمين؟
إنما يعمل الأنبياء على تغليب بواعث الخير على بواعث الشر، ولتعلموا أن الأنبياء لم يرسلوا إلى فلان وفلان، بل هم مرسلون إلى الناس أجمعين، فلا جرم ينصحونهم بما فيه صلاحهم جميعا، وما اجتهد الأنبياء قط في إزالة الشر، ولكنهم أنذروا الشرير بعاقبته وعلموه كيف يتجنبها، وبشروا البار بجزائه وعلموه كيف يسعى له، وعلموا أنهم سيموتون والشر والخير باقيان إلى يوم يبعثون، وأحسبهم لو استطاعوا إزالة الشر لما أزالوه؛ لأننا لا نكاد نتصور الخير في الدنيا إن لم نتصور الشر بجانبه، ولعله لا فرق بين القضاء بالموت على الناس وبين تفرد الخير بالسلطان عليهم من غير مغالبة أو مجاذبة أو ترقب نصر أو خشية خذلان.
وبحسب الخير أنه منذ اهتدى إليه الناس تراجعت القوة وتمردت النفوس على شريعتها، فأصبح أقوى الأقوياء لا يجرؤ على الاعتداء والجور باسم القوة العمياء، إلا أن يتمحل لها المعاذير، ويتذرع لها بسبب من الحق والعدل. فبطل القول القديم: اعمل ما تستطيع. وخلفه القول الجديد: اعمل ما يحق لك عمله، وعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.
ولست أعني أن القوة العمياء قد خضعت للحق كل الخضوع، ودانت له في الصغائر والكبائر، فهذا ما لا يدعيه الحق وما ينبغي للحق أن يدعي ما ليس له، ولكن عنيت أن الناس لا يسلمون اليوم بظلمها وإن اضطروا إلى الخضوع لها، ولا تقتنع ضمائرهم بشريعتها وإن لم تكن لهم حيلة في تبديلها، ويا ضيعة العالم إن سلموا! ويا سوء المنقلب إن اقتنعوا ! إذ ليس وراء ذلك إلا أن يسترخي الأقوياء فيفقدوا العزيمة والمضاء، وينزل الضعفاء عن الحياة بنزولهم عن الرجاء، فتنعدم القوة الحافزة المجددة بين هؤلاء وهؤلاء، وينهار سلم النشوء والارتقاء، إلى حضيض الموت والفناء.
فاذكروا يا قوم - أقوياءكم وضعفاءكم - أن التسليم للقوة الغاشمة يفسد القوي منكم والضعيف، وأنه لا شيء يشرف التسليم له الأقوياء كما يشرف الضعفاء غير الحق، فاجعلوه لكم قبلة وإماما، واتخذوه لكم صاحبا ولزاما.
واذكروا أن العالم لم يسلك طريق هذه الآداب وله ندحة عن سلوكها، ولم يلجأ إليها وفي وسعه الاستغناء عنها؛ لأن الطبيعة لا تملك الخيار بين طريقين، وليس لها إلا طريق واحدة هي أهدى الطرق وأقربها، بل هي الطريق التي لا طريق سواها. فإن قال لكم أنصار الشر: نحن ننظر إلى الواقع. فقولوا لهم: هذا هو الواقع أمامكم، فما لكم لا تنظرون!
ولقد خصصت الإنسان بأكثر كلامي، فلا يعتب علي عاتب ولا يتهمني منكم متهم، فإنكم لا تنكرون أن الإنسان سيد المخلوقات، وأن الصراع بين القوة والحق لا يظهر في حياة جنس من الأجناس ظهوره في الحياة الإنسانية، وأنا أقرب الخلق إليه وأعرفهم به وأعلاهم رتبة بعده ...
فلم يمهله النمر حتى يتم كلامه ورفع يده ليهوي بها عليه، فتعلق القرد بأطراف الشجر، وترك النمر الهائج يهدر ويزمجر، حتى وقف الأسد، فهابه النمر، وأصغى إليه الجمع وهم يعجبون من قوة النمر الشرس الأغم عجبهم من عجز القرد الفيلسوف عن دفعه.
وقف الأسد موقف الخطيب، وألقى على الجمع الخطبة التالية ...
خطاب الأسد
معشر الأحياء:
ربما انتظر بعضكم مني أن أتقدم إلى الترجيح بين حزب وحزب من المتكلمين بين أيديكم؛ ألا فاعلموا أن هذا ليس من شأني، وما نويت التعرض له حين وقفت للكلام، وليس كلامي الذي سألقيه عليكم متوقفا على رجحان واحد من الحزبين على الآخر، فسواء صح قول الثعلب إن العبرة بالنجح لا بكيفيته، أو صح قول القرد إن الحق ظافر بالباطل ولو بعد انهزامه، فأول الواجبات عندي على الحي أن يكون قويا، وآخر الواجبات عندي على الحي أن يكون قويا؛ لأنه لا ظفر لحق أو لباطل إلا بقوة.
وهما حالتان لا بد للحي من إحداهما في هذه الدنيا: القوة والضعف. ولئن خيرت بينهما لأختارن أن أكون قويا ظالما، ولا ضعيفا مظلوما، بل إني لأوثر أن أكون قويا مظلوما ولا ضعيفا ظالما؛ لأن القوة رائعة في انخذالها، والضعف مخز حتى في انتصاره.
ولقد أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إن الطبيعة نفسها تحب الظلم وتقلد الظالمين آلاته وأسلحته، ولولا ذلك لما كانت حيوانات الفتك والافتراس وإن صغرت، أشد وأجرأ من آكلات العشب وإن كبرت، وهاكم إخوتنا الفيل والزرافة والجمل، فإنها مع جسامة أبدانها وصلابة أركانها لا بطش عندها تفزع به أعداءها، ولا أنفة لها تنخيها عن إعطاء مقادتها لأصغر طفل من بني آدم. ولم ذاك؟ أليس لأنها تتغذى بالنبات ولا تأكل من لحوم الحيوانات؟ فكأن الطبيعة تهب الحيوان البطش والشجاعة لغرض واحد هو الاعتداء بهما، فإن لم تكن به حاجة إلى السطو وإزهاق الأرواح سلخت عنه البطش وجردته من الشجاعة، فإن بقي له بعدهما قوة فتلك قوة الصبر على البلاء لا قوة العزم على الاعتداء، قوة تحتمل الضيم من القاهرين، ولكنها لا تقدر على قهر أحد.
فيا معشر الأحياء، عليكم بالقوة لا تنيطوا لكم أملا بغيرها. عليكم بقوة الاتحاد إن تخطتكم القوة في الانفراد، وعليكم بقوة الحيلة إن أعيتكم قوة الاتحاد. إنما كونوا في كل حال أقوياء من عقاب الضعف المبرم، ولست أغلق على الضعفاء باب الأمل فيما بين الأقوياء الطامعين من فرجات الخلاف التي لا تنسد أبدا، ولكني أقول لهم أولا وآخرا: كونوا أقوياء، ثم كونوا أقوياء، يكن أملكم بأيديكم لا بأيدي الأعداء والأصدقاء.
فلما انتهى الأسد من كلامه تهيبت الحيوانات أن تعقب عليه، وظل كل منها ينتظر أن يتقدم غيره للكلام بعد الأسد ... إذ كانوا لا يريدون أن يوافقوه على رأيه وحكمه، ولا يهتدون إلى وجه الحيلة في مناقشته، وقد كانت المرأة تهم بالكلام بعد كل خطيب فيسبقها حيوان إلى الخطابة، فلما رأت سكوت الحيوان في هذه المرة، لم ترد أن تضيع الفرصة فبادرت إلى وسط الغاب وباغتت الجمع بهذا الاستهلال العجيب ...
خطاب المرأة
سبع يخطب بين السباع، وهذا السبع هو هذه القائمة بينكم الآن؛ ألم يدعني بعض الرجال سبعا جميلا؟ فأذنوا لأحد السباع أن يبسط لكم شكواه من الرجال.
شغلكم البحث في النزاع بين القوة والضعف، والغلاب بين الحق والباطل، عن البحث في علاقة هي ألصق بكم من كل علاقة، أعني بها علاقة الزوج بزوجه، فرب قوي منكم لا يعرض له ضعيف في غدواته وروحاته، ورب ضعيف لا يمنى بقوي طول حياته، على حين لا يوجد بينكم ذكر لم يسكن إلى أنثى، أو أنثى لم تسكن إلى ذكر.
ولا غرو أن سهوتم عن هذه العلاقة، فإنكم لا تبخسون لإناثكم قدرا، ولا تهضمونهن حقا، وأكثركم يكل إليهن اختيار من يعجبهن منكم، فتنتخب الأنثى من تحب وتصدف عمن تكره، فهن معكم في حال لا توجب الشكوى ولا يستحب معها التبديل.
أما نحن بنات حواء فليت لنا عند رجالنا حظوة إناثكم من ذكوركم؛ نحن نساق سوقا إلى أغراض ليست بأغراضنا، وتغمض أعيننا عمدا إلا عما يروق أزواجنا. نحن معطلات إلا عندما يشتهينا الرجال، مقصورات إلا عما يرضونه لنا من ضروب الكمال، لنا رءوس ولكنهم يقولون إنها لم تجعل للتفكير بل لإرسال الشعور، وحواس ولكنهم يزعمون أنها لأجلهم ركبت لا لإدراك الحقائق والأمور، ووجوه يلفونها في الحجاب لف الثياب في العياب، وأحداق لم تخلق لننظر بها، بل لينظر إليها الأزواج والأصحاب، أخضعتنا الهمجية بالقسوة، وأذلتنا المدنية بالحاجة، ولكن الهمجية كانت أعدل معنا وألطف بنا من المدنية، فقد كانت توقعنا في أحضان أشد الرجال أسرا وأمتنهم خلقا وأحماهم أنفا، ولم يكن أفضل لنا ولنوع الإنسان من هؤلاء الرجال في تلك الأجيال، أما المدنية فإنها تجرنا إلى فراش أوفر الرجال حطاما وأسناهم مقاما، من كل أعجف أصلف، محدودب الظهر مأفون الفكر، مرذول الخلقة والخليقة، نقبلهم لنا عشراء، ونتخذهم لأبنائنا وبناتنا آباء؛ لأنهم يجلبون لنا الطرف الثمينة، ويكفلون لنا اللهو والزينة؛ حاجات المدنية الخاوية، وعلالاتها الخاطئة الغاوية. أما حاجات الطبيعة المكتوبة في كل ذرة من ذرات أجسامنا، من رونق للصبا يرقص له قلب المرأة، ونضرة للعافية تتشوق إليها جوانحها، وخصال نبيلة وصفات رائعة وروح خلابة يسرها أن تنقلها إلى أبنائها، وأن تنجب جيلا كله مصوغ في قالبها، فقد علمتنا المدنية أن ننزلها المنزلة الثانية بعد حاجاتها، فإذا نسينا أنفسنا طرفة فتغلبت إرادة الطبيعة القهارة علينا فنلنا من تلك الحاجات نصيبنا، كان أول من يسفهنا ويهجرنا آباؤنا وأهلونا، أو نحن نحتال كي ننال منها خلسة فنغتنمها ما خفي سرنا، فإذا انكشف أمرنا للناس كان القضاء القائم بالعدل الكاذب بين الناس أول من يضطهدنا ويسمنا بميسم خزي لا يمحى.
ظلمتنا الهمجية فجعلتنا إماء للرجل نعيش في رقه ما عاش، ونهلك معه متى هلك، كأنها لا ترى لنا حياة مستقلة عن حياته، وقواما يجوز أن يستمر بعد مماته، وقد يورثنا أبناءه كما يورثهم الشاء والنعم، أو يئدنا رضيعات كأن وجودنا ضرب من التهم، وكان المعول في تلك الأجيال على العنف وبسطة الجسك فلم يخصنا هذا الظلم، بل شاركنا في أكثره كل ضعيف مغلوب على أمره، رجلا كان أو امرأة، حرا كان أو أسيرا. وكنا لا نعقل ما المساواة، بل كنا نحسب أن العدل ما يصنع بنا، فلما تعاقبت الأجيال، وحالت الأحوال، واشتدت الملاحاة بين المقهور والقاهر، وزالت الغشاوة عن الأبصار والبصائر؛ عرف المغلوبون أنهم هم الأقوياء ولكنهم مسحورون بالطلسم المدثور، وعرف الغالبون أنهم هم الضعفاء ولكنهم جالسون مجالس النفوذ والظهور، يهابهم الناس لمكانهم لا لجسارة جنانهم أو صلابة أبدانهم أو طلاقة لسانهم أو رجاحة أذهانهم، ووقف كلاهما أمام صاحبه بادي المطاعن عاريا إلا عما فيه من فضل واستحقاق، فنزع الأولون عن تلك الغطرسة، ونفض الآخرون غبار تلك المسكنة، وأصبحوا منذ ذلك الحين سواء بين يدي القانون؛ لأذلهم مثل ما لأعزهم من الصوت في اختيار الحكام ومراقبة الأحكام ... أفما كان ينبغي حينئذ أن تشمل هذه المساواة كل من كان مغبونا بالأمس، نعم ولكن هذا ما لم يكن، فقد بقي النساء مستثنيات من هذه الرحمة العامة حتى في أرقى الأمم وأعرقها مدنية. وإن تعجبوا معشر الأحياء فاعجبوا لامرأة تملك الضياع الفيحاء والرباع القوراء، والمتاجر الجوابة والمصانع الدوارة، وتسن القوانين لإصلاح هذه الأموال وحياطتها فلا تخول في سنها صوتا يخوله رجل لا يملك أصبعا من ضيعة أو لبنة من دار أو علبة في متجر أو مسمارا في مصنع؛ وتحرز إحداهن أسمى شهادات العلوم والفنون، ثم لا يسعها إلا أن تيأس اليأس كله من منصب قد يتطاول إليه رجل لم يمر في حياته بشارع فيه مدرسة. فهل حال أعجب من هذه الحال فيما تعلمون؟ أنبلى بسيئات الهمجية ثم نحرم حسنات المدنية؟ فأين إذن يكون إنصافنا؟ ومتى نخلص من أسرنا؟
أسألوا هؤلاء الرجال معشر الأحياء: أيستكبرون على أمهاتهم وأمهات أولادهم حقا ناله خدامهم وأجراؤهم؟
إنهم لا يدعون أنهم أجمل منا استواء خلق، وأكمل منا هندام شكل، ولو أننا ادعينا ذلك لما كان منا بدعا في الادعاء، ومع هذا فنحن لا نزعم أن كل امرأة أجمل من كل رجل، فما بالهم يزعمون أن كل رجل أعقل وأحزم من كل امرأة؟
على أننا لا نذكر أن المجال اتسع لنا مرة لمجاراة الرجال فيما يباهون به من أعمال العقل والحزم، فقصرنا عن شأوهم ولم نفر فريهم، فمنا نساء الحرب اللواتي كن يقاتلن مع الرجال كتفا لكتف؛ نضحا عن أوطانهن ومحاماة عن بعولتهن، ومنا الشواعر والرياضيات والكواهن والملكات والبواحث والطبيبات، فإن كان عدد هؤلاء لا يضاهي بعد عدد أمثالهن من الرجال فليس هذا من خطئنا، وإنما هو خطأ الرجل الذي أهمل فينا تلك المواهب وشغلنا بما هو أحط منها شأنا وأقل نفعا، موافقة لأهوائه ومرضاة لكبريائه.
ونحن بعد أصلح للحياة الاجتماعية لما ثبت من ندرة الجرائم بيننا في جميع الأمم، وأصح تركيبا ومزاجا لما تقرر من قلة الوفيات منا في الطفولة والهرم، فنحن غبينات إن رضينا بهذه القسمة الضيزى، نحن خليقات بالغبن إن لم نطالب لأنفسنا بخير منها، وها أنتم أولاء مجتمعون ههنا لتبعدوا أسباب التخاصم وتقربوا وسائل التفاهم، فهلا أهبتم بالرجل أن امنع الغبن من بيتك قبل أن تمنعه من الدنيا، وارفع الصغار عن أمك وزوجتك قبل أن ترفعه عن الناس؟ إنكم لا شك فاعلون.
وجلست المرأة وهي توهم نفسها أن إناث الحيوان ستهب على الفور للأخذ بناصرها، فلم يحصل شيء من ذلك، ونظرت كل أنثى إلى صاحبها وهي تبتسم ابتساما لم يعزب عن السامعين مغزاه. ثم بادر الرجل فقال ...
خطاب الإنسان
معشر الأحياء:
كنا نحذر كل الحذر من يوم تصل المرأة فيه إلى نصيب ولو قليل من الحرية، فتنظر إلى نفسها بعين المعجب المفتون، كما كانت تنظر إلى وجهها بهذه العين آلافا من السنين؛ لأننا نعلم أن المرأة شديدة الطيش والغرور، لا تنال القليل حتى تطمع في الكثير، ولو أنها حرمت كل شيء لما طمعت في شيء ما، ثم هي لا تجد ما يساعد غرورها حتى تذهب فيه أبعد مذهب، ولا ترى مسألة مهما ضخمت أكبر من أن تخلطها بسفسافها وألاعيبها.
قامت المرأة بينكم اليوم تطالب بشيء ليس من ضروريات حياتها، ولا هو مما يلزمها لأداء وظيفتها الطبيعية، وإنما نراها تطالب بضرب جديد من الزينة سمعت باسمه فتعلقت به كما يتعلق الطفل بما يسمع عنه ولو كان مقره وراء النجوم، فلا تصدقوا معشر الأحياء أن المرأة تطلب الحرية لأنها تفهم الحرية، ولكنها تطلبها كما تطلب قرطا نفيسا أو ثوبا من الزي الأخير، ولو صبغنا لها الحرية باللون الذي ألفت به الاستعباد لما استطاعت أن تميز بين هذين النمطين من الثياب، ثياب النفس لا ثياب الجسد!
إنكم قد اجتمعتم هنا لتتشاوروا في أمر ليس أجل منه ولا أصعب، اجتمعتم للنظر في مسألة الحياة كلها ومعضلة الخلق أجمع، فما كان يدور لي في حساب أنني حين أتقدم للخطابة بينكم أجد نفسي أمام حماقة من حماقات المرأة المعهودة، ولكن ما العمل وهذه الحماقة لا تفارقها في موقف من المواقف؟! حدثها عن كواكب السماء تقل لك ما أحلاها! إنها تشبه اللعبة التي يلعب بها ابني أو ابنتي ... وهي تدخل في كل أمر مطالبها التافهة التي يخيل إليها أن الوجود يدور على محورها، ولا ينبغي للناس أن يأبهوا لشأن من شئون الدنيا غيرها.
لقد طالما صبرنا أحقابا مديدة على حماقات المرأة صبر المرء على شيء لا مهرب منه، ولا بد لنا أن نصبر بعد على ما يمتحننا به الله من هذه البدعة التي جاءتنا بها في هذه العصور الحديثة. نصبر على كل حماقة إلا قولها إنها قد أصبحت فجأة - ولا ندري كيف؟ مثلنا في كل حق وواجب، لها ما لنا وعليها ما علينا، وإنها اليوم لن تحل في الهيئة الاجتماعية محلا أوضع من محلنا، أو تتجاوز عن حق نحن نتمتع به دونها؛ هذا لا نطيق الصبر عليه أو تطيق هي أن تكون رجلا وامرأة في آن واحد، ونطيق نحن أن نكون لا بالرجال ننفرد بحقوق خاصة للرجولة، ولا بالنساء نخلف المرأة في وظيفتها التي تريد أن تتخلى عنها.
أي مساواة للرجل تدعيها المرأة وهي إلى اليوم لا تجاريه في صناعة الطهي لو شاركها فيه؟ فما اشتغل رجل وامرأة بهذه الصناعة إلا برعها واستحق أضعاف أجرها، مع أنها قضت الدهور والأجيال لا عمل لها سوى طهي الطعام، واشتغل الرجل في هذه الدهور والأجيال بكل الأعمال سوى هذا العمل.
لا فرق يا قوم بين أن تقول المرأة: إنها مثل الرجل في كل شيء، أو تقول: إنها أرجح منه وأكمل؛ فلو سلمنا لها أنها قادرة على أن تجمع صفات الأنوثة من لطف ووداعة وعطف وملاحة واستعداد للحمل والحضانة، إلى صفات الرجولة من همة وعزم وحكمة وحزم وأخلاق متماسكة وطبائع نزاعة ومواهب متنوعة، فهل يقدر الرجل على أن يجمع مثلها بين هاتين المزيتين؟ إن كان الجواب (لا)، وهو حتم لا مراء فيه، فما بالها زادها الله تواضعا تقنع بمساواة الرجل ولا تدعي التفوق عليه؟ وهي امرأة ورجل معا وهو رجل فقط؟ أليست هي حينئذ أجدر بأن تتولى السيادة في ميدان هذا العالم الكبير فوق سيادتها في عالم الحجال والمقاصير ؟
لو قام رجل فادعى أنه يستطيع أن يزاحم المرأة في الولادة والرضاع، لقام في وجهه مكذب من تركيب الجسم ونظام أجهزته وأعضائه، أما صفات الرجولة التي قدمناها فليس لها جهاز خاص ظاهر للنظر أو لعلم التشريح، فلذلك ظنت المرأة أن ادعاءها الحزم وسعة العقل وقوة الطبع أيسر عليها من ادعاء الرجل الاستعداد للحمل والرضاع، مع أن الأمرين بمنزلة واحدة من الصعوبة والاستحالة، وكل ما بينها من الاختلاف أن مزية المرأة في التركيب الجسمي ظاهرة للحس، وأن مزية الرجل لم تظهر بعد في شكل خصوصية جسمانية، على أن هذا لا ينفي أن آثار هذه الخصوصية تظهر في أعمال الرجل ومراميه، وإن لم تظهر أعيانها في أعضائه وجوارحه. هذا إذا كابرنا مكابرة المرأة وقلنا إن الرجل والمرأة فيما عدا الحمل سواء في كل صفة جسمية، ثم جاريناها في القول بأن ما يبدو بينهما من الفروق حتى في هندام الجسم وهيكله الظاهر، إنما هو عبث لا يشير إلى حد طبيعي بين عمليهما في الحياة.
ولقد والله أنصف (أنا كريون) المرأة حيث قال - وهو أسبر الناس لسرها وجهرها، وأخبرهم بحولها وحيلتها: «إن الطبيعة الحكيمة قد وهبت الثيران القرون، والجياد الحوافر، وجعلت للأرانب سوقا دقيقة سابقة تنجو بها، وللأسود نيوبا حديدة قاطعة تمزق بها فرائسها، وقد علمت الأسماك كيف تنفتل في الماء، والأطيار كيف تنجدل في الهواء، والرجل أودعت قلبه الشجاعة والبأس، أما المرأة فلم تجد عليها بشيء من كل ذلك، فبم جادت عليها؟ بالجمال ... الجمال سلاح المرأة ومغفرها، فمن عرفت من النساء كيف تعمل هذه الشكة السابغة، فإياك إياك من سلطانها، فالسيف والنار بعض أعوانها ...»
وليس هذا القول من قبيل المجاز؛ لأن حقيقته محسوسة بارزة للعيان، فالجمال في المرأة كالسيف في يد الرجل، وكثيرا ما صارع الجمال السيف فثلمه وفل حده وأخذ بمقاده، ولا عار في الانهزام أمامه؛ لأن في هذا الانهزام انتصارا للطبيعة، والمهزوم أمام سلاح الطبيعة غير مغلوب. ما بال المرأة جهلت قدر هذا السلاح في هذا الزمان؟ وما بالها تراه لا شيء عندها في جنب قوة الرجل؟ هل يعجب المرأة الجميلة أن تخلع الجمال وهي امرأة لتتقلد السيف؟ إنها لا تستحق حينئذ حب الرجل وهيامه؛ لأنها عدو له يغلبه بسلاحه أو يزاحمه في مفاخره، ولا تثير شغف المرأة وإعجابها، لأن المرأة لا تشغف بامرأة مثلها؛ ألا فلتعلم أن المرأة المترجلة تصول بسلاح غير الذي قلدتها الطبيعة إياه، فهي لا تصل بهذا السلاح الصناعي إلى غرض من أغراض طبيعتها، وهي خاسرة بما لها من مزية على سائر النساء وليست برابحة، فما حظها في هذا الخسران؟
أيتها المرأة، قد أصغر هذا الزمان سلاحك في نظرك، فهل تظنين أنه أنصف الرجل؟ كلا، ما نصيب الرجل من زماننا هذا إلا كنصيبك، وما ظلمك هذا الزمان بشيء إلا بعد أن ظلم الرجل بأضعافه. إن العيوب الاجتماعية التي أصغرت سلاح الرجل الطبيعي في نظره، وجعلت الدينار فوق الأخلاق والمواهب والقوى، هي العيوب التي جعلت المال فوق جمالك وفتنتك، فلا تحسدي الرجل على قسمته ولا تزاحميه في شقوته، بل عاونيه على الرجوع إلى حالة ترغبينه فيها لشجاعته وقدرته ومزاياه، لا لقصوره وضياعه، ويرغبك فيها لجمالك وشمائلك لا لميراثك ورتبة أبيك.
أيتها المرأة، ارجعي إلى أعماق نفسك، هل تجدين نعمة من النعم تسرك كما يسرك الجمال؟ هل تصبين في نفسك إلى غرض أحب إليك من تملك قلب الرجل؟ فبماذا تملكينه؟ أبالعلم والفلسفة والصناعة؟ لا بل بالطبيعة ... بالجمال سلاحك وعدتك، وكل جمال لا يبلغك هذه الأمنية جمال عقيم لا تنتفعين به ولا تغبطك عليه أترابك.
أيتها المرأة، كأنك قلت منذ هنيهة متباهية: أنا أجمل من الرجل ... نعم، أنت أجمل من الرجل في عين الرجل، أما في عين أختك فأقبح رجل أجمل منك وأحب إليها، ولو كنت تمثال الزهرة حسنا وحوراء الجنة شبابا، فلا تظني أنك كنت تتحلين بهذه الحلية لو لم يردها الرجل لك، أليس جمالك الأنثوي هو الثوب الذي أعجب الرجل أن يراه على جسدك قد ألبسك إياه فلبسته؟ وهل أنت التي تحبين هذا الجمال لنفسك أم هو الذي يحبه لنفسه؟ وهل كنت ترين مسحته على وجهك ورواءه على أعضائك، أم هو كان يراه فيختار منه ما يحلو له فيبقى عليك، ويزهد فيما لا يلائمه فيزول منك؟
أيتها المرأة، لا تقفي بثوب العرس تقولين للرجل إن ثوبي أفخر من ثوبك، فإنه هو الذي أهداك إياه، ولو لم يعجبه لما أعجبك!
معشر الأحياء:
قالت المرأة بين أيديكم إن الرجل يظلمها إذ لا يرى لها من المحاسن إلا ما يروقه، فإن كانت المرأة تعد ذلك ظلما، فهو العدل جد العدل في حكم الطبيعة.
نعم، نحن نشنأ المرأة المترجلة، ولكنا لا نشنؤها اتباعا لنزوات الشهوة الطائشة أو التماسا للذة العاجلة، ولو فرضنا أننا نشنؤها لذلك، أفلا يعوزنا أن نعرف لم كانت خصال الأنوثة في المرأة ألذ للرجل وأجلب لاستمتاعه من الترجل وخشونته؟ وما دام الرجال كلهم مجمعين على شناءة المرأة المترجلة، ألا يشير ذلك إلى أن في باطن هذا الهوى سرا فوق إرادة الرجل والمرأة جميعا؟
نحن نشنأ المرأة المترجلة لأن الطبيعة علمتنا أن نشنأها على الكره منا، الطبيعة تبذل لكل جنس ولكل نوع من المزايا ما يحتاج إليه، وتحرمه ما هو في غنى عنه. الطبيعة تقسم هباتها بميزان دقيق لا يختل قيد شعرة، والطبيعة هي التي تحببنا في المرأة الخفرة العروب، فسبيلنا أن نعلم من ذلك أن هذه المرأة الخفرة أجمع لصفات الأنوثة من سواها، وأن خلوها من صلابة الرجل وخشونته دليل على أن صفات الأنوثة ملأتها وحافت فيها على صفات الرجولة، فهي لذلك أوفى بغرض الرجل من كل امرأة أخرى، وهي أصلح لغرض الطبيعة الذي تريده منها ومنا، وأي غرض لها من النساء إلا أن تجعلهن أمهات صالحات لولادة أحسن النسل وإفراغ البنين في أحسن قالب؟ فكان الرجل إذا بصر بامرأة مترجلة أدرك بالغريزة أن رجولتها تحيف على أنوثتها، وأنها لا تليق أن تكون أما لأولاده، فنفر منها قلبه واجتواها طبعه، وقد يألف عشرتها ولكن كما يألف صديقه أو صاحبه، لا حليلة أو حبيبة.
لم تنفر المرأة من الرجل المتأنث المترهل؟ أليس لأنها تعرف بفطرتها أن استجماعه لأوصاف الأنوثة ناقص من أوصاف الرجولة التي تنشدها فيه؟ فما لها إذن تلوم الرجل على كراهية المرأة المترجلة كما تكره هي الرجل المتأنث؟ وما هو الظلم الذي تشكوه منه ما دام كلاهما مسوقا إلى غاية واحدة؟
إنكم ربما وجدتم المرأة تخوض في بحار الثروة، وتلعب بصولجان السلطة، وترفل في سرابيل الجاه والسمعة، فإن فقدت مع هذه النعم شيئا من شمائل المرأة التي يحبها الرجال في النساء كالملاحة والخفر والطراءة والظرف والولادة والحب، حزنت لفقدانه حزنا لا يعادله سرورها بتلك النعم الجليلة التي لا يتوق رجل من الرجال إلى أعظم منها؛ لأن شمائل المرأة أرسخ في تكوينها وأقر لعينها من هذه المطامع والجدود، وقد لا يسرها أن تكون أحسن من أحسن رجل إن لم تكن أحسن من أحسن امرأة، بل هي متى وثقت من أنها أحسن النساء لم تبال أن يرجح عليها أحقر رجل تحت السماء. يروى أن الملكة الياصابات لما نقل إليها أن ملكة إيقوسية وضعت ولدا وسيما، قالت لمن حولها بغم وكمد لم تحاول إخفاءهما: «ها قد أصبحت ملكة إيقوسيا أما لولد وسيم، وأنا بعد ذلك الشيء المقفر العقيم.» وما أدراكم ما الياصابات؟ هي أذكى الملكات في العصور المتأخرة، وأكيدهن وأرشدهن وأعرفهن بالحكم. أنتج رأسها لما عقم بطنها، ونضجت فيها الملكة لما تعطلت فيها المرأة، وحيي طمعها لما مات قلبها، فعاشت وماتت وهي تعزي نفسها بما قالته لمجلس النواب يوم اقترح عليها الزواج: حسبي أن أعيش وأموت فيكتب على قبري: «هنا مثوى الياصابات الملكة البتول»، ولكنكم رأيتم كيف كانت حسرتها على البنين وهي أم السلطة والمال.
تذكرنا المرأة بالمساواة الحديثة، وقد تعني بها مساواة الانقلاب الفرنسي، فحبا وكرامة نحن لا ننسى مبادئ هذا الإنقلاب الجليل، ولكن المرأة نسيت أن تبين لنا هل كان الانقلاب الفرنسي انقلابا اجتماعيا أو انقلابا طبيعيا؟ وهل كانت غايته تحويل مواقف الطبقات أو نسخ خواص الأجناس والمخلوقات؟ فأما وقد علمت وعلمنا أنه انقلاب اجتماعي فحسب، فلتعلم أنها قد نالت من هذا الانقلاب ما ينبغي أن تناله من المساواة حسب مركزها الاجتماعي، فمالها اليوم موفور، وأمنها مضمون، وحقها يصونه القانون كما يصون حقوق الرجل. أما أن الانقلاب الفرنسي يبيحها الخروج عن جبلتها، وأن لا تلد، وأن لا ترضع أولادها، وأن تهجر المنازل إلى الدواوين؛ فهذا ما لا يفعله هذا الانقلاب، وإنما هو يحتاج إلى انقلاب في جسم الطبيعة يقلب عاليها سافلها، والعياذ بالله!
معشر الأحياء:
هل لكم في فكاهة أسوقها إليكم مما أحفظه من حكايات القدماء ... يحكى أنه فيما سلف من الزمان، وقف جماعة من أهل الفضول على ساحل البحر اللجي، والسابحون في غمرته تتقاذفهم أمواجه، وتنفغر تحت رءوسهم فجاجه، فيهوي فيها الغريق تلو الغريق، وهم يرون الطريق إلى الساحل ولا تنفتح لهم الطريق، فأومأ أولئك الفضوليون بعض لبعض يقولون: تالله لنحن أمهر في السباحة من هؤلاء السابحين؛ إذ نحن لا نغرق وهم يغرقون ... أليس هذا أيها الإخوان مثل المرأة والرجل إذ تقول له إنها أصلح منه للحياة الاجتماعية لأنها أقل منه جرائم وأسلم جانبا؟ ما للمرأة والجرائم وقد أعفاها الرجل من مضانك الكدح، وكفاها مئونة النزول في زحام الحياة؟ شاطرها ماله وجاهه وقاسمها سعادته وصيته، وهي في كسر بيتها لم تشمر معه ذيلا ولم تجرد سيفا، وهبوها كانت بحاجة إلى الجرائم، فمن أين لها القلب الذي به تجترئ، والساعد الذي به تصول؟ والحق أن المرأة ليست بأسلم جانبا من الرجل كما تقول؛ لأنها أميل منه إلى الشحناء والشجار، فربما اتفق مائة رجل على الخطب المتفاقم الجسيم، ولم تتفق امرأتان على الهنة الواهية الطفيفة. ولقد أغناها عن أن تكون مجرمة بنفسها أنها تجرم بيد غيرها؛ لأن أكثر الجرائم إنما يقع بسببها ولأجلها، فهي تدرك ما تشاء من الجريمة دون أن تحتمل تبعتها، وقلما تقع مصيبة كارثة إلا كان وراءها وطر لامرأة تقضيه بيد المجرم بعيدة عما يتعرض له من العقاب، وهي وإن كانت أقل من الرجل عيثا وإجراما، فما هي بأقل منه خطايا وآثاما، فلها من الجريمة أخس الجزءين وأضعف الجانبين؛ لأنها تشارك الرجل في خبث النية، ولا تشاركه في القلب الجريء واليد القوية. والرجل قد يفعل فعلته مغمض العين بباعث الغضب أو الألم، فلا يهمه آلمت غيره أو لم تؤلمه، مثله في ذلك مثل السبع الذي يوثبه الجوع إلى قتل الفريسة وهو لا يسيء النية بها، أما المرأة فالإيلام همها الأول، والنكاية عندها غرض مطلوب لا زيادة عارضة، وذلك لؤم معروف في الضعفاء لا يخجلون منه لأنهم يجهلون مكانه من الفسولة والرداءة.
ولقد نرى أن المرأة ما برحت أبعد عن أوضاع المدنية وفروضها من الرجل. مثال ذلك أن المرأة كما يعلم الخبيرون تؤتمن على كنتها وقد لا تؤتمن على بنتها؛ لأنها لا تبالي من أي الرجال تلد بناتها، ولكنها تبالي كل المبالاة أن تلد كنتها من غير ولدها؛ وذلك لأن الطبيعة لا تندبها لغير إنتاج الذرية، سواء كان إنتاجها على حكم العرف أو على ضد حكمه.
ولا نتكلم عن رعاية الحدود والواجبات؛ فقد عرف الناس أن المرأة في ذلك كالطفل تتشبث بما تروم، وتولع بما ترضى وتشتهي، ولو كان لغيرها فيه حق مهضوم.
وثم فكاهة أخرى أيها الرفاق مما أحفظه من حكايات القدماء ... فقد قيل: إن النبات صاح بالحيوان عام كذا وكذا قبل ميلاد آدم عليه السلام، فقال بصوت سمعه الثقلان: أيها الحيوان، أنا أصح منك مزاجا وأقوم تركيبا؛ لأنني أطول أعمارا وأثبت في الأرض قدما، فمني ما يعمر خمسة آلاف سنة، وليس منك ما يناهز المائتين! فلم ينشب أن صاح بهما الجماد من ورائهما قائلا: بل أنا أصح من كليكما لأنني أعمر أدهارا لا تعرفون ما أوائلها وما أواخرها، إلى آخر ما قال ... أليست هذه أيها الرفاق حكاية المرأة والرجل حين استدلت بطول العمر على صحة التركيب واستقامة المزاج؟ لا ننكر أن العلماء لاحظوا في الزمن الأخير أن النساء أطول أعمارا من الرجال، وأن الوفيات بين البنين أكثر من الوفيات بين البنات، ولاحظوا أيضا أن الأولين أنشط وأصعب مراسا من أخواتهم، ولكنهم لم يهتدوا إلى تعليل بات لهذه الحالة، فمنهم من عللها بأن رءوس المواليد الذكور أكبر من رءوس الإناث، فلذلك كانت ولادتهم أصعب والخطر عليهم أثناء الولادة أشد ... ومنهم من عللها بأن النساء لا يتعرضن للمتاعب ولا يتجشمن المعاطب، فلا يسرع الموت إليهن إسراعه إلى الرجال، وهما تعليلان وجيهان في هاتين الحالتين. أما في حالة الطفولة فلا نسمع بتعليل مقنع مقبول، ولا يعجبنا رأي القائلين بأن علة الموت الكثير في البنين قلة غذائهم، وأنهم لا يصيبون من الغذاء ما يصيبه البنات، فإننا لا نفهم لماذا يأخذ البنون كلهم دون كفايتهم من الأكل، ويستوفي البنات كلهن كفايتهن منه. أليس في المسألة سبب آخر؟
نعم، سبب ذلك فيما نرى مرتبط بتفاوت سن البلوغ بين الجنسين، فالجارية تراهق قبل الغلام، والمرأة تستكمل نماءها قبل الرجل؛ لأن وظائف بنيتها أقل من وظائف بنيته، فهي تبلغ حدها الأوفى وهو لما يبلغه لتشعب جهات قوته واختلاف خصائص بدنه، وكذلك يكفي غذاء الطفلة لوقاية جسمها من الآفات؛ لأنه ينصرف إلى جهة واحدة وهي إشباع الجسم، فتكون أسرع نموا وأمنع على الأدواء بنية، أما الطفل فلا يكفيه غذاؤه؛ لأن بعضه ينصرف إلى إعداد قواه العقلية والنفسية التي يتفوق بها الرجل على المرأة، فيكون نصيب جسمه من غذائه وإن كثر أقل من نصيب الطفلة من غذائها وإن قل، ويغلب أن ينصرف غذاء الطفل إلى توثيق الأعصاب والعضل، وينصرف غذاء الطفلة إلى تربية الأنسجة اللحمية وإصلاح الدم، ولا يخفى أن النشاط والإرادة من أعمال الجهاز العصبي، وأن الوقاية من الأمراض ومقاومة جراثيمها من أعمال الدم والأنسجة، فلا جرم كان الولد كما لاحظ أولئك العلماء أنشط وأصعب مراسا، وكانت البنت أمنع بنية وأغضر جسما.
وكأننا أيها الرفاق قد وصلنا من هذا التعليل إلى نتيجتنا التي نكررها وندعمها، وهي أن الفرق بين الرجل والمرأة أصيل مستسر يبدأ منذ سن الطفولة الأولى، ولئن قلنا فيما مضى إن مزايا الرجل لم يظهر لها في التشريح خواص بدنية محسوسة، فالآن يسوغ لنا أن نقول إن هذه إحدى خواصها الباطنية التي تبين لنا أن الرجل يتغذى بالحزم والشجاعة ورباطة الجأش في طعامه؛ وأن المرأة لا تكتسب مزايا الرجولة أو تستطيع أن تهتدي بنيتها إلى وجوه النماء وترشد غذاءها إلى مجاريه في عروقها، وأن القدرة التي خلقت الرحم في جوف المرأة هي القدرة التي خلقت العقل والبأس في رأس الرجل ونفسه، وبثت الهمة والاستعداد لكفاح الحياة في جسمه.
ولو لم نصل إلى هذه النتيجة من هذا الباب لوصلنا إليها من كل باب سواه، فما نظن عاقلا يتصور أن الاختلاف بين الرجل والمرأة في التركيب لا يستلزم اختلافا بينهما في الاستعداد، من شأنه أن يفرد كلا منهما بعمل مستقل في الهيئة الاجتماعية. هذا ما لا يجوز في العقول، ولله در تنيسون حيث يقول: «خلق الرجل لنيران الوقائع، والمرأة لنيران المواقد، وخلق الرجل للسيف والمرأة للإبرة، وخلق الرجل برأس مدبر والمرأة بقلب عطوف، وخلق الرجل للأمر والمرأة للطاعة. وما عدا ذلك خبط وهراء ...»
فإذا غمت علينا أيها الرفاق مقاصد الطبيعة، وتشابهت علينا الأمور، فلم نعرف في حاضرنا أسائرون على صراط الطبيعة أم ناكبون عنه، فليكن لنا من حالة الرجل والمرأة مقياس لا يغلط ولا يكذب، ولننذر الأمة التي تكون فيها المرأة مرأة والرجل رجلا بأنها ناكبة عن صراط الطبيعة السوي، وأنها حقيقة بأن يحيق بها عقاب الذين ينكبون عن هذا الصراط، وهو الاضمحلال والفناء. •••
والآن وقد فرغنا من حساب المرأة، فلنرجع إلى ما كنتم فيه.
معشر الأحياء:
صدق الأسد حيث يقول إن الواجب الأول والأخير على كل حي أن يكون قويا؛ فهذه حقيقة لا تتغير، سواء أكان العدل هو الغالب على الدنيا أم الجور، وسواء أكانت العاقبة للمتقين أم للظالمين. ولو فرضنا كما يفرض الواهمون أن التقوى عمت هذه البرية حتى أصبحوا لا يستحقر قويهم ضعيفا، ولا يخشى ضعيفهم قويا، فأين من يؤامن غيره باختياره، ممن لا يأمن على نفسه إلا بعفة في غيره.
وصدق القرد حيث يقول إن الأخلاق قوة فوق القوة؛ إذ أي شيء يغل يد القاهر المنتقم عن عدوه بعد أن تتمكن من عنقه، إلا قوة عليا فوق قوته الدنيا؟ أليس العفو والحلم والصبر وما شاكلها من الخصال، هي القوة التي لا يحمد على الخضوع لها إلا القادرون؟ هل يوصف بالعفو والحلم الضعيف؟ كلا، وإنما يوصف بهما القادر الذي تغلب نفسه نفسه، وأي شيء أجمل من أن يكون الإنسان مزيجا من قوتين إحداهما رقيبة على الأخرى؟ فيملك قوته ولا يدعها تملكه فتسخره كالآلة الصماء؟
وصدق الثعلب حيث يقول إن مصالحنا الخاصة أظهر لحواسنا وأقرب إلى أهوائنا من المصالح العامة، ولكنا نقول: إنه حيثما وجد شيء يسمى أمة، فلا بد هناك من شيء يسمى مصلحة الأمة، ولعمري كيف تقوم هذه المصلحة إن لم تقم برعاية أبناء الأمة لها؟ وهل يقال إن هذه المصلحة قائمة إن كان أبناء الأمة يعبثون بمصلحتها كلما عنت لهم فائدة قريبة؟ إذن لا علامة على وجود الأمة قط، وإنما هم آحاد مبعثرون وجسم مفكك لا تدب في عروقه روح مؤلفة، ولا تشده بنية موصولة، ولا تعمل أعضاؤه بإرادة واحدة. وكما أن الرأس إذا أصابته ضربة مؤلمة ارتفعت اليد إليه من تلقاء نفسها لتحمل عنه ألم الضربة، كذلك يجب أن تكون الأمة التي تشبه في مجموعها مجموع أعضاء الجسم الشاعر الصحيح، يجب أن تنغرس في كل فرد من أفرادها غريزة تدعوه إلى تقديم نفسه لاحتمال الأذى متى تعرضت مقاتل الأمة لخطر من الأخطار، ولهذا تكثر الأريحية والمفاداة بالمآرب الخاصة في الأمم الحية القوية، وتكثر الخيانة والجشع وعبادة المنافع في أيام انحلال الدول وتدهورها.
إن الثعلب ينظر إلى الفرد وحده؛ فلو أننا نظرنا مثله بهذه العين الضيقة لغبطنا الرجل على فوزه، ولو وفق إليه بالإسفاف والخداع والاحتيال، ولكنا متى نظرنا بعين الأمة لم نجد قط أمة تغبط أخرى على مصلحتها الضائعة بين مصالح أفرادها المتدابرة، وحياتها التي يزهقها أبناؤها قبل أعدائها، فإن لم نقدر على أن ننظر بهذه العين، فذلك آية على موت روح الأمة فينا، أو على أن الأمة قد شارفت الهلاك، وفي هذه الحالة يجوز لنا أن نسخر من الحق، ونهزأ بالضمير، ونتهكم على العدل، ونقصر في الواجب، فإن الميت لا يأسى على الجراح، والغريق لا يحذر البلل.
وأزيد على ما تقدم أن مبادئ الحق الخالدة متجددة، وأن المصالح بائدة متقلبة. الحق مرتبط بحياة الإنسانية، والمصلحة مرتبطة بحياة الفرد، فلو أننا أخذنا اليوم في استئصال الحق فمحونا مدلولاته من الكتب، وحذفنا أسماءها من اللغات، وحرمنا على الناس تخيلها والتفوه بها، لما لبثوا جيلا أو أجيالا حتى يثوبوا فيخرجوها من حيث أخرجوها أول مرة؛ لأن الإنسانية كلها لا تستغرق نفسها في حزب فذ أو عصر واحد، ولا غنى لها عن ركن تعتصم به على تداول الأحزاب وتقلب العصور.
لا الإنسانية - أيها الرفاق - ولا القوة نفسها تستغني عن الحق، فأي قوة أعظم وأرهب من القوى التي أعدتها أمم أوروبا في هذه الأيام ليظفر بعضها ببعض؟ ملأت الأمم البرور والبحار والأجواء نارا وحديدا، واستنفدت رجالها وأموالها، وتركت مضاجعها وأعمالها، والتفتت إلى إعداد القوة، فجمعت في حرب واحدة ما لعله لم يجتمع في حروب العالم أجمع، ومع ذلك لم تكف أمة منها عن درء وصمة الظلم عنها، والجهر بأنها مسوقة إلى الحرب على الكره منها، وأنها لم تأت إلا حقا، ولم تعمل إلا أمرا واجبا! فإن كان الحق وهما كما يقول الثعلب وأشياعه، فما حاجة الأمم إلى الاستعانة بالأوهام؟ أليس هذا برهانا على أن القوة لا تستغني عن مؤازرة الحق ولو بلغت غايتها، وأفرغت وسعها في استتمام وسائلها؟
نعم معشر الأحياء، إن الإنسانية كلها تنصر المحق على المبطل، والإنسانية كلها تميل إلى المظلوم وتكره المعتدي، ولسنا ننكر أن الإعجاب بالقوة كثيرا ما يطغى في صدور الناس على حب الحق، ولكننا نقول إنهم إنما يعجبون بالقوة ريثما تأخذ حقها من العظمة؛ ثم يكرهونها ليعجبوا بقوة أخرى أحق بالعظمة منها. هم ينصرون القوة الحقة على القوة الكاذبة، ويكرهون أن تنخذل القوة ظلما وهي خليقة بالانتصار، فلا ضير على الحق في الإعجاب بالقوة؛ لأن الحق لا يكون في جانب قوة واحدة أبد الزمان، ولا تنسوا يا قوم أن الإنسان قد يعجب بالقوة وهو يحبها، وقد يعجب بها وهو يبغضها، فهو يحبها إذا اعتقد أن الحق معها، ويبغضها إذا اعتقد أنها على غير حق، فأي ضير على الحق في ذلك؟ أليست القوة حقيقة بالإعجاب؟ إنه يعجب بها! أليس الجور حقيقا بالبغض؟ إنه يبغضه! فلا تسرعوا إلى اتهام الفطرة الإنسانية في ميولها، فإنها متى اتفقت على ميل ما لم تحد فيه عن الصواب.
ولا أخفي عنكم أيها الأحياء أن الحق لفظة شائعة ليس لها مفاد معين محدد، فلقد نعلم ما هو الحق في هذه المسائل الصغيرة التي يتناوبها الناس في معايشهم آنا لهذا وآنا لذاك، فأينما عرفت هذه الحقوق فيجب وجوبا لا مثنوية فيه أن تنزه عن اللي والبخس، وتوضع بمعزل عن المحاباة والهوادة، فإنه ليس أقتل للهمم ولا أفسد للأخلاق ولا أكسد للمساعي والأعمال من شعور قوم بضياع الحق بينهم.
بيد أننا قد نجهل وجوه الحق المطلق المشرف على الوجود بأجمعه؛ لأن هذا الوجود لا يكاد يبين لنا حكمته فيما كان، فكيف بما سيكون؟ وكأي من نهضة كبرى شغلت التواريخ، وصعدت بأناس إلى أفخم مقاوم السؤدد، إذا كشفناها تكشفت عن عميم من المساوئ والأوضار، وألفيناها منطوية على كثير من الكذب والجهل والاقتسار، فإذا نحن قسناها بما نتحاكم إليه من مبادئ الحق اليومية، لاحت لنا كأنها عمل باطل من البدء إلى النهاية. وما خلت قط نهضة دينية أو اجتماعية من هذه الأشياء، فكيف تكون نهضات الإنسانية كلها باطلة مزيفة؟ وعلام المعول إذن في الاهتداء إلى هذا الحق أيها الرفاق؟
ثم إننا نجهل الغاية من تنازع الأمم، ومتى جهلنا الغاية فكيف نحكم على الواسطة؟
نقول أيها الأحياء: إن الوجود الذي أخفى عنا كنه أعماله لم يحرمنا من بصيص نلمح بنوره حكمته الخالدة، ونحن نعلم علم اليقين أن العقيدة هي قائدة الأمم إلى بلوغ أغراضها، فما من نهضة قط قامت على غير عقيدة ثابتة فأفلحت، وحسبنا من هذا دليلا على أن العقيدة هي الإبرة التي تتجه بنا إلى قطب الوجود ، هي الهادي إلى نياته ومقاصده، فلا معول في الاهتداء إلى الحق الأعلى الشامل الخالد إلا على العقيدة، فهي رائده وعليها سمة من سماته الأبدية، ذنوبها مغتفرة عند أياديها، ونقائصها منسية في جنب كمالاتها، على أنها لا تذنب إلا متى تزعزعت، ولا تنقص إلا إذا تشككت، أما وهي قوية مكينة، فلن تراها إلا وفي جوفها نار تصهر أوشاب الطبائع فتطهرها، كما تصهر نار البركان أوشاب الأرض فتفجرها سيلا أحمر يتأجج نارا، ويتدفق تيارا، ويطير في الفضاء إعصارا، فلا تعرف أماء هو أم لهب، وحديد هو أم ذهب؛ لكنه على أي صورة قوة جارفة صادعة، وحركة من صميم الأرض ثائرة، وإلى عنان السماء نازعة، كذلك العقائد تصهر الطبائع المختلفة، وتحيلها إلى طبيعة مدمجة حارة، لا فرق بين عقيدة في مذهب أو رجل أو وطن أو دين أو أمل كبير.
ولا عجب - والعقيدة علامة نية الوجود - أن لا يكون أثرها مقصورا على قوم دون قوم، فلعل الشعب الذي تظهر فيه لا يكون أوفر الشعوب قسطا من نفعها. وهذه ألمانيا عدوة فرنسا اللدود قد انتفعت بالثورة الفرنسية أكثر مما انتفع بها الفرنسيون، فضمت شملها وألفت وحدتها، ولولا الثورة الفرنسية لما أحست ألمانيا بحاجة إلى الانضمام، ولما صارت شيئا مذكورا في قليل من الأعوام، فالعقائد تتجمع حينا بعد حين إلى أن تهب هبوب الصرصر العاتية، فتحرك الحياة الإنسانية الراكدة، وتستفز العناصر العاملة في الشعوب والأقوام من كل فج عميق، وهي عناصر طبيعية، كالرياح التي لا تقف في مهابها، والسحاب الذي لا يهطل في مناشئه، والأنهار التي لا تجمد في منابعها، ولكنها تجري حيث يجريها القدر المجهول، من وراء حجابه المسدول، وكأنه ليس على العقائد إلا أن تتحرك فتأتي من العجائب بما لم يخالج أنصارها المتشيعين لها، ولم يدر في حسبان أعدائها الحانقين عليها، فالانقلاب الفرنسي لم ينشر في ألمانيا الحرية والإخاء والمساواة، وهي المبادئ التي كان زعماء الانقلاب يرمون إليها ويعنون بنشرها، ولكنه نفعها من هذه الطريق التي ما نظر إليها الفرنسيون ولا حلم بها الألمان، وكان له في كل أمة يد خلاف يده في سواها.
إن الفكر يقودنا إلى حيث نعرف، أما العقيدة فتقودنا إلى حيث تعرف الطبيعة، وهي أهدى منا وأبصر بغايتنا؛ كفلتنا ردحا من الدهر أيام كنا في غيابات الجهالة لا مرشد لنا إلا ما تأمرنا به أو تنهانا عنه، ولا تزال تكلؤنا وترعانا كلما أضلنا الفكر بنوره الضعيف، وما أضل الذين يرون أن الفكر وحده يحكم الدنيا ... لا أيها المفكرون! الفكر لا يحكم الدنيا ولا الإنسان، نحن بالفكر قد نفهم الحياة ولكننا إنما نحيا بالخوالج والعقائد، وإنما يحيا الذين خلقوا للحياة، أما الذين خلقوا للفكر فقد يكون حظهم من فهم الحياة كبيرا، ولكن حظهم من الحياة غير كبير، فما أخسر أمة عندها الفكر وليس عندها العقيدة! ... ما أظن فكرها هذا إلا موديا بالرمق الباقي فيها من الحياة.
وأي شيء بعيشكم أظهر ليد العقيدة في العالم، وأبين عن كنهها المعجز العجيب، وأنها لا وازع يساويها ولا باعث يفعل فعلها؛ من هذا الإجلال المقدس الذي يخص به الناس رسل الأديان وأصحاب الملل دون عامة العظماء والمشاهير؟ كم خلا في أرضنا هذه من فلاسفة مصلحين، وحكماء مرشدين، وعلماء محققين، وشعراء مفلقين، وسواس محنكين، وقواد مدربين، وصناع مخترعين؟ كم خلا من أمثال هؤلاء في الأرض ثم نسيهم الناس وأذالوهم وبقي ذكر هؤلاء النفر المعدودين أسير من كل ذكر يرام، ومقامهم عاليا فوق كل مقام، متفردا فوق رءوس الألوف من الأقوام، الذين ما زالت تقذف بهم الأرحام، وتتلقفهم الرجام، من قديم الأزل إلى هذه الأيام؟ إن خلد أولئك أحقابا خلد هؤلاء أدهارا وآبادا، وإن ذكر أولئك بين الدارسين والقراء ذكر هؤلاء في الجهر والخفاء، وظهروا في كل أرض وسماء، كأنهم كواكب السماء، لا ذرية آدم وحواء، وإن قرنت أسماء أولئك بالثناء والتكريم، قرنت أسماء هؤلاء بخالق الكون القديم، كأنهم جزء من ذلك الوجود السرمدي، وكأنهم شهدوا معه خلق العالمين العلوي والسفلي، فهل نقول: إن الفطرة الإنسانية بنيت على الزيغ، وأشرجت على الزلل، أو نقول: خدعة صادفت غفلة كما يقول الثراثرة المتفيهقون ... يسر الله لهم الأمور ما أيسر عللهم وأريح بال الباحثين معهم! أما نحن فنقول: إن هؤلاء النفر الأعلام يتبوءون بين البشر هذا المحل الأوحد الذي لا يدانيه الملك والفتح والحكمة؛ لأنهم جاءوا إلى البشر بما لم يجئهم بمثله الفاتحون والحكماء، ولأن البشر أحوج إلى العقيدة منهم إلى ثمار الأستاذين والرؤساء، وأنهم إن كان لهم تاريخ في صحيفة الحياة، فذلك تاريخ العقائد والأنبياء لا تاريخ الأقوال والآراء، أو الوقائع والأنباء، أو البخار والكهرباء.
فالمرء يصغر كل عظمة في جانب عظمة النبوة؛ لأنه مدين للأنبياء بيقينه وإيمانه، وما هو مدين لغيرهم من المشاهير إلا بعروضه وأمواله، ولن يستوي الإيمان والعروض والأموال؛ لأن المرء إذا أخلص في الإيمان يفدي العقيدة بالمال ولن يفدي المال بالعقيدة، وهو يصنع لحماية عقيدته ما ليس يصنع بعضه لحماية نفسه وولده؛ انظروا إلى العرب فإنهم فتحوا مصر مرتين: مرة على يد الرعاة، ومرة على يد المسلمين، لبثوا في المرة الأولى ما لبثوا ثم أخرجوا منها فلم يتركوا بعدهم أثرا، واستولوا عليها في المرة الثانية فأصبح دينهم دينها، ولغتهم لغتها، وفخرهم فخرها، وأصبح تاريخهم لا ينفصل عن تاريخها؛ لأنهم كانوا في المرة الأولى رواد كسب، وكانوا في المرة الثانية خدام عقيدة، فخابوا لما عملوا لمكاسبهم وأفلحوا لما عملوا لعقائدهم. وكذلك فتح العرب الدنيا يوم كانوا يذبون عن الدين، وعجزوا عن منع ذمارهم يوم صاروا يذبون عن التراث والبنين.
إن موسى وعيسى ومحمدا وإخوانهم من الأنبياء والمرسلين لم يكونوا لاعبين ولا خادعين واهمين، بل هم عاملون لا يشبههم غيرهم من العاملين، وليست نهضاتهم الخطيرة مصادفات بتراء منعزلة عن حوادث هذا الكون الواسع الكبير، فنقول إنها فلتة لا تنطبق على أحكامه ولا تدل على غاياته. ولو قيل: إنهم طلاب مجد وعشاق خلود، قلنا: ولم يطلبون المجد ويعشقون الخلود؟ وما الذي جعل تعشقهم للمجد والخلود ينتهي هذه النهاية في نفع الخلق واستجاشة أفئدتهم وعقولهم وأنفسهم؟ أمضطرون هم في ذلك أم مختارون؟ وقائدون هم في فعلهم أم منقادون ؟ لا بل مضطرون لا يد لهم فيما يأخذون وفيما يتركون، ولا اختيار لهم في خلق أنفسهم بحيث ينادون الناس فيطيعون، وما قصدوا ما كان من آثارهم وما يكون، ولكنها تمت وهم لا يعلمون. وكم قصد العظماء نفعا للعالم فلم يتم ما قصدوه، وتم النفع من جهات عدة لم تخطر لهم على بال ولم تقع منهم في ظن أو تقدير، بل تم من الأمور بسببهم ما لو فطنوا إليه قبل وقوعه وعلموا أن أعمالهم تؤدي إليه لما عملوه، ولعملوا ما في وسعهم لإحباطه ومنعه. ريشيليو أراد أن يؤيد الملكية في فرنسا فأسقط الملكية؛ ألا يدل ذلك وأمثاله على أننا آلات مسيرة لقدرة لا نهائية عميقة الحب والخير؟ ألا يجب علينا أن نؤمن بتلك القدرة وننيب إليها ما دامت تحيط بنا وبأغراضنا، وما دامت تفعل من أجلنا وبأيدينا ما لا يدور بأخلادنا؟
معشر الأحياء:
إن كان الأسد يقول لكم: عليكم بالقوة، فأنا أقول لكم: عليكم بالعقيدة؛ لأنها تقوي الضعيف وتضاعف قوة القوي، وغاية الفرق بين ضعيف وقوي فيها أن الضعيف تحمله عقيدته، فلا ترى فيه إلا عقيدة سائرة، وأن القوي يحمل عقيدته فترى فيه العقيدة والمعتقد، وهي في الحالتين تخرق العادات، وتنجز الآيات المدهشات.
في القوة ترون عقيدة الفاروق وهو يحتد في عدله ويعدل في حدته، ويرهب النيل وما بالنيل من رهب أو رغب، ويعجب لموت النبي وما في الموت من عجب؛ هل أطمعته العقيدة حتى بطاعة الجماد والتمرد على الموت؟ يقيم الحد على ولده وله مندوحة عن جزائه، ويعلن الأذان بين جنود الكفر وأبنائه، ويهم بالخطوب الجسام فما هي إلا كرجع الصوت، ويهور الممالك بشراذم لا يملكون من أنفسهم ما ينفسونه على الموت. هذه هي العقيدة في القوة.
وفي الضعف ترون العقيدة في جان دارك العذراء النحيلة، وهي تزجي عسكرا وتتوج أميرا، وترونها تحت أسوار أورلينز والدمع يطفر من عينها، والدم ينفر من عاتقها، وهي تترامى على الأسوار كأن الحمام لا يجرؤ عليها أو يحقق الله وعده بإنقاذ فرنسا على يديها . هذه هي العقيدة في الضعف.
واعلموا أنه لا يأس من أمة ما بقي فيها استعداد للعقيدة، وأنه لا أمل في أمة قد نضب فيها هذا المعين السماوي مهما أعجبتكم ظواهرها، وغرتكم بوادرها، فإنه لا عمل بغير أمل ولا أمل بغير إيمان.
وإذا كان القرد يقول لكم: عليكم بالحق، فأنا أقول لكم: عليكم بالاعتقاد بالحق؛ لأن أنفع ما في الحق الغيرة عليه والسعي إليه، ولعمري لقد أصاب القرد حين قال لكم: إن حياة البرية في بقاء الحق والباطل متغالبين، لا في اجتثاث الباطل وإزهاقه، وإلا فهل حالة أشنع - لو صحت - من تلك الحال التي يتمناها بعض الحالمين؟ يتمنون أن لا تطلع الشمس إلا على ذي حق لا ينازع فيه، وإلا على أرض لا يجد ما يشكو منه، فإن تم هذا - ولن يتم - فأين يكون تنافس الأقوياء وإقدامهم، وأين تكون خشية الضعفاء وتآزرهم، بل أين يكون الحق نفسه؟ هل علم أحد منكم لنفسه حقا موقوفا عليه متصلا بكيانه يقول هذا حقي كما يقول هذا رأسي وهذه يدي؟ إنما الحق ما يخلص من هذه المنازعات والأطوار ويحصل من اختلاف نظر الناس إليه وتعدد مناحيه، فلا حق إلا بالنزاع على الحق، وزوال النزاع موت، وزوال الحق باطل ومحال، والحق يكون معكم مرة وعليكم مرة، فإذا أردتم أن تعرفوا في أي جانب هو فانظروا إلى جانب العقيدة، فثم الحق الأكبر المنشود.
عندئذ قال الذئب: وما مرادك بهذا الكلام أيها الإنسان؟ أتريد أن يصر كل منا على عادته ويؤمن بما هو في صدده؟ إن كان هذا مرادك، فهذه يدي فإني أول المشايعين لك.
قال الإنسان: لا، بل أردت أن تؤمنوا بي وتركنوا إلي؛ لأنني - ولا أزدهي عليكم - قد جمعت من دواعي الإيمان ما تفرق فيكم، وقد زدت عليكم بأشياء لم يتحل بها أحد منكم، ومتى آمنتم بي كنت معكم على حد قول المتنبي لأسد قنسرين:
فهل لك في حلفي على ما أريده
فإني بأسباب المعيشة أعلم
إذن لأتاك الرزق من كل وجهة
وأثريت مما تغنمين وأغنم
قال الذئب: إي نعم! كما أثرى الكلاب من فضلات موائدك، وطعمت من عظام البهائم الآوية إليك، فجعلت الكلب - وهو واحد منا - يعبدك ويحرس نومتك ويرعى ماشيتك ويعادي بني جنسه في خدمتك!
قال الحمار: مهلا أيها الذئب، فإنا راضون بأن نؤمن بالإنسان، ولكن على شرط أن تحرق الأكف والمناخيس في مجلسنا هذا.
قال الحصان: والسروج والمركبات والطواحين!
فقالت البقر والغنم والماعز بصوت واحد: وأن نكتب كتابا بمنع شرب الألبان، وتحريم ذبح الأنعام والماشية.
فاشتد اللغط بين الإوز والدجاج وصاحت من كل جانب: وذبح الأطيار الداجنة أيضا.
وزمجر النمر قائلا: وقبل ذلك أبيدوا الراميات والرصاص والمفرقعات فلا تبقى منها باقية.
ومضى كل منهم يعرض اقتراحا، أو يزيد شرطا، حتى نفد صبر الإنسان فقال غاضبا: وهل يقال أيها البهائم إنكم تؤمنون بي وأنتم تقيدونني بهذه الشروط، وتجعلونني آلة بين أيديكم؟ أم حسبتم أنني لا أنال منكم قسرا ما أعرضه الآن عليكم عرضا.
وكأنما كانت هذه الكلمة جذوة نار ألقاها الإنسان في تلك الغاب، فقد أحدث فيها ما يحدثه الحريق من الهياج والاضطراب، فأخذتهم سورة الوحشية؛ وهجم بعضهم على الإنسان فذادهم بعضهم عنه، وهو واقف بينهم نادما على تلك الكلمة، ولو أمعن في قلبه لوجد فيه بعض السرور من تلك النكسة التي كادت تفقدهم المنطق العارية الذي سمحت لهم به الحياة فضارعوه فترة من الزمان.
وبينما هم كذلك إذ ارتفعت من نواحي الأفق قطعة سحاب كطلائع الخيل، ما زالت تكبر وتنتشر حتى سدت الآفاق وأطبقت الأرض والسماء، فاربد الجو، وقصفت الرعود، وانقضت الصواعق، وانهمرت الأمطار، وظل جمع الغاب في عمياء من أمرهم لا يعرفون قبيلا من دبير، وقد شغلهم هول ما هم فيه عن التفكير في المصير، ثم سمعوا مناديا يناديهم بصوت كأن هزيم الرعود معه أخفت من دبيب النمال وأهدأ من نسيم الشمال، قائلا: اخشعوا للطبيعة يا أبناء الحياة الغرور! أنصتوا للدوام يا أسراء الفناء والدثور!
فخشعوا واجفة قلوبهم، راجفة من الهلع فرائصهم، ثم التفتوا فانقشعت هذه الغمة عن شخص رأسه فوق النجوم ، وقدماه تحت الثرى، مهيب ولكنه مودود، وعجيب ولكنه معهود، وهو من ثم قطوب كالجبل الأغبر، ومن ثم بشوش كالربيع الأخضر، فألهموا أنه روح الطبيعة، وكان في تلك اللحظة يهدر بصوت لم تستقل بسماعه الآذان دون سائر جوارح الأبدان.
خطاب الطبيعة
أيها الأحياء،
لا أطلب إليكم أن تصيخوا إلي في كل دقيقة من دقائق أجسامكم أذنا تتسمعني في كل حين، غير أنها قد تغفل عني أحيانا فيبلغها صوتي منحرفا عن الحقيقة، مزيفا بضلال الصناعة، فالآن أنفي عن آذانكم كلها هذا الوسواس لتسمعوني حق السماع، وتنبذوا ما سمعتم من سواي كل النبذ.
أنت أيتها الحياة! تمخضت عنك وما تركتك لنفسك لمحة عين، فما زلت عمياء حتى في طلب الخلاص من الموت، ولأنت أقرب ما تكونين إليه حين تفكرين في الخلاص منه، ولقد ظننت أنك أعرف مني بما يسعدك وما يشقيك، فعكفت على الصخب، ودأبت في الهرب! وعكست الأمر فأشقيت نفسك من حيث تلتمسين السعادة، وجاءتك السعادة من حيث تخافين الشقاوة، ولا أذكرك إلا بأنك وليدتي وأنني أنا أمك. أعلم من شأنك ما لا تعلمين، وقد كنت ولم تكوني، وأكون حيث لا تكونين، وأنا أحرص عليك منك، وإن زعمت أنك أخبر بنفسك، فما من صلبك ولدت أنا الوالدة، وما من جسدك تأكلين، ولكني أنا المأكولة والآكلة. أنا التي أصوغ من الصعيد الخانق والماء الجاري، ومن الهواء الخافق والضياء الساري، عجينا منه تنشئين، ثم منه تستمدين، تتناولينه جمادا جاسيا ثم تجرينه في باطنك إحساسا مدركا واعيا، ولو سألت كل ذرة فيك أن ترجع إلى موضعها مني لما بقي فيك إلا مكانك، ولضاع منك إحساسك وعلمك وبيانك، فمن جسدي كيانك، ومن جسدي قوامك، وإلى جسدي مرجعك ومآبك، فكيف إذن تختارين لنفسك ما لست أختاره لك، ومن لك بمحاربة الموت وهو قضاء حتم عليك؟
اعلمي يا حياة أنك لا تخافين الموت إلا لأنك تمشين في أنفاقه معصوبة العينين، ولو كان لك اطمئنان الوليدة إلى أمها لتأكدت أنك ناجية ما دمت في يدي. ألما تعلمي أنني أمر بك من أنفاق الموت إلى ضياء أسطع من الضياء الذي كنت فيه؟ فانظري أين أمسك من يومك، وأين الجسم السوي من المضغة القذرة؟
تشفقين يا حياة أن يلم الموت بمضغة ترمزين فيها لمحة من الوقت، ولو أنها نقطة من تلك النقاط الزلالية التي لا يميزها الناظر من نقاط الماء، وجهلت أننا لو جاريناك على هذا الإشفاق لكانت تلك النقاط عليا ما تسنمته من درجات التكوين، ولخسرت الوجود برمته وأنت تتمسكين بالوجود، فكانت كواكب السماوات وكنوز الأرضين وأسرار الخليقة وودائع المعرفة كأنها لم تخلق، وكأنه لم ينشق عنها العدم المطلق، وهي هي التي تجلسين اليوم في سويدائها، ويمر بك الموت في سراديبه إلى دارة دارة من سبحات أضوائها.
انظري آلاء الموت عليك.
قالت الطبيعة ذلك ثم نادت ... يا موت، فانطلق من يسارها شبح بغيض شملتنا رؤيته بقشعريرة باردة، وامتلأت الحياة ذعرا وهي تصارع ذلك الشبح ويصارعها، وما استطال هذا الصراع حتى غشيتنا الغاشية مدة لا ندري ما مقدارها، ثم صاحت بنا الطبيعة فانتبهنا، فإذا نحن خلق آخر، وإذا الحياة أمامنا أبهى مما كانت وأعدل قواما، وأحب منظرا، وأذكى عرفا، وأنبل طلعة، ثم قالت الطبيعة تخاطبنا: أما وقد شاهدتم أيها الملأ كيف أن الموت ينقلكم من طور إلى طور أكمل، ومن هيئة إلى هيئة أجمل، فاعلموا - كملكم الله - أن الكمال غايتكم في الحياة وليس البقاء، فلا تخافوا الموت بل خافوا النقص؛ فهو أعدى لكم من الموت ... ولا تسمعوا صوت الحياة بل اسمعوا صوت الطبيعة؛ فهي أبر بكم من الحياة.
فما كادت تلفظ الكلمة الأخيرة حتى وثب الأسد على الثور، وقبض النمر على الأيل، وعدا الثعلب وراء الأرنب، ووجأ الذئب عنق الشاة، والتهم الهر الفأر، وجذب الإنسان سلاحه يضرب ذات اليمين وذات الشمال ... والقدر يضحك والحياة تصرخ، وكلهم ذاهبون على رءوسهم يصيحون: اسمعوا صوت الطبيعة! اسمعوا صوت الطبيعة!
صفحة غير معروفة