وكان يحيط بالمقبرة من جهاتها الثلاث سور متهدم كثير الثغرات والفجوات؛ ويمتد مع جهتها الرابعة نهر «جوتنج» وقد قامت على ضفته أشجار عالية غبياء تعصف الريح بفروعها وأوراقها عصفا شديدا فيتألف من حفيفها وخرير ماء النهر الجاري بجانبها صوت غليظ أجش يملأ القلوب روعة ورهبة، فلم يزل «استيفن» سائرا في طريقه حتى لاحت له رءوس تلك الأشجار، وسمع حفيف أوراقها، وخرير المياه المتدفقة من تحتها، فخيل إليه أنها أشباح سوداء من الجن تتقدم نحوه في جوف الليل راقصة مترنحة، وتدمدم بأصواتها المخيفة المريعة، فمشت في جسمه رعدة الخوف، إلا أنها لم تمنعه من المضي في وجهه، فاستمر في سبيله حتى دخل المقبرة، وكان القمر يظهر حينا فيرشده إلى الطريق ثم يلبث أن يتوارى في غمار السحب فيقف عن المسير، فإذا تراءى له رأى على ضوئه نواويس الموتى وقد جفت فوق تربتها تلك الأشجار القصيرة التي أغفل غارسوها أمرها بعد أن بلي في قلوبهم حزنهم على موتاهم، ولم يزل يتصفح أوجه القبور حتى رأى بين يديه قبرا حديثا لا تزال تربته مخضلة فأكب عليه يتصفح جوانبه فقرأ على أحدها على شعاع ضعيف بعثه إليه القمر في تلك الساعة اسم ماجدولين، فجثا على ركبتيه وهمهم بصلاة قصيرة، ثم نهض قائما على قدميه وتناول الفأس التي أتى بها معه وضرب بها الأرض ضربة شديدة، فلم يسمع لضربته صوتا لشدة عصف الرياح وزفيفها في تلك اللحظة، ثم أخذ يحفر حتى ضرب ضربة أخرى رنت رنينا شديدا ملأ أرجاء المقبرة، فاقشعر بدنه، وبرد دمه في عروقه، وسقط على ركبتيه، وسقطت الفأس من يده؛ لأن الضربة كانت قد أصابت التابوت الذي يحوي الجثة، فخيل إليه أنها أصابت جمجمة الميتة.
وكان القمر قد برز من وراء غمامته في تلك الساعة وأضاء المقبرة كلها، فتمثل له أن القبور قد تفتحت جميعها، وأن الموتى قد أخرجوا رءوسهم منها وأخذوا ينظرون إليه بعيون ملتهبة متوقدة؛ فطار من رأسه ما بقي فيه من الصواب وترك الفأس مكانها، وركض ركضا شديدا وهو يتخيل أن الموتى يتأثرونه ويركضون وراءه، حتى وصل إلى المنزل منطرحا من الكلال، وهو يصيح: «ما كفاني أن أقتلها حتى مثلت بها!»
وسمع البستاني صيحته فاستيقظ وذهب إليه فرآه على تلك الحالة، فقال له: ما بك يا سيدي؟ فهدأ قليلا عندما رآه، ونهض من مكانه وقال له: اتبعني، فتبعه الرجل صامتا لا يعلم أين يريد، حتى بلغ المقبرة، وكان القمر لا يزال مشرقا في جنباتها، فمشى إلى ذلك القبر فانحنى عليه، فرأى أثر الفأس في التابوت ولم ير شيئا مما كان تخيله، فسكن وهدأ، وعلم أنه إنما كان في ثورة من ثورات الجنون، فأمر الرجل أن يعيد التراب إلى ما كان عليه، فأعاده، ثم أمره أن يأخذ فأسه ويعود إلى المنزل ففعل، وجثا هو بجانب القبر يلثم تربه وثراه، ويلصق خديه بصفائحه وأحجاره، ويبكي بكاء شديدا حتى اشتفت نفسه، ثم انصرف لسبيله وهو يقول: قد كنت أرجو أن أدفن بجانبك يا ماجدولين فلم أوفق إلى ذلك، وأحسب أن ذلك مني غير بعيد.
وأصبح منذ ذلك اليوم خائر النفس، منقبض الصدر، كئيبا مستوحشا، ينظر إلى الحياة وما فيها نظر الغريب النازل بدار لم يطرقها من قبل، ولم يأنس بالمقام فيها، فهو يعد عدته للرحيل عنها، ثم ما زال يلج به الأمر حتى أصبح يستوحش من الناس ويتبرم بمرآهم، ويستنكر سماع أصواتهم، فانقطع عن الاختلاف إلى من كان يختلف إليه من أصدقائه ومعارفه ، وأبى أن يقابل أحدا من زائريه، وأمسى لا يفارق خياله - في نومه ويقظته وذهابه وجيئته - منظر ماجدولين وهي تغرق في النهر، وغدائرها الذهبية الصفراء طافية على وجه الماء، ويداها تتحركان حركات الاستغاثة فلا تجد مغيثا ولا معينا، فكان يجد في نفسه لتلك الذكرى ألما ممضا يقيمه ويقعده، ويذهب براحته وسكونه، فيصرخ كلما تراءى له ذلك الخيال: نعم أنا الذي قتلتها، وانتزعت حياتها من بين جنبيها، وفرقت بينها وبين فلذة كبدها، فويل لي! ما أشقاني! وما أسوأ حظي! لقد قدر لي أن أقتل بيدي جميع الذين يحبونني على ظهر الأرض، وأن أبقى من بعدهم شقيا معذبا أبكيهم وأندبهم، لا أستطيع أن أنساهم، ولا يقيض لي أن ألحق بهم.
ولقد استيقظ صباح يوم من الأيام ضيق الصدر، كثير الضجر، فخرج من المنزل هائما على وجهه، ومشى في طريق ممهدة بين المزارع لا يدري أين يذهب، ولا أي غاية يريد، واستمر به المسير بضع ساعات فإذا هو أمام قرية «ولفاخ»، فهاجت في نفسه تلك الذكرى الماضية، ومشى إلى بيت الشيخ «مولر»، فراعه وأدهشه أنه لم ير أثرا لذلك البيت، ولا لتلك الحديقة، فلا غرف ولا قيعان، ولا سقوف ولا جدران، ولا أشجار ولا أغراس، بل رأى أنقاضا مبعثرة، وجذوعا متناثرة، وأحجارا ذاهبة ها هنا وها هنا، فعلم أن مالك البيت الجديد قد هدمه، وانتزع أشجار حديقته وأغراسها، فأحزنه المنظر وآلمه، ووقف أمامه مطرقا خاشعا، وقوف العابد أمام محرابه، وللبلى والدروس جلال في النفس فوق جلال الجدة والعمران.
وظل على ذلك ساعة، ثم أخذ يدور في تلك العرصات الخالية يتلمس أثرا من آثار تلك المعالم التي قضى فيها أيام سعادته الأولى، كما يتلمس الساري في ظلمة الليل نجمة القطب في أطباق السحب، فلم يجد شيئا، فهتف صارخا: ماذا صنع الدهر بي وبها؟ لقد أثكلنيها وأثكلني كل شيء بعدها حتى آثارها! وظل يناجي تلك الأطلال الدوارس، ويستنطق نؤيها وأحجارها، ويسائلها عن أهلها وساكنيها، فلا يجيبه غير الصدى المتردد، حتى عي بموقفه، فانصرف ولقلبه وجبات كأنها شقائق برق في السماء لوامع. (97) بيتهوفن
انقطعت أخبار «استيفن» عن «كوبلانس» وأنديتها ومجامعها، وكان غرة جبينها المتلألئة، وشمس جمالها الساطعة، فتساءل عنه أصدقاؤه ومعارفه، وصنائع أياديه وفواضله، والمعجبون بذكائه ونبوغه، حتى عرفوا قصته، وما كانوا يعرفون شيئا منها قبل اليوم، فهالهم الأمر وتعاظمهم، وأشفقوا أن تختطف يد الدهر من أيديهم تلك الحياة النضرة الزاهرة التي لم يتمتعوا بها إلا قليلا من الأيام، فمشى بعضهم بذلك إلى بعض، واجتمع منهم جمع عظيم ضم بين حاشيتيه كثيرا من كبار الموسيقيين، ونوابغ الممثلين، ورجال الشعر والأدب، فأجمعوا رأيهم على زيارته في قريته، وألا يزالوا به حتى يهجر عزلته ويعود إلى حياته الأولى بينهم، فكتبوا إليه أنهم وافدون لزيارته غدا.
ثم ركبوا في أصيل اليوم الثاني عجلاتهم، واستصحب كثير منهم نساءهم وفتياتهم، وذهبوا إلى القرية، فاستقبلهم استيفن على باب داره باسما متطلقا كأنه لا يضمر بين جنبيه لوعة ولا أسى، وكأن قلبه لا يذوب بين أضالعه ذوب السبيكة في بوتقتها، فطمعوا فيه إذ رأوه، وخيل إليهم أنه قد برئ مما به أو كاد، وأن هذه الصفرة الرقيقة التي لا تزال تلبس وجهه إنما هي أثر من آثار ذلك الماضي سيذهب مع الأيام، وكان قد أعد لهم في الحديقة مائدة عظيمة للعشاء، فجلسوا إليها وكانوا أكثر من ثلاثين رجلا وامرأة، وجلس هو بينهم يحدثهم ويطرفهم بملحه ونوادره، وتجنب في أحاديثه معهم كل ما يتعلق بكارثته، فلم يجرؤ أحد منهم أن يفاتحه فيها حتى فرغوا من الطعام، فتفرقوا في أنحاء الحديقة زمرا يرتاضون ويسمرون حتى مضت قطعة من الليل، فاقترح أحدهم أن يؤتى بالبيانو إلى فضاء الحديقة ليوقع عليه من يشاء منهم، فأتي به، فجلس إليه الموسيقي «فردريك» ووقع عليه لحنا من ألحان الموسيقار العظيم «بيتهوفن»، فطرب له السامعون طربا عظيما، وقال أحدهم: لقد كان «بيتهوفن» الرسول الإلهي الذي بعثه الله إلى البشر ليخاطبهم بلغته، فهو الرجل الذي استطاع وحده من دون الموسيقيين جميعا أن ينطق بلسان الطبيعة، ويردد أنغامها وأهازيجها، وأن يكون في غنائه هادئا كالماء، وصافيا كالسماء، وعميقا كالبحر، وصادحا كالطير، وخافقا كالنجم، فقال الموسيقي «موزات»: نعم ولكنه كان سيئ الحظ، عاثر الجد، فقد قضى حياته فقيرا معدما يسعى إلى الكفاف من العيش فلا يجده، وخاملا مغمورا، يطلب الشهرة من طريق الفن فلا يظفر بها، حتى مات شريدا طريدا في وطن غير وطنه، وبين قوم وأسرة غير قومه وأسرته، فقال الشاعر «سيدروف»: من منكم يحفظ تاريخ حياته الأخيرة فيقصه علينا؟ فقال «استيفن»: أنا أقصه عليكم؛ لأني أعلم الناس به، فقد كان أستاذي «هومل» رحمة الله عليه صديقه الذي عاشره في آخر أيام حياته حتى مات وتولى دفنه بيده، وكان كثيرا ما يقص علي ذلك التاريخ وهو يبكي بكاء شديدا، فأنا أرويه لكم كما كان يحدثني به.
ثم أقبل عليهم وأنشأ يقول: لقد قسا الدهر على «بيتهوفن» قسوة عظيمة لم يقسها على أحد من قبله من رجال الفنون والآداب، فقد وضع للعالم تلك الموسيقى السماوية العالية التي حاكى بها الطبيعة في نغماتها ورناتها، وصور فيها أدق عواطف القلوب وخوالجها، فلم يحفل بها الناس كثيرا، ولم يأبهوا لها، وكانوا قد ألفوا قبل ذلك تلك الموسيقى الصناعية المتكلفة التي كان يتأنق الموسيقيون الماضون في تنسيقها وتدبيجها تأنق النحات في صنع الدمية الجميلة التي لا روح فيها، وافتتنوا بها افتتانا عظيما فلم يستطيعوا أن يفهموا غيرها، أو يهشوا لشيء سواها، ولم يكن مصابه بجهل الناس إياه واحتقارهم له بأقل من مصابه بحسد حساده من أبناء حرفته، واضطغانهم عليه، بل لم يكن له مصاب غير هؤلاء، فهم الذين وقفوا في وجهه، واعترضوا سبيله، واستقبلوه حين وقف عليهم بتلك القيثارة الجميلة الرنانة بابتسامات الهزء والسخرية، وذهبوا كل مذهب في النيل منه، والولع به، والغض من شأنه، وما كانوا يجهلون فضله ومقداره، وقيمة ما استحدثه في الفن من بدائع المبتكرات وغرائبها، ولكنهم عجزوا عن الصعود معه إلى ذروته التي صعد إليها، فلم يكن لهم بد من أن يثيروا حول كوكبه الساطع المتلألئ في سماء الموسيقى هذه الغبرة السوداء من المثالب والمطاعن ، فلا يرى الناس أشعته، ولا يشعرون بمكانتها، حتى إن «هايدن» نفسه - وكان أكثرهم اعتدالا وأدناهم إلى العدل والإنصاف - لم يستطع أن يسمح لنفسه بأن يقول عنه في تقريظه أكثر من أنه «عازف ماهر.» فكان مثله في ذلك مثل من يقول عن شاعر مثل شاعرنا «جيتيه»: إنه «يحسن الإملاء.»
ولم يزل هذا شأنهم معه حتى نغصوا عليه حياته، وذهبوا براحة نفسه وسكونها، وملئوا قلبه وساوس وأوهاما، فساء ظنه بنفسه، وأصبح يرتاب معهم كما يرتابون في اقتداره ونبوغه، ولولا أن صديقه «هومل» كان مرآته الصادقة التي يرى فيها نفسه من حين إلى حين لنفض يده من الموسيقى نفض اليائس القانط، ولحرمت الأمة الألمانية هذه القيثارة البديعة الساحرة التي لم يخلق الله لها شبيها في العالم مذ خلقت الدنيا حتى اليوم، فويل للأشرار الخبثاء، ماذا كانوا يريدون أن يصنعوا؟ وماذا كان يكون شأن الموسيقى في العالم لو تم لهم ما أرادوا؟
صفحة غير معروفة