لقد خسرت يا «سوزان» كل شيء، ولم يبق في يدي من جميع أماني وآمالي أمل واحد، فقد ضاعت الثروة التي بعت سعادتي بها، وتنغص علي الزواج الذي وضعت فيه جميع آمالي، وخرج من يدي ذلك الرجل الذي أحببته أكثر من كل إنسان في العالم، والذي لا أستطيع أن أحب إنسانا سواه، ولا أعلم ماذا بقي لي في ضمير الدهر بعد ذلك من مخاوف وأهوال.
إنني أشعر بخوف شديد ترتعد له مفاصلي، وأظن أن ساعة العقاب قد دنت، ولقد أذنبت ذنبا عظيما، فلا بد أن يكون عقابي عظيما. (88) من ماجدولين إلى سوزان
قد حلت النكبة الكبرى، فقد تركني «إدوار» وسافر إلى جهة لا أعرفها، سوى ما يقول بعض الناس من أنه ركب البحر من «هامبورج» إلى «أميركا»، ولا أعلم أصدقا ما يقولون أم كذبا؟
وكان «استيفن» أحسن الله إليه قد أصلح له بعض شأنه بعد نزول تلك النكبة به، وبذل له من المعونة ما لا يبذله أخ لأخيه، ولا حميم لحميمه، ولكنه لم يئل من عثرته هذه حتى عاد إلى سيرته الأولى واندفع في المقامرة اندفاع الجنون فما هي إلا أيام قلائل حتى استدان مائتي ألف فرنك ونيفا، ولم يبق له بد من السقوط، فبعت جميع جواهري وحلاي علني أستنقذه من سقطته فلم أصنع شيئا، ثم استيقظت صباح يوم من الأيام فذهبت إلى مخدعه فلم أجده، فسألت عنه الخدم فأخبرني أحدهم أنه لمحه خارجا في الغلس من باب القصر وبيده حقيبة سفره، ولا يعلم أين ذهب، ثم علمت بعد ذلك أنه باع القصر إلى أكبر غرمائه وأخذ بقية ثمنه وهرب، وترك سائر الغرماء وشأنهم دون أن يوفيهم ديونهم، فعرفت أنه - وقد فعل هذه الفعلة التي لا يقدم عليها رجل شريف - غير عائد من بعدها أبدا، ولم أر بدا من أن أقوم عنه بوفاء بقية ديونه ضنا بكرامته وإبقاء على شرفه، فبعت في سبيل ذلك البيت الذي ورثته عن أبي في «ولفاخ» والمزرعة التي بجانبه، وقد سألت عنه في كل مكان وسافرت للتفتيش عنه في كل جهة أعلم أن له شأنا فيها أو صلة بها فلم أقف له على أثر، ولا يعلم إلا الله كم ذرفت من الدموع وكابدت من الآلام مذ حلت تلك النكبة بي حتى اليوم، ولقد أرسل إلي بالأمس مالك القصر الجديد ينذرني بمغادرته بعد شهر واحد، ويلح في ذلك إلحاحا شديدا، ولا أدري ماذا أصنع ولا أين أذهب؟ فليس لي قريب آوي إليه، ولا حميم أرجو معونته، ولا أملك ما أستعين به على قضاء ما قدر لي أن أقضيه في هذا العالم من أيام حياتي، وقد انقطع «استيفن» عن زيارة «كوبلانس» فأصبحت لا أراه، ولا أسمع به ولا أعلم سبب انقطاعه، ولقد حدثتني نفسي كثيرا بالانتحار، فحال بيني وبين ذلك أنني إن قتلت نفسي قتلت معي هذا الجنين المسكين الذي لا ذنب له، وكثير على الأم أن تمد يدها لقتل ولدها، فتعالي إلي يا «سوزان» أو ائذني لي أن آتي إليك، لا، بل لا بد من مجيئك إلي؛ لأنني لا أستطيع أن أتحمل مشقة هذا السفر البعيد، وأنا في الشهر الأخير من حملي.
إني أنتظر كتابا منك بعد أيام قلائل، فلم يبق لي في العالم من أعتمد عليه أو أرجو مودته سواك. (89) من ماجدولين إلى سوزان
كنت أنتظر أن يأتيني منك كتاب بالأمس فلم يأتني، فليت شعري ماذا حدث؟ أمريضة أنت؟ أم شغلك عني شأن عظيم لا يسمح لك بمراسلتي؟ اكتبي إلي على كل حال، فقد بلغت بي الشدة منتهاها، وانقطع عني الناس جميعا، فلا أرى أحدا من صواحبي ولا من أصدقاء زوجي.
الحياة مظلمة في عيني، ولقد بكيت كثيرا حتى جفت مدامعي، وفكرة الانتحار تعاودني اليوم أكثر من ذي قبل، فانظري في أمري يا «سوزان» واكتبي إلي أنك قادمة، أو ائذني لي بالسفر إليك فإن لم يأتني منك كتاب غدا فلا أعلم ماذا سيكون شأني بعد غد. (90) من فردريك إلى ماجدولين
أكتب إليك كتابي هذا و«سوزان» في أشد حالات مرضها، وقد أمرني الطبيب أن أجنبها كل ما يؤثر في نفسها من سرور أو حزن، وقد جنبتها كل شيء حتى الاطلاع على الرسائل التي ترد عليها من صواحبها، وقد سهرت بالأمس ففضضت كتابك الأخير الذي أرسلته إليها عفوا فألممت بطرف من الشدة التي تكابدينها، فأسفت لذلك كثيرا، وهممت أن أطلعها على الرسالة أو أكتب إليك على غير علم منها بالحضور إلينا، ولكنني أشفقت عليها أن يقتلها الحزن لمصابك، أو الفرح برؤيتك، فرجائي إليك أن تنتظري بحضورك بضعة أسابيع حتى أحتال للأمر، أو تهدأ عن «سوزان» علتها، والسلام عليك من صديقك الذي يرثي لك ويتألم لألمك. (91) الجزاء
قرأت ماجدولين ذلك الكتاب فرابها أمره ووقع في نفسها أن «سوزان» ليست بمريضة ولا عاجزة عن قراءة رسائلها كما يقول زوجها، وأنها إنما تريد مدافعتها والتخلص منها، فهالها الأمر وتعاظمها، وظلت ساعة بين الشك واليقين حتى دخلت عليها فتاة من صواحبها وصواحب «سوزان» كانت تختلف إليها من حين إلى حين، فسألتها ماجدولين متى كان آخر عهدها برسائل «سوزان»؟ فقالت: قد جاءني منها كتاب بالأمس تهنئني فيه بعيد ميلادي وتقترح علي أن أسافر إليها لأقضي عندها في «برلين» فصل الربيع، فكتبت إليها أشكر لها تهنئتها، وأستعفيها من السفر، فصمتت ماجدولين ولم تقل شيئا ثم انصرفت الفتاة، فقالت بينها وبين نفسها: لا عتب عليها فيما فعلت، إنما هي الإرادة الإلهية تأبى إلا أن تجازيني غدرا بغدر وكفرانا بكفران. (92) الدموع الأخيرة
استيقظ سكان قرية «ولفاخ» في صبح أحد الأيام فإذا بهم يرون تلك الفتاة التي فارقتهم بالأمس - وهي أنضر الفتيات وجها وأسعدهن حالا - قد عادت إليهم صفراء متضعضعة، شاحبة اللون، بالية الثوب، تمشي مشية الذليل المهين، وتقتلع قدميها في مسيرها اقتلاعا، فعجبوا لأمرها ورثوا لها، ولم تزل سائرة في طريقها حتى مرت أمام ذلك البيت الذي قضت فيه أيام طفولتها وصباها، وسعدت فيه بالحب الشريف الطاهر أياما طوالا حتى فارقته، ففارقها هناء الحياة ورغدها، فخفق قلبها خفقة الألم والحزن، ووقفت أمامه ساعة تقلب نظرها في جنباته وأنحائه، فرأت السكون مخيما والوحشة سائدة، فعلمت أنه لا يزال مهجورا، وكان باب الحديقة مفتوحا، فحدثتها نفسها بدخولها، فدخلتها، وخطت فيها بضع خطوات، فلمحت البستاني وزوجته جالسين إلى أصل شجرة من الأشجار، فمشت إليهما حتى صارت على كثب منهما، فأنكراها إذ رأياها، ثم عرفاها، فانتفضا من مكانهما انتفاضا، ومشيا إليها فحيياها، ونظر الرجل إليها نظرة واجمة مكتئبة وقال لها: ما الذي طرأ عليك يا سيدتي؟ فأفضت إليه بمجمل قصتها، ثم قالت له: أريد أن أستأجر الغرفة العليا من المنزل لأقضي فيها شهرا أو شهرين، وربما لا أحتاج إليها أكثر من ذلك فاستأذن لي صاحب البيت في أمرها، فاستعبر الرجل باكيا وظل يعجب لتقلبات الأيام، وتبدل صورها وألوانها، ويندب ذلك الزمن الذي قضاه سعيدا في خدمتها وخدمة أبيها، وما هي إلا ساعة حتى أعد لها الغرفة التي أرادتها، فصعدت إليها فوجدتها باقية على عهدها أيام كان «استيفن» يسكنها، وذكرت ذلك اليوم الذي صعدت إليها بعد سفره وأصلحت من شأنها وبللت تربتها بدموعها حزنا على فراقه، وظلت تقول في نفسها: قد كنت أبكي قبل اليوم فراقه، أما اليوم فقد أصبح ذلك الفراق قطيعة دائمة لا واصل لها، فمن لي بدموع تعينني عليها؟
صفحة غير معروفة