فقال له: سأنزل عندك في غرفتك هذه الصغيرة ضيفا شهرين أو ثلاثة، وهي المدة الباقية لي على بلوغ سن الرشد، ولقد اشتد النزاع بيني وبين عمي حتى أصبحت لا أطيقه ولا يطيقني، ففارقت منزله وأقسمت ألا أرى وجهه حتى تنتهي قضية الوصاية التي بيني وبينه، ثم دخل وهو يقول، ما أجمل هذه الغرفة وأبدع شكلها! إنها أوسع مما كنت أظن، وأجمل مما كنت أقدر، وعمد إلى حقيبته ففتحها وأخرج منها زجاجة عطر ومشطا وبضعة مناديل من الحرير وقدمها هدية إلى «استيفن»، فقبلها منه شاكرا ثم قام «استيفن» إلى شريحة لحم كان يعدها لطعام الغد فاشتواها ووضعها على المائدة، ووضع بجانبها زجاجة من الخمر وقطعة من الجبن ثم أخذا يأكلان ويتحدثان ويتذاكران أيام طفولتهما الماضية، وكذلك قضيا بقية يومهما مسرورين مغتبطين حتى أتت ساعة النوم، ففرش «استيفن» لنفسه حشية في بعض جوانب الغرفة وترك السرير لضيفه وناما.
ولما أصبحا أعطى «استيفن» «إدوار» قبل ذهابه إلى المدرسة جميع ما كان معه من المال وقال له: إن أجرة وظيفتي في الشهر مائتا فرنك أنفق منها على الطعام والشراب ستينا، وأحفظ الباقي لأجرة الغرفة وسداد ثمن الأثاث الذي ابتعته، وقد أنفقت منها خمسين فرنكا في الأيام العشرة الماضية، وها هو ذا الباقي، فتول أنت إنفاقه، فأنت رب البيت منذ اليوم وصاحب الشأن فيه، ثم تركه ومضى، فلم يلبث «إدوار» أن نزل إلى السوق فاشترى لحما وخبزا وتوابل وفاكهة وخمرا، وأنفق في سبيل ذلك اثني عشر فرنكا وجلس يطبخ ويشتوي حتى انتصف النهار، وحضر «استيفن» فقال له: ما هذا يا إدوار؟ أوليمة هي؟ قال: نعم وليمة الاحتفال بقدومي! فابتسم «استيفن» وقال له: لقد أحسنت فيما فعلت، وذكرتني بما كنت عنه لاهيا، وجلس يؤاكله حتى فرغا من الطعام، فقال له «إدوار»: أرى أن الغرفة تنقصها بضعة أشياء لا بد منها، فأذن لي بمشتراها، وأعدك ألا أبتاع إلا ما لا بد لنا منه، وألا أنفق في سبيل ذلك إلا ثمنا قليلا، فقال له: لك ما تريد، فخرج ثم عاد بعد ساعة يقتاد كلبا أسود ضخما ووراءه حمال يحمل له مرآة كبيرة ومشجبا للثياب وهو يقول: ما أقبح الغرفة التي لا مرآة فيها، وما أشد وحشة البيت الذي لا ينبح فيه كلب، على أنني لم أنفق في جميع ما ابتعته أكثر من عشرين فرنكا، وأظنك ترى يا «استيفن» كما أرى أنها صفقة رابحة نادرة قلما يتفق مثلها لأحد فضحك «استيفن» وقال له: ما أعذب جنونك يا «إدوار»! قال: وهل تطيب الحياة بغير جنون؟
وكذلك لم يأت اليوم العشرون من الشهر حتى صفرت أيديهما من النقود، ولم يجد عليهما الكلب ولا المشجب ولا المرآة شيئا، فقال «استيفن»: ما العمل يا «إدوار»؟ قال الأمر أهون مما تظن، وسأرى لك الرأي الذي ينفعنا، ثم تركه وخرج وعاد بعد قليل يصحبه أحد الحمالين ورجل آخر من تجار الأثاث، فوقف على عتبة الغرفة وقال للرجل خذ هذا السرير فإنه يضايق الغرفة كثيرا، ولا ظهر أثبت تحت جسد النائم من ظهر الأرض، وخذ هاتين الوسادتين الزائدتين، فالوسادة الواحدة إذا ثنيت تكفي صاحبها، ثم نظر إلى «استيفن» وقال له: أليس كذلك يا صديقي؟ فانتبه «استيفن» وكان مكبا على منضدته يكتب كتابا إلى ماجدولين، ففهم كل شيء، وقال: بلى يا «إدوار»، قال: أتظن أن زجاجا رقيقا كزجاج هذه النافذة يبقى طويلا على هذه الرياح العاصفة في هذا الشتاء الشديد؟ قال: لا، قال: أليس من الحزم أن ننتفع بثمنه بدلا من أن نتركه لعبة في أيدي الرياح تعبث به ما تشاء؟ قال: ذلك هو الرأي، فمشى إلى النافذة فانتزع ألواحها واحدا بعد آخر وأعطاها الحمال، ثم قال له: وهل ترى أننا في حاجة إلى مثل هذا الغطاء الثقيل في مثل هذه الغرفة الضيقة؟ قال: لا، فأمر الحمال بحمله، ثم قال له: وهل تضع في هذه الخزانة شيئا تخاف عليه أن يسرق؟ فضحك «استيفن» وقال له: لو كان عندي ما أخاف عليه لم نصر إلى ما صرنا إليه، قال: إذن ما بقاء هذا القفل فيها؟ ثم مد يده إليه فانتزعه من مكانه، وظل يقلب نظره في الغرفة حتى وقع على المنضدة، فذعر «استيفن» وقال له: انتظر يا «إدوار» لا تمسسها حتى أتمم رسالتي، فضحك وقال: إني أتركها لك إكراما لماجدولين.
وأخذ يساوم الرجل في ذلك الأثاث حتى باعه منه بثلاثين فرنكا، ثم عاد إلى «استيفن» وقال له: ماذا ترى فيما تم؟ قال: أرى أن تعطيني هذا المال الذي معك لأتولى إنفاقه بدلا منك، فإنك لا تستطيع أن تكون حازما، قال: أظن أننا قد بدأنا نختلف يا صديقي؛ لأنك تحب التقتير وهو لا يعجبني، وأنا أحب السعة وهي لا ترضيك، فخير لي ولك أن نقتسم راتبك بيننا قسمين، وأن يعيش كل منا وحده بالقسم الذي يصيبه، وصمت هنيهة ثم قال: على أن افتراقنا في المعيشة لا يتم إلا إذا افترقنا في السكن، فليختص كل منا بجهة من الغرفة مستقلة عن جهة صاحبه، وها أنا أقسمها بيننا قسمة عادلة، ثم عمد إلى قطعة من الجص وخط بها وسط الغرفة خطا مستطيلا، وقال: هذا قسمي أنا وكلبي ومرآتي ومشجبي، وهذا قسمك وحدك وهو خير من قسمي وأكثر منه مرافق ومنافع؛ لأن فيه المنصب الذي تطبخ عليه طعامك، والمنضدة التي تكتب عليها رسائلك، والنافذة التي تمد في فضائها ذراعك كلما أردت أن تلبس قميصك أو معطفك، فأغرب «استيفن» في الضحك وخرج لشأنه وترك له الغرفة يفعل فيها ما يشاء.
وكذلك استمر «إدوار» ينغص على «استيفن» عيشه، و«استيفن» لا يغضب ولا يشكو، بل لا يشعر بألم ولا ضيق؛ لأنه كان صديقه وكفى. (43) التضحية
خرج «إدوار» ذات يوم يرتاض في بعض أطراف القرية، وبقي «استيفن» وحده يدون في دفرته بعض نغمات موسيقية لدروس الغد، وإنه لكذلك إذ سمع على السلم خفق نعال كثيرة وأصواتا مختلفة وصياحا عاليا، فدهش وقام إلى الباب ففتحه، فإذا رجل طويل القامة عريض الكتفين يلبس لباس عمال المناجم تشتعل عيناه نارا، ويتدفق الزبد من شفتيه وقد أمسك بيده سيفين عريضين، فلما وقع نظره على «استيفن» قال له: أأنت المسمى «إدوار»؟ فعلم «استيفن» أن الرجل يريد بصديقه شرا، ولأنه لا يعرف شخصه، فأشفق منه وأراد أن يعرف ما ترته عنده، فقال له: نعم أنا هو، فماذا تريد مني؟ فابتدره الرجل بلطمة على وجهه أظلمت لها عيناه وقال له: لعل شجاعتك التي دفعتك إلى مغازلة زوجتي وانتهاك حرمة بيتي والعبث بشرفي لا تفارقك في هذه الساعة حين أدعوك إلى مبارزتي على ضفاف النهر، وها هم أولاء شهود المبارزة، فليختر كل منا من يشاء منهم، فأخذ «استيفن» منه السيف صامتا وقد فهم كل شيء، وكان ملما بعض الإلمام بقصة «إدوار» مع زوج هذا الرجل، وأشفق عليه أن يصيبه من المبارزة شر؛ لأنه كان يعلم أنه لم يجرد في حياته سيفا قط، فمشى مع خصمه صامتا لا يقول له شيئا حتى بلغا ضفة النهر وجردا سيفيهما للقتال، وهنا ذكر «استيفن» ماجدولين وود لو استطاع أن يكتب إليها كلمة وداع، فنظر إلى الشهود وقال: هل أجد مع أحد منكم بطاقة صغيرة؟ فأعطاه أحدهم ما أراد، فكتب هذه الكلمة الموجزة «إني أموت في مبارزة شريفة وأنت آخر من أفكر فيه، فالوداع يا ماجدولين.» وكان أحد الملاحين واقفا على مقدمة سفينته بجانب الضفة، فرأى «استيفن» وهو يكتب كلمته، ثم رآه وهو يقلب نظره حوله يفتش عن رسول يبعث بها معه، فأثر منظره في نفسه وتقدم نحوه وقال له: ائذن لي يا سيدي أن أحمل رسالتك إلى من تريد، فشكر له «استيفن» صنيعه وأعطاه الرسالة بعد ما كتب عنوانها على ظهرها، ثم شرع في المبارزة، فكانت يده فيها أعجز من يد خصمه، فجرح بعد ضربات في ذراعه جرحا بليغا، فوقف الشهود المبارزة وتصافح الخصمان، والملاح لا يزال واقفا في مكانه، فقال له «استيفن» وهو ساقط على الأرض بصوت ضعيف: مزق الرسالة التي معك فلا حاجة إليها الآن، فمزقها الرجل ودنا منه فأخرج من جيبه منديلا فعصب به ذراعه، ثم أنهضه من مكانه، وأخذ بيده وظل سائرا معه حتى صعد به إلى غرفته، فأضجعه على فراشه وجلس بجانبه يضمد جرحه ويواسيه. (44) الصداقة
جلس «إدوار» إلى صديقه في الليلة التي عزم على السفر في غدها وكان جرحه قد أشرف على البرء، وقال له: لقد سجلت لنفسك بدمك يا «استيفن» في صفحة قلبي نعمة لا أنساها لك مدى الدهر، كما لا أنسى لك أنك وأنت في أشد حالات بؤسك وضيقك قد آويتني وواسيتني أياما طوالا، واحتملت لي ما لا يحتمله أخ لأخيه ولا حميم لحميمه، فلو أنني جمعت لك في يوم واحد جميع ما كافأ به الناس بعضهم بعضا على الخير والمعروف مذ خلقت الدنيا حتى اليوم لما جازيتك بعض الجزاء على الخير الذي صنعت، فقال له «استيفن»: إنني لم أسد إليك يدا تستحق مكافاة، ولكنك صديقي، وللصداقة آثار طبيعية تتبعها وتنبعث وراءها جريان الماء في منحدره، فإن كنت لا بد شاكرا فاشكر الصداقة التي ظللتنا بجناحيها مذ كنا طفلين صغيرين، والبؤس الذي لف شملي بشملك، وخلط نفسي بنفسك، وحول قلبينا القريحين الكسيرين إلى قلب واحد، وإن قدر لك يوما من الأيام أن تمد يدك لمعونتي فليكن ذلك منك إذعانا لرحمة قلبك وحنانه، لا مكافأة على خير، ولا مجازاة على معروف.
إنني شقي مذ ولدت يا «إدوار»، فأنا أحب الأشقياء وأعطف عليهم؛ لأنني واحد منهم، ولا صداقة في الدنيا أمتن ولا أوثق من صداقة الفقر والفاقة، ولا رابطة تجمع بين القلبين المختلفين مثل رابطة البؤس والشقاء، فلو أنني خيرت بين صحبة رجلين: أحدهما فقير يضم فاقته إلى فاقتي فيضاعفها، وثانيهما غني يمد يده لمعونتي فيرفه عني ما أنا فيه من شدة وبلاء، لآثرت أولهما على ثانيهما؛ لأن الفقير يتخذني صديقا، والغني يتخذني عبدا، وأنا إلى الحرية أحوج مني إلى المال.
يظن السعيد دائما أن السعادة التي يمرح في ظلها إنما هي منحة سماوية قد آثره الله بها من دون عباده جميعا لفضيلة كامنة في نفسه لا يشاركه فيها غيره، ولا يعرفها الله لشخص في العالم سواه، وليس في استطاعته أن يتصور بحال من الأحوال أن السعادة عارية من عواري الدهر، يأتي بها اليوم ويذهب بها غدا، ولعبة من ألاعيبه، يختلف بها بين الناس أخذا وردا، ويداولها بينهم عطاء وسلبا، فتراه واثقا بها مستنيما إليها، ينطق بذلك لسانه، وتهتف به حركاته وسكناته، وملامح وجهه، وابتسامات ثغره، ومن كان هذا شأنه نظر إلى غيره من البائسين المحدودين الذين لا يتمتعون في حياتهم بمثل متعته، ولا يهنئون فيها بمثل نعمته نظر الشمس الساطعة إلى ذرات التراب المبعثرة على سطح الأرض، فهو يمن عليهم باللفتة والنظرة، ويحاسبهم على القعدة والقومة، ويتقاضاهم إجلاله وإعظامه كأنما يتقاضاهم حقا من حقوقه المقدسة التي لا ريب فيها، فإن أذن لأحدهم يوما من الأيام أن يجلس في حضرته لا يعجبه منه إلا خضوعه له، واستخذاؤه بين يديه، وتضاؤله أمام نظراته المترفعة تضاؤل الحمامة الساقطة تحت أجنحة النسر المحلق، ثم لا يجازيه على ذلك بأكثر من دعائه إلى مائدته، أو الإنعام عليه بفضلة ماله، أو خلقان ثيابه، لا يبعثه إلى ذلك باعث رحمة أو حنان، بل ليريه فرق ما بينه وبينه في مظاهر الحياة وزخارفها، وحظوظ الأيام وجدودها، وليضيف إلى عنقه المثقل بأغلال الفقر غلا جديدا من الذلة والاستعباد، فإذا أراد المسكين أن يفضي إليه بهم من هموم قلبه - ترويحا عن نفسه، وترفيها لآلامه - أعرض عنه وبرم به، وخيل إليه أنه ما ذهب معه هذا المذهب في حديثه إلا وقد أضمر في نفسه أن يقاسمه ماله، أو يساكنه في قصره، أو يشاطره نعمته وسعادته، فلا يعزيه عن بأساته بأكثر من أن يلومه على تبذيره وإسرافه، أو على بلادته وغفلته، ثم يختم حديثه معه بقوله: إن جميع ما يصيب المرء في حياته من بؤس وشقاء ليس الذنب فيه على القدر، بل على قصور الإنسان وجهله، وعد اضطلاعه بشئون الحياة وتجاريبها، وإن الله - تعالى، أعدل من أن يمنح نعمة جاهلها أو يسلبها مستحقها؛ أي إنه يجمع عليه بين بليتين: بلية الهم، وبلية اليأس من انفراجه وانقشاعه.
لا يستطيع الغني أن يكون صديقا للفقير؛ لأنه يحتقره ويزدريه، فلا يرى فيه فضيلة يصادقه عليها، أو يصطنعه من أجلها، ولأنه يشعر من نفسه باقتداره على احتمال أعباء الحياة وحده دون أن يعينه عليها معين من الفقراء أو الأغنياء، أما صديق الفقير فهو الفقير الذي يصغي لشكاته إذا بثها إليه، ويفهم معناها إذا سمعها منه، ويعزيه عنها إذا فهمها عنه، ويجعل له من صدره متكأ لينا يلقي رأسه عليه، وهو تعب مكدود، فيجد فيه برد الراحة والسكون.
صفحة غير معروفة