ـ[مجلة الحقائق (الدمشقية)]ـ
أصدرها: عبد القادر بن محمد سليم الكيلاني الإسكندراني (المتوفى: ١٣٦٢هـ)
صدر منها: ٣٤ عددا
[الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد]
العدد ١ - بتاريخ: ٧ - ٨ - ١٩١٠
العدد ١ - بتاريخ: ٧ - ٨ - ١٩١٠
صفحة غير معروفة
الدين الإسلامي والتوحيد الحقائق ج١ م١
مباحث دينية
الدين الإسلامي والتوحيد
ليس من الصعب على من منح عقلًا ساميًا وفكرًا نيرًا ورزق براعة في الاستدلال ومهارة في الاستنباط أن يستعمل النظر فيما أسس عليه الدين الإسلامي من توحيد وتصديق وعلم وبرهان وتعبد وإذعان وأمر ونهي لتنكشف له حقيقته ويعلم سر قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا).
تأمل أيها المستدل في حجته القويمة ومحجته الواضحة وسيرته الغراء وطريقته الحنيفة السمحاء تجد ما يبهر العقول ويدهش الألباب.
سما بأمته في مدة وجيزة إلى أعلى مراقي الكمال وصعد بها إلى ذروة المجد وشاهق العزة وقدَّسها عما كانت عليه الجاهلية قبل من أوصاف الهمجية وسفاسف الدنايا حتى سادت على العالم بما أحرزته من مقتضيات المدينة وامتازت على الأمم بالشهامة والشجاعة وتهذيب الأخلاق وتسديد الأحكام، تدبرايها الواقف على أحوال سير الأمم في هذا الدين تراه أرشد معلم يهدي الأنفس إلى اكتساب الفضائل واقتناء العلوم والمعارف وأجل أستاذ يطبع الأرواح على مكارم الصفات ومحاسن الآداب.
كان الناس في حيرة وتردد وتقاطع وتبدد في أسر الوسائط والشفعاء وتحت سيطرة المتكهنة والعرفاء يقودهم الجهل إلى أضيق المسالك ويسوقهم الغي إلى مهامة المهالك فجاء الإسلام بالدين القويم والذكر الحكيم أشرقت شموسه وسطعت أنواره وانتشرت محاسنه وهبن نسمات عدالته فطفق الناس يدخلون فيه أفواجًا تصافحهم أيدي العناية وتعانقهم كواعب الهداية وتبشرهم دواعي الرحمة بالسعادة والفوز بالحسنى وزيادة محا الله به عبادة الأوثان والعادات السيئة والمذاهب الباطلة التي كانت عليها العرب في الجاهلية ووضع الأصر والغلال التي كانت على الأمم وأحل الطيبات وحرم الخبائث، ورفع الحجر الذي كان وضعه رؤساء الأديان على عقول السذج والضرائب التي كانوا يأخذونها من سفلتهم وجهالهم وأصبح المسلم عبدًا لله خالصًا من رق العبودية لكل ما سواه.
كم هدى الدين ضالًا والآن قاسيًا وهذب خشنًا وعلم جاهلًا ونبه خاملًا وأصلح من الخلق
1 / 1
فاسدًا فهو منبع العلم ومبعث الفضائل وسلسبيل الحكم فاض على الأمم فبث فيها روح الحياة المدنية (فاهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج) ابتدأ هذا الدين بالدعوة وكان الداعي إليه سيدنا (محمد) بن عبد الله الرسول المجتبى بأمر من ربه فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وبشر وأنذر ومازال يقتحم المخاطر ويتجشم المصاعب ويكابد خطوب الأسى وضروب الأذى من الكفار حتى شج وجهه وكسرت رباعيته ولم يصده عن التبليغ شي من ذلك بل كان يدعوهم إلى الدين بأنواع من الطرق المستحسنة بالخطابات البارعة والعبارات الباهرة.
فأصحاب البصائر النافذة الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها كان يدعوهم بالدلائل القطعية اليقينية وأصحاب الفطرة السليمة والخلقة الأصلية الذين لم يبلغوا حد الكمال ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان كان يدعوهم بالمواعظ الحسنة والترغيب والترهيب.
وأصحاب الجدال والخصام والمعاندة كان يدعوهم بأحسن طريقة في المجادلة بالرفق واللين من غير غلظ ولا تعسف لأنه أنفع في تسكين لهبهم وتبيين شبههم (أدع إلي سيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
شرف الله هذا الدين ببعثة رسوله ﵊ وأيده بالمعجزات الدالة على صدق دعواه وحماه من كل ما يكون قادحًا في مقامه العالي وأمر عباده على لسان نبيه أن يتلقوا الحكام التي شرعها بقبول وإذعان ولولا إرساله لما عرف الفرق بين الطاعة والمعصية ولا تميز الشقي من السعيد أخذ رسول الله صلى الله عليه ولسم يسوس الناس حتى جمع كلمتهم ووحدها وآلف بينهم وألف وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم بما طبعه الله عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات وساوى بينهم فيما حكم الله لا رفيع في الحق ولا وضيع فأصبح المسلمون أقوياء أشداء أعزاء رحماء.
استقام أمر المسلمين في عز ومجد وسؤدد وفخار إلى ما شاء الله أن يكون حتى وقع ما وقع في زمن عثمان رضى الله عنه وفتح للناس باب التعدي للحدود ووقعت الحروب بين المسلمين إلى أن أفضت الخلافة إلى الأمويين كل ذلك ولم يقف شيئ في سبيل الدعوة الإسلامية بل كان الناس يهرعون إلى الدخول في دين الإسلام فعلموا على توسيع دائرة مملكتهم وجردوا الجيوش وفتحوا المدن حتى وطئت حوافر خيولهم ما وراء النهر وفتحوا
1 / 2
إسبانيا وما جاورها من بلاد الإفرنج إلى نهر تورس وحولوا الاحتلال الموقت إلى السيادة الدائمة.
ثم لما ظهر ضعف بني أمية بعد ذلك واضطرابهم هان على الناس الخروج عن طاعتهم وتوفق العباسيون يومئذ إلى رجل فارسي يدعى أبا مسلم الخراساني فأنقذوه في طلب البيعة لهم في خراسان لبعدها عن مركز الخلافة فتوفق توفيقًا عجيبًا حتى أدني الخلافة لبني العباس وسلم أزمتها إلى السفاح أول خلفائهم اعتمد العباسيون على جماعة من الفرس تظاهروا بالعدالة والاستقامة فاتخذوهم أنصارًا في عواملهم السياسية وأعلوا مراتبهم وأجلسوهم على منصة الرفعة والعز وكان الكثير منهم ليس من الدين في شيئ بل كان منهم طوائف ضالة مضلة كالمانوية والباطنية والإسماعيلية وغيرهم من الطوائف المارقة وهكذا إلى أن ظهرت المعتزلة وتفرقت الأمة المحمدية فأخذوا يضلون الناس ويدعونهم إلى اتباعهم والنأسي بأقوالهم وأفعالهم فظهر الإلحاد وفشت الزندقة وكثر الغى واستفحل الأمر فصدر أمر المنصور بتأليف كتب لإظهار شباتهم ودحض دعاويهم الباطلة.
كانت الأوائل من الصحابة والتابعين لسلامة عقائدهم وقلة الوقائع والاختلافات في زمنهم مستغنين عن تدوين على أصول الدين وفروعه أعني التوحيد والفقه فلما حدثت الفتن اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء وكثر جدال المبتدعه وتقووا بحيث لا يمكن زجرهم اشتغل علماء الدين بالنظر والاستدلال والاجتهاد والاستنباط وتمهيد القواعد وإيراد الشبه بأجوبتها وتعيين الأوضاع وتبين المذاهب. أول من أظهر الخلاف من فرقة المعتزلة وأصل بن عطاء وكان في مجلس الحسن البصري فقال رجل للحسن يا إمام زعم أناس كفر من فعل كبيرة وقال آخرون لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة فما الحق في ذلك فأطرق مليًا لينظر فأسرع وأصل بإثبات المنزلة بين المنزلتين وعقد له مجلسًا وقال الناس ثلاثة (مؤمن، وكافر، ولا مؤمن، ولا كافر) فقال الحسن اعتزلنا وأصل ثم تعاظم الأمر لما عرب المأمون العلوم الفلسفية وكان طلبها من اليونان فضنوا بها فلم يزل حتى أرسلوها وخلطت تلك الشبه فكانت المعتزلة ينتحلون منها وذلك أن من قواعد الفلاسفة أن واجب الوجود لا يكون إلا واحدًا من جميع جهاته أخذت منه المعتزلة نفى صفات المعاني ومن قواعدهم التأثير بالتعليل ونفي الاختيار بإثبات اللزوم أخذوا منه
1 / 3
وجوب الصلاح والأصلح ومن قواعدهم أن الرؤية بأشعة تتصل بالمرئي أخذوا منه أن الله لا يرى ومنها تأثير العقول أخذوا منه أن العباد يخلقون أفعالهم الاختيارية وكل ذلك باطل مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة كما هو مقرر في محله أن علماء الإسلام ما صنفوا كتب القواعد ليثبتوا في أنفسهم العلم بالله تعالى وإنما وضعوا ذلك ردعًا وسلم بالخصوص وإعادة الأجسام بعد الموت ونحو ذلك مما لا يصدر إلا من كافر فطلب علماء الإسلام إقامة الأدلة على هؤلاء ليرجعوا إلى اعتقاد وجوب الإيمان بذلك فكان البرهان عندهم كالمعجزة التي ينساقون بها إلى دين الإسلام.
الأدلة على وجود الصانع وتوحيده تجري مجرى الأدوية التي يعالج بها مرض القلوب والطبيب أن لم يكن حاذقًا مستعملًا للأدوية على قدر قوة الطبيعة وضعها كان إفساده أكثر من إصلاحه كذلك الإرشاد بالأدلة إلى الهداية إذا لم يكن على قدر إدراك العقول كان الإفساد للعقائد بالأدلة أكثر من إصلاحها وحينئذ يجب أن لا يكون طريق الإرشاد لكل أحد على وتيرة واحدة فإن الناس تتفاوت بحسب مراتبهم واستعدادهم.
فمن آمن بالله وصدق الرسول واعتقد الحق وأضمره واشتغل بعبادة أو صناعة فلا ينبغي أن تحرك عقيدته بتحرير الأدلة فإنه ﵊ لم يطالب العرب في مخاطبته أياهم بأكثر من التصديق ولم يفرق بين أن يكون ذلك بإيمان وعقد تقليدي أو يقين برهاني وغير المؤمن الجافي الغليظ الضعيف العقل الجامد على التقليد المصر على الباطل لا تنفع معه الحجة والبرهان وإنما ينفع معه السيف والسنان إن كثير من الكفرة أسلم تحت ظلال السيوف ومن استقرأ التاريخ لم يصادف ملحمة بين المسلمين والكفار إلا انكشفت عن جماعة من أهل الكفر مالوا إلى الانقياد. وأما الشاكون الذين فيهم نوع الذكاء ولا تصل عقولهم إلى فهم البرهان العقلي فينبغي أن يتلطف في معالجتهم بما أمكن من الكلام المقنع المقبول عندهم بالأدلة البرهانية لقصور عقولهم عن إدراكها.
وأما الفطن الذكي لا يقنعه الكلام الخطابي فتجب المحاجة معه بالدليل القطعي البرهاني فقد تبين أن أقسام الخلق أربعة وكل منهم له مرتبة في طريق الإرشاد يخاطب بحسبها فيما يناسب حالة فلا ينبغي أن يساوي بين الناس بالخطاب بالإرشاد كما هو دأب أهل التعصب الذين نصبوا للناس شرك التزلزل في عقائدهم ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير
1 / 4
والازدراء فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في نفوسهم الاعتقادات الباطلة حتى عسر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها.
إذا تمهد هذا فعلينا أن نلتزم طريقة سهلة المأخذ جديرة في النفع واضحة البرهان ظاهرة الحجة ونتباعد عنا يشوش عقائد العامة ويدخل عليهم الريب من نشر الشبه والرد عليها إذا لا يلزمنا أن نطيل المشاغبة في اللوازم إلا عند الاقتضاء وقصارى مطلوبنا تقرير الأدلة الإقناعية والقطعية فالأولى للقسم الثالث والثانية للقسم الرابع:
1 / 5
الفقه والفقهاء
كلمة في الفقه والفقهاء
(من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين) منقبة جليلة، ومأثرة عظيمة، ذكر كريم، ووصف جسيم، اعتناء باهر، وإكرام ظاهر، مجد شامخ، وفضل باذخ، خص به فقهاء الدين وحملة الشرع القويم على لسان أفضل البشر وسيد المرسلين عليه من الله أذكى صلاة وأتم تسليم.
نوهت هذه الجملة بفضل المتفقهين وأبانت مركزهم في هذه المجتمع بأنهم خيرته من أفراده، وصفوته من رجاله، وهم (والحق يقال) جديرون بهذه المكانة، حقيقيون بتلك المرتبة لما لهم من الأيادي البيضاء في خدمة الدين بتأسيس قواعده وتشييد مبانيه واستخراج فروعه من أصوله وأحكام أبوابه وفصوله إلى غير ذلك من الأعمال التي دأبوا عليها الأزمنة التي لا تنحصر والأوقات التي لا تعد حتى بينوا محاسن الشريعة كالأنجم الزهر، أو كالغرة في جبين الدهر، فجزاهم الله خيرًا.
خلفهم خلف (وبئس الخلف هم) غمصوا حقوقهم وغضوا من فضلهم وجاوزوا إلى تزييف آرائهم وإبطال أقوالهم زاعمين أن غالبها لا مأخذ له من كتاب، ولا استناد به إلى سنة، ولا تعويل فيه على إجماع ولا اعتماد به على قياس، لا يوافق المعقول ولا ينطبق على المدنية بل هو خيالات تخيلوها وأكاذيب أفتروها حتى أخذوا يزينون لكل من علت رتبته في العلم أو نزلت أن يستقل بنفسه ويأخذ الأحكام التي تتعلق به من أدلتها ويرمي بأقوال أولئك الأئمة عرض الحائط وهناك والله الطامة الكبرى من محو الشريعة وتفريق الأمة (حمانا الله من ذلك) نقول هذا ولا نرتاب في أن فتح هذا الباب (باب الاجتهاد) وترك أقوال أئمة عظام وجهابذة فخام أحاطوا بالعلوم العربية من جوانبها وعلموا أصول الشرع وقواعده واستظهروا الكتاب وتأويله وحفظوا المائة ألف والمائتين منم أحاديث السنة بأسانيدها وتراجم رجالها وعرفوا الناسخ والمنسوخ ووقائع الأحوال وأسباب النزول مع ذكاء باهر، وفطنة متوقدة، نعتاض عنها بأراجيف من علم من الصرف الثلاثىَّ المجرد ومن النحو الفاعل والمفعول ومن غامض اللغة مادة أو مادتين ومن تفسير الكتاب تفسير آية أو آيتين ومن الأحاديث نزرًا تلقفه من الأفواه لم يعلم سنده، ولا حال رجاله، لا أطلاع له على شيء من باقي العلوم إلا ما كان من شعر ينشده ونثر يسرده (وهذه حالة فغالب مدعى العلم في
1 / 6
هذا العصر المؤهلين أنفسهم لهذا الشأن) خرق كبير في الدين، وجناية على الأمة غفرانك اللهم، هذا وأن مجلتنا هذه بما هي معترفة به من العجز ومذعنة فيه من القصور متكلفة بالجواب عما يرد إليها من الأسئلة عن أدلة الأحكام الشرعية التي نقلت عن الأئمة الأربعة أو أحدهم نأتى بها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس مطبقة على المعقول مشيدة على أصول المدنية وبالله التوفيق ومنه المعونة.
1 / 7
اللغة العربية
مجلة الحقائق
لا يخفى مسيس الحاجة إلى مزيد العناية بشأن هذه اللغة الشريفة التي اختصت بمزايا ترتاح إليها النفوس الزكية والأحلام الراجحة وحسبها شرفًا مخلدًا أنه قد ورد الذكر الحكيم وحديث أفصح من نطق بالضاد وأوتي جوامع الكلم ﵊، ولم يزل المولى سبحانه وسعدانه يقيض لهذه اللغة الكريمة من رجال العلم والأدب من يعني بضبط أصولها وفروعها وحفظ قواعدها وشواذها وبيان فصيحها وأفصحها مع التنبيه على ما يطرأ عليها من تحريف أو تصحيف أو تغيير وتبديل حتى بلغت العناية ببعض حفاظها من رجال السلف أنه بينما كان هائمًا في بعض القفار هربًا من بأس الحجاج التقفى إذ سمع أحد فصحاء العرب من الثقات الإثبات يقول مات الحجاج ويتمثل بهذين البيتين:
لا تضيقن في الأمور فقد تك ... شف غماؤها بغير احتيال
ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال
فقال ما أدري بأيهما أنا أشد فرحًا أبموت الحجاج الذي تخلصت من شره أم بسماعي هذه الكلمة (فرجه) بالفتح ممن يوثق بكلامه ويعتد به بعد أن طال ترددي فيها والتماسي للوجه الأفصح من هذه الوجوه الثلاثة (فتح الفاء وكسرها وضمها) فتأمل يا رعاك الله هذا التجرب في تلقي الكلمات العربية وقايس بين هذا الاعتناء وبيت التهاون الذي بلغ في زماننًا مبلغًا يقضى بالأسى والأسف ويكاد المرء ييأس معه من تصحيح الأغلاط المتداولة على الألسنة وتنفتح هذه اللغة الكريمة مما شوه وجوه كرائمها وأوشك أن يودي بنضارة محاسنها فترى بعضنًا تعرض له الألفاظ العويصة والكلمات التي تستبهم وتستغلق عليه فيقدم على سردها ويلوكها بلسانه غير مبال بضبطها ولا مكترث بتحقيقها وربما كانت معاجم اللغة إلى جانبه وعلى طرق الثمام منه ولا يمنعه منها إلا تكاسله وإلقاؤه الكلام على عواهنه خطأ كان أو صوابًا وقد أخذ هذا الداء يفشو وينتشر حتى سري إلى بعض الخواص الذين لا يتنازلون إلى كراجعة قواميس العربية فإذا وقع لأحدهم أشكال في لفظ أو التباس في كلمة طفق يكررها ويعيدها ويعرضها على لسانه كأنها أكلة يذوقها أو لقمة يتطعمها ثم يقول مثلًا الفتح عندي هو الصواب أو الضم أخف وأرشق أو الكسر الطف
1 / 8
وأسلس وما أشبه ذلك مما يدل على دعوى الاجتهاد فيما هو من العلوم النقلية التوقيفية التي لا مجال للعقل فيها وقد كان أبو علي القالي وهو من هو علمًا وأدبًا وفضلًا إذا استعجمت عليه كلمة فزع إلى كتب اللغة ولم يجسر على الحكم فيها برأيه شأن الموثوق بهم من علماء اللغة وأئمة العربية ومما يحكى عن أبي علي هذا أنه كان يقتني نسخة من الجمهرة بخط مؤلفها أبي بكر بن دريد وكان قد أعطى بها ثلاثمائة مثقال فأبى ولم يقبل ثم اشتدت به الحاجة حتى اضطرته أن يبيعها بأربعين مثقالًا إلا أن الذي اشتراها أعادها له ومعها أربعون دينارًا منحه أياها بباعث الشهامة والمروءة ومكارم الأخلاق حيث رأى عليها بخطه هذه الأبيات:
أنست بها عشرين عامًا وبعتها ... وقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظنى أنني سأبيعها ... ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لعجزي وافتقاري وصبيةٍ ... صغار عليهم تستهل شؤني
فقلت ولم أملك سوابق عبرتي ... مقالة مكوي الفوآد حزين
لقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... كرائم من رب بهن ضنين
هكذا كان حرص علماء السلف على كتب اللغة ومراجعتها وقد قام اليوم من نوابغ العصر قوم أخذوا يحمون حوزة هذه اللغة ويذبون عنها باسنة أقلامهم وأسلات ألسنتهم فعسى أن تعود بهم إلى سابق عها وسامق مجدها حيث نحظى بطيب نشرها الجميل ونتعزز بها على فهم أسرار الحديث والتنزيل والله المرجو لتحقيق ذلك وعليه التكلان ومنه التوفيق.
هذا وقد رأينا أن ننشر في هذه المجلة ما يقتضيه الحال من المباحث اللغوية مفتتحين ذلك بتحقيق معني هاتين الكلمتين (مجلة الحقائق) نقلًا عن أمهات كتب اللغة.
(المجلة) بفتح الميم والجيم واللام المشددة بعدها تاء مربوطة. هي الصحيفة تكتب فيها الحكمة وكل كتاب عند العرب مجلة وفي حديث سويد بن الصامت ﵁ أنه قال لرسول الله ﵊ لعل الذي معك مثل الذي معي قال وما معك قال مجلة لقمان أي كتاب فيه حكمة لقمان وقال ابن الإعرابي أحد أئمة اللغة قلت لإعرابي ما المجلة وكانت في يدي كراسة فقال هي التي في يدك وكان ابن عباس ﵄ إذا أنشد شعر أمية قال مجلة أبي الصلت قال الراغب ويسمي المصحف محلة وقال النابغة الذبياني:
1 / 9
مجلتهم ذات الآلة ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب
أي كتابهم طاعة الآله والمراد أنه مشتمل على طاعة الآلة
وقال رجل من بني يربوع بعد أن ذكر دارًا قد أندرست وعفت ولم يبق إلا آثار أطلالها.
(مثل الكتاب لاح في المجلة)
وقد ورد جمع المجلة على مجال بوزن مسرة ومسار ومضرة ومضار والشائع في الاستعمال اليوم مجلات وهو سائغ مطرد في القياس والمجلة قيل معربة وأصلها عبرانية وقيل هي عربية محضة وعلى هذا فهي مفعلة من الجلال بمعنى العظمة والوقار والفخار والرفعة وإنما سميت المجلة كذلك لأن ما يكتب فيها من الحكم والآداب والمواعظ والأحكام ونحوها حقه أن يكون موضع الإجلال والإعظام وأما (الحقائق) فهي جمع الحقيقة على القياس المطرد في جمع كل ما كان وزنه فعيلة على فعائل وهي بمعنى اسم الفاعل أو اسم المفعول من حق الأمر إذا ثبت وتقرر أو من حقه إذا ثبته وقرره وهذا من الأفعال التي تستعمل لازمة ومتعدية ولذلك يقال حق لك أن تفعل كذا وحق لك بالبناء للمعلوم والمجهول والقياس في هذا الفعل ونحوه من ذوات التضعيف أن يكون متعديه من الباب الأول كمد ورد ولازمه من الثاني كخف وعف وصنيع القاموس يقتضي أن كلًا من حق اللازم والمتعدي قد ورد من كلا البابين الأول والثاني وعليه فمجيء لازمه من الأول شاذ في القياس دون الاستعمال ومجيء متعديه من الثاني كذلك وبما تقدم ظهر أن الحقائق بمعنى الأمور الثابتة المتقرره أو المثبتة المقررة ومنه حقيقة الشيء بمعنى ماهيته وما به هو ومنه أيضًا الحقيقة من الألفاظ بمعنى الثابت المستقر على معناه الأصلي الذي وضع له ومنه قولهم فلان حامي الحقيقة بمعنى ما يلزمه الدفاع ويحق عليه حفطه وحياطته قال لبيد:
أتيت أبا هند بهند ومالكًا ... بأسماَء أني من حماة الحقائق
وقال عامر بن الطفيل:
لقد علمت هوازن أنني ... أنا الفارس الحامي حقيقة جعفر
وقال أبو المثلم يرثى صخرًا الهذلي:
أبي الهضيمةِ ناءٍ بالعظيمة مت ... لاف الكريمة جلد غيرُ ثنيان
حامي الحقيقة نسال الوديقهِ مع ... ناق الوسيقة لا تكس ولاواني
1 / 10
فمعني الحقائق في هذه الأبيات ما يحق على الرجل أن يحميه ويحافظ عليه وتاء الحقيقة كتاء علامة ونسابه وفهامة ونحو ذلك وهي للتأنيث اللفظي الذي يراد منه المبالغة في أصل المعنى وحينئذ يكون معنى الحقيقة من الأمور ما ثبت ثبوتًا قطعيًا بحيث لا يشك فيه وأصل هذه المادة كلها هو الحق الذي يدحض الباطل ويدفعه نسأل الله ﷾ أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا أتباعه ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه أنه ولي التوفيق والهادي إلى أقوم طريق.
1 / 11
العلماء
علماء الدين في الإسلام
ما الفخر إلا لأهل العلم أنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقد كل أمرئ ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حيًا به أبدًا ... فالناس موتى وأهل العلم أحياءُ
العلماء حياة الشعب وظل الله في الأرض وركن الدولة. وفريق الهدى، وأعضاد الملة، وحضنة الإسلام. قال الله تعالى (أنما يخشى الله من عباده العلماء).
حكمة بالغة تعجز أفاضل الكتاب عن أن يلموا باطرافها أو يصوروا بعض معانيها أولو دأبو السنين العديدة. وكتبوا المجلدات الضخمة. تنزيل من رب العالمين.
تصور أيها القارئ ما أفادته هذه الآية من تعظيم أمر العلماء وتبين مقامهم المحمود. حصرت خشية الله بهم ومعنى الخشية الرهبة من الله والخوف من عقابه.
صفة جليلة إذا تخلق بها الإنسان ائتمر بأوامر الله. وانتهى عن مناهبه. وهناك الخير العظيم. والنفع العميم. ثم أرجع البصر إلى ما الزم الله به عباده. وما فرض عليهم التباعد عنه تجده غاية في الرقيّ. ونهاية في المدنية. وقانونًا كافلًا لسائر أسباب النجاح.
لنأت بهذا الرجل الذي خصه الله بخشيته وآتاه الحكمة. وعلمه مما يشاء. ثم لنجله في هذا المجتمع الإنساني مجده هو (والله) حامل تلك الصفات التي يتلمسها علماء العمران. طهارة وجدان. وبراءة ذمة. وأناة وحلم. وأنصاف وعدل. ورفق وإحسان وتباعد من الظلم. واستنكاف من الباطل. ونبذ للرشا. ومحافظة على الحقوق قدر الجهد ونهاية الاستطاعة إلى غير ذلك مما نتصوره من الصفات العالية والأخلاق الفاضلة الكبيرة. وهي كلها على التحقيق فرع لخشية الله والإئتمار بأوامره. اللهم علمنا مدارك التأويل.
كان الصدر الأول أيام كان الإسلام يشرف من أعلى قمم المجد ويخضع لسلطانه كل جبار عنيد. ظرفًا لإعزار العلماء ونفوذهم حتى أن الخلفاء كانوا يغشونهم في دورهم لسماع الوعظ وافرشاد كما وقع للرشيد مع ابن عبينة. وكان حكمهم فوق كل حكم. وكلمتهم تعلو كل كلمة. تدنو لهم رقاب الملوك. وتعنو لهم الخاصة والعامة وشواهد هذا في التاريخ كثيرة فقد حكى المؤرخون أن بني أمية لم يكونوا ليقطعوا أمرًا إلا برأي علماء المدينة وذكر
1 / 12
الفخري أن الرشيد قد صب الماء على يدي أبي معاوية الضرير وهو يغسل وروى صاحب طبقات الأدباء أن الأمين والمأمون ولدي الرشيد تنازعًا في حمل نعل أستاذهما الفراء وتقديمها له حتى اصطلحا على أن يقدم كل منها واحدة.
كذلك كانوا يكرمون العلماء الحقيقيين ويجلونهم
استقام الأمر على ذلك مدة مديدة ثم طرأ على مركزهم التزلزل والانحطاط كما طرأ على المسلمين. وكان العامل الأقوى في هذا السقوط انخراط شرذمة من الجهلاء وأهل الأهواء في هذا السلك الشريف. أخذوا يدجلون على العاملة ثم التفوا حول المراء والملوك فجاورهم في أهوائهم وزينوا لهم سيئاتهم وقضوا لهم فيما يشتهون.
أضف إلى ذلك ما جرت عليه الأمة من ذلك الحين. وأنها كانت إذا مات العالم وخلفه جاهل أفضت بالأمر إليه وأفرغت الدروس عليه كان العلم عقار أو مال أو متاع، وهكذا أخذ الجهال وظائف العلماء ولم يبق مرغب في العلم ولا داع إليه ولا حامل عليه.
فسدت الأخلاق. وراج النفاق. وانقلب العز ذلًا، والعلم جهلًا. وصارت علماء الدين مرمي للسهام. ومشحذة للأقلام. بعدما كانوا في منزلة تقر بها عيون الدين. وتنشرح لها صدور المسلمين عظم الأمر وعم الخطب وبلغ التحامل على العلماء مبلغًا لم يعهد من قبل حتى قام بعض الكتاب ممن أولعوا بالتقليد العمى للغربيين ينددون بالسلطة الدينية. ويطلبون فصل السلطتين الدينية والسياسية. مدّعين أن الدين إذا خالط السياسية أفسدها إلى غير ذلك من المزاعم الباطلة وخزعبلات القول ذلك لأنهم رأوا أن الغربيين ينتقدون السلطة الدينية ويطلبون القضاء عليها لأنهم ذاقوا من تلك السلطة ما أظهر لهم أنها تحول دون رقيهم العقلي فقلدوهم على غير هدى. (وهكذا الأمم المنحطة تتشبه بالأمم الراقية. ولو فيما لا ينطبق على مصالحا) اللهم أرزقنا استقلالًا في الفهم على رسلكم أيها الكتاب لا سلطة في الدين الإسلامي إلا للشرع، أن العالم ليقضى بين الناس ويصدر الفتاوي (هذا حلال وهذا حرام) ويأمر بالمعروف. وينهى عن المكر. ويهذب العامة. ويرشد الخاصة. وهو المرجع في الحيرة والمرجو لدفع الشبه عن المسلمين.
لا سلطة ولا تسلط. ولا غفران ولا حرمان إنما هي رتبة خوله إياها العلم. وقضت له فيها الحكمة.
1 / 13
أيها الكاتبون: أن الدين الإسلامي هو دين الشورى دين المدنية، دين الحضارة. هو الدين وحده الذي يصلح أن يكون شريعة دائمة. وهداية عامة للبشر فكونوا يدًا واحدة على نشر هذا الدين المبين. والصراط المستقيم. وما نشره إلا بإعزاز علمائه والسعي وراء رقيهم وإيجاد الوسائل لنشر التعليم الديني بين طبقات الأمة ليذوقوا طعم الإسلام وينبذوا من يريد تفريق حكمتهم باسم الدين تارة وباسم الجنس أخرى وليعلموا أن الشريعة الغراء تقضي بالاتحاد والائتلاف. والتكافل والتضامن. لتعيش الناس وادعين آمنين وفق الله الأمة لما فيه صلاحها.
1 / 14
الأخلاق١
إنما بثت لأتمم (مكارم الأخلاق)
أول واجب على من أراد سعادة هذه الأمة أن يسعى بتهذيب أخلاقها وعبثًا يحاول المصلحون العروج إلى الرقي والنجاح من غير هذا الطريق، وفي هذا الحديث دلالة على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أرسلوا بمكارم الأخلاق وأن الرسول متمم ما نقص. وجامع ما تفرق، وفي هذا مع ملاحظة الحصر بإنما من تعظيم قدر الأخلاق ما لا يقدره حق قدره لسان القلم، وقد أصبحنا في زمن نسى أو تناسى فيه المسلمون أخلاقهم تلك الأخلاق التي كانت سببًا لانتشار الدين الإسلامي في أكثر بقاع الأرض بسرعة لم يعهد لها نظير في تاريخ الأديان، صدق في الأقوال وإخلاص في الأعمال وتفان في نصرة الحق (وتعاون على البر والتقوى) قامت هذه العدد المعنوية أمام المعاقل والحصون، والقلاع والأبراج، وغالبتها فغلبتها، ودكت عروش الجبابرة، وهدمت صروح القياصرة، سنة الله في من استرشد بآياته، وتمسك بما أمر به، هذا حال المسلمين في زمن قلتهم وضعفهم. وضيق ثروتهم. فكيف حالهم اليوم نبذوا أوامر الله ظهريًا. واتبعوا أهوائهم، وانكبوا على شهواتهم، وساد فيهم الجهل بالدين وأصوله فبعدوا عن الفضائل، وتحلوا بالرذائل فأخذهم الله ببعض بذنوبهم (أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) كان سلفنا يقول هذا حلال وهذا حرام، وهذه فضيلة، وتلك رذيلة. وميزانهم الشرع ومرجعهم كتاب الله وسنة رسوله فأصبح الخلف يحكمون حكمهم. والميزان الشهوات. والمرجع الأهواء. وبعد أن كان (الحق) و(العدل) و(الأنصاف) (والانتصار للدين) وهكذا سائر الفصائل حقائق لأمور معلومة بينها الشارع ومحصها حتى لم يدع سبيلًا للاختلاف في حقيقتها. أصبحت اليوم تطلق لمعان اصطلاحية (ولا مشاحة في الاصطلاح) فالتهور شجاعة أدبية. والجبن أناة. والوقاحة حرية ضمير. والبعد عن آداب الدين تمدن والتمسك بالفضائل جمود. والقصد والاعتدال في الأمور تعصب.
كتبت إحدى المجلات العلمية صورة كتاب ورد لأحد العلماء من صديق له بأميركا وقدم ذلك العالم بين يدي نجواه مقدمة يبين بها فائدة نشر هذا الكتاب يقول فيها بعد كلام طويل (حتى إذا رأيته نافعًا تتكرم بنشره ليرى الناس كيف يعيش ذلك الشعب الراقي في بحبوحة
1 / 15
السعادة والراحة والغنى إلى أن قال وكيف يعلم الشعوب دروس الآداب العالية والعلم الصحيح الخ)، تقرأ ذلك ثم تقرأ الكتاب فترى من جملته (أما محال التمثيل فإنها مرتقية أكثر من أوربا وأرخص أجورًا حتى أنك لترى في بعض الملاعب مائة فتاة يرقصن معًا وأجور الفرجة رخيصة للغاية) فأنظر يا رعاك الله إلى أي درجة وصلنا من الانحطاط في الأخلاق حتى صار من يدعي في عرف المجلات عالمًا ألمعيًا يرى أن رقص مائة فتاة بأجور رخيصة من دروس الآداب العالية والعلم الصحيح. اللهم أن هذا نهاية الخذلان.
نام علماء الدين عن وظيفة الإرشاد فقام من ليس في العير ولا في النفير يدعون مقام المرشدين. ووظيفة المصلحين يسيطرون على الأمة في دينها وأخلاقها، وان كانوا خلوًا من كل فضيلة. يقولون نحن قادة الأمم إلى خيرها نحن منقذوها من ظلمة الهمجية إلى نور التمدن نحن نحن. . ووجدانهم يكذبهم و(الحقائق) تتبرأ منهم والله من ورائهم محيط.
رأوا أن بضاعتهم من العلم مزجاة فتلمسوا طريقة لأن يروق سعيهم في نظر العامة فلم يجدوا سوى تقيص العلماء واحتقارهم ليوهموا السذج أنهم كما يدعون وفوق ما يصفون. هذه مقدمة خطتهم في وضعهم أنفسهم أمام العامة موضع المصلحين. ثم يعمدون إلى إرضائهم بأن يدخلوا في الدين ما تميل إليه نفوسهم وترغبه شهواتهم، فيجعلوا من الحرام ما يهذب الأخلاق، ومن الرذائل ما يرفع إلى أوج الحضارة، والنفوس (إلا من هذبه العلم) مجبولة على حب الإطلاق ومن دعا إليه وأن كان فيه شرها وتدهورها إلى حضيض الذل والهوان.
اللهم أكثر في هذه الأمة دعاة الخير والإصلاح الحقيقي ولا نحتاج إلى الدعاء على دعاة الشر بالانقراض فإنهم متى آنسوا أن صاحب البيت طلبه قوضوا خيامهم ورضوا من الغنيمة بالأياب ومن أين للظلام أن يثبت مع الشمس أو للجهل أن يقاوم العلم أو للتمويه أن يصادم الصدق وإنما يظهر الباطل في غفلة الحق عنه والحق أبلج والباطل لجلج وقل جاء الحق وزهق الباطل أن الباطل كان زهوقًا.
1 / 16
الانتقاد
الصحف والصحافيون
ماذا أقول في الصحف الصادقة وما ينبغي أن أقول. أن القلم ليعجز والفكر ليمل دون ان يعرف ما لها من الفضائل أو يوفيها حقها من الثناء إذا كانت الأمور تشرف بشرف غاياتها وتعظم بعظم ثمراتها كان للصحف المفيدة من الكرامة أعظم وأوفر نصيب ذلك من حيث أن الوطن ومستوطنيه إذا غشيتهم غاشية ظالم. أو حقت عليهم كلمة آثم. لم يكن لهم موئل يئلون إليه. ولا منهل يتواردون عليه غير تلك الصحف النافعة الآخذة على عهدتها القيام بخدمة الوطن والانتصاب للذب عنه. وضعت الصحف لتبحث فيها يعود بالمنفعة العامة على هذا النوع البشري فليست أقل فائدة من الكتب المحترمة بل لا فرق بينهما إلا أن الصحف تنشر تباعًا والكتب تنشر دفعة واحدة ويشتمل الكتاب على بحث واحد والصحيفة على عدة أبحاث، فالمجموع من بحثها في الأخلاق أخلاقي، ومن بحثها في الدينيات كتاب ديني، ومن بحثها في الأدبيات كتاب إنشاء ومحاضرات الخ وضعت الصحف لتعرف الإنسان بماله وما عليه من الواجبات، لتعرفه أنه إنسان حر في أقواله. مطلق في أفعاله. لا سلطة ترهبه. ولا سيطرة تفزعه. اللهم إلا سلطة الشرع وسيطرة الدين وضعت الصحف لتعرف الإنسان أن الله تعالى برأه ليكون صوت رحمة على بني وطنه. وخيرًا محضًا لبلاده. لا راحة له إلا أن رقت. ولا هناء له إلا أن علت لتعرفه كيف يصاحب ولمن يجانب، وكيف يسوس أهله، ويربي أولاده. ويعلمهم ويزكيهم ويهذبهم ويرشدهم وضعت الصحف لتطلع الإنسان على أحوال الناس وآرائهم وعاداتهم وأخلاقهم ليطرح الخبيث ويتحلى بالجيد ويقرب من العلماء ويبتعد عن السفهاء وضعت الصحف لتربي في الإنسان ملكتين أدبية وأخلاقية يتعرف بالأولى صحيح الكتابة من فاسدها وغثها من سمينها ويعتقد بالثانية أنه مدين لدينه بدين يجب وفاؤه وحق يلزم قضاؤه، نحن نجل الصحيفة بالوصف السابق ونقدرها قدرها ونرى أنها الدالة على حضارة قومها، وترقي آلها، وأنها يد البأس وعضد المسكين، ولسان الخائف، وساعد المظلوم، وأنها تاريخ عام للمحسن والمسيء، تنتقد للإصلاح وتسير على نهج الفلاح، تصدع بالحق ولو آلمها وتجهر بالصدق ولو جرحها، تبحث فيما تعلم، وتصدف عما لا تعلم وأنها للوطن كالغيث ينتفع منه الكبير
1 / 17
والصغير، والغني والفقير ولكنا نعترف بأن أكثر صحفنا اليوم خرج عن هذا الوضع، وتباعدت عن هذا الوصف، فاستبدل أصحابها المفاسد بالفوائد والمضار بالمنافع، يهتون عرض هذا، ويأكلون لحم ذاك، ثم لا يكفيهم هذا حتى يدعى أحدهم أنه رب الحرية وزعيمها، وشيخ المسائل العمومية وأميرها، وأن لا غرض له في ثلب أعراض الناس وهتكها إلا إظهار الحقيقة، وخدمة الوطن، أمثال هؤلاء المتهورين أخرجوا الصحف عن وضعها وساروا بها في غير مسيرها ففرقوا الكلمة والصحيفة وضعت لجمها، ونفروا القلوب والصحيفة أنشأت لإئتلافها وعاثو في الأخلاق والصحيفة أسست لإصلاحها، وأماتوا اللغة والصحيفة وجدت لإحيائها، ولذلك كثر عدد عذالها، ونما جمع لوامها، وانقسم الناس فيها شيعًا وأحزابًا، فمن حادث عليها موجب لقراءتها، ومن مانع منها محرم لها، لا لوم على المانع، ولا حرج على المحرم، فإن الصحف بخروجها عن وضعها الأصلي صارت محط الصفات الذميمة، والأخلاق السافلة، يفتتح الإنسان الصحيفة من صحف اليوم فيرى من أخبارها أن فلانًا قد تولى المنصب الفلاني وهو خير كفوء له، وأحق قائم يقوم به لما له من الهمة الفائقة، والفكرة الصادقة، والخبرة والمعرفة والدهاء والذكاء، وحسن الإدارة والسياسة، وصدق القول، وطهارة الوجدان، وغير ذلك مما يدهش القارئ والسامع، والعالم والجاهل، ثم لا يكاد يتم سروره حتى يتناول بعد أيام عدد آخر من تلك الصحيفة فيراها تقول أن فلانًا (الممدوح بالأمس) قد جرد من منصبه وهو رديء الحال، سيئ السمعة، طائش الفكرة، عديم المعرفة، مبغض للخير، عدة للمعارف، هناؤه في شهوته، وراحته في لذته إلى غير ذلك من الوصاف الدنيئة، والنعوت الوضعية التي توجب على القارئ أن يحكم بداهة بتكذيب أحد الخبرين أن لم نقل بكليهما زد على ذلك ما إذا مر نظره على تلك الأخبار الواهية التي يتناقلها أكثر الصحافيين ولا يعلمون لها سندًا أو تلك الأسطر المشوشة للأفكار. الصدعة للخواطر الصغيرة حقيقتها ترجمتها، أو تلك المبالغات والزيادات التي أفسدت خلق الناشئة وهونت الغلو عليها، أمثال هذه السيئات اضطرت المانع أن يمنع والمحرم أن يحرم والقارئ أن يقيس الصحف بمقياس واحد ويحكم بهذا الحكم على سائر الصحافيين ولا يسعنا وأكثر الصحف مصبوغ بهذه الصبغة أن نصوب نحو هذا المندد سهم الاعتراض، ونصلت عليه سيف الانتقاد بل الواجب أن نتدارك ما فرط به بعضنا وننصح
1 / 18
لله جهدنا أملًا بأن يرجع إلى الخطة القويمة والطريقة المستقيمة وإلا فنعده في زمرة المفترين، والقوم المفسدين، وبذلك نخدم الصحافة والصحافيين ونبين فضلهما للناس أجمعين.
1 / 19