مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
الناشر
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
مكان النشر
الكويت
تصانيف
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
قطاع المساجد - مكتب الشؤون الفنية
مجالس مع
فضيلة الشيخ
محمد الأمين الجكني الشنقيطي - رحمه الله تعالى -
كتبها تلميذه
أحمد بن محمد الأمين بن أحمد الجكني الشنقيطي
المدرس سابقا بالمسجد الحرام
مكتب الشؤون الفنية
صفحة غير معروفة
مَجَالِسُ مَعَ
فضيلة الشَّيخ
مُحَمَّد الأَمينِ الجَكَنيّ الشِّنقِيطيِّ - رحمه الله تعالى -
1 / 3
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
رقم الإيداع بمكتب الشؤون الفنية - ١٢/ ٢٠٠٧ م
قطاع المساجد
مكتب الشؤون الفنية
الكويت - الرقعي - شارع محمد بن القاسم
بدالة: ٤٨٩٢٧٨٥ - داخلي: ٤٠٤
فاكس: ٥٣٧٨٤٤٧
1 / 4
تصدير
الحمد للَّه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وصلّى الله وسلّم على عبده ورسوله محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أمّا بعد:
فإنّ الله تعالى يختار لكلِّ أمّة مِن الأعلام أقوامًا، رفع الله مِقدارهم، وأعلى في النّاس شأنَهم، وهداهم إلى طريق العلم والعبادة، وأرشدهم إلى كمالات وخِلال قلَّ أن تجتمع لغيرهم؛ فأضحَوْا بذلك نجومًا يُهتدى بهم، وأنوارًا يُستضاء بهم: فضلًا من الله ونعمة.
ومِن أعلام القرْن الَّذي انْصَرَم: الشّيخ العلَّامة الفقيه الأصوليّ المفسّر البليغ، صاحبُ اليد الطُّولَى في علوم الشّريعة معقولها ومنقولها، ومَن طاعتْ له علومُ الآلة ونصوصُ الشّريعة؛ فهي على طرف لسانه وأمام عينه؛ يأخذ منها ما شاء، وينتقي منها ما أراد؛ هو الإمام: محمد الأمين الجكني الشَّنقيطيّ -تغمّده الله برحمته وصبّ عليه وابلَ رضوانه ومغفرته-.
1 / 5
هذا الإمام الَّذي أحيا الله به الجزيرة العربيّة، ونَشَر به مِن العلوم والفنون فيها ما كان مَنسيًّا ومطويًّا؛ بحيث أصبحت نجد والحجاز بمَقْدَمِهِ مناراتٍ للهدى والعلم، وصروحًا مِن أعزّ وأثمن صروح التّحصيل العلميّ في العالم الإسلاميّ.
وقد قيض الله تعالى لعلوم الشيخ المكتوبة أن يُطبع بعضها بعناية أهل العلم والدِّين، وانتفع بها مِن الخلائق ما لا يُحصِي عدَدَهم إلا الله تعالى.
لكنّ علم الشّيخ المحفوظَ في الصّدور والمخطوطَ في رزم الأوراق لا يزال بحاجة إلى مزيد عناية؛ إذ بقي الكثير من علمه مكنوزًا بين جوانحه، أو مفقودًا، أو أتتْ على المخطوط منه عوادي الزّمن.
ومكتب الشؤون الفنّية بقطاع المساجد بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة بدولة الكويت يتشرّف اليوم بإصدار كتابنا هذا والمسمّى: "مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الجكني الشّنقيطي ﵀"؛ من تأليف تلميذِ الشيخ، العلَّامة: أحمد ابن محمد الأمين الجكني الشّنقيطي -حفظه الله وأعلى في الدَّارين مقامه-، وهو مِن ألْصَق النَّاس بالشَّيخ وأخصّهم به، وأكثرِهم
1 / 6
انتفاعًا بعلمه وحرصًا على نَشْر فنونه.
ولا أَدلّ على خصوصيّة التّلميذ بشيخه وشغفه به أنّه دَوّن بعض المجالس التي جمعته بالشّيخ، فكان منها هذا الدّيوان البديع الَّذي يُعتبر ولو بصورة مقتضبة جدًا علامةً على مدى العناية الإلهيّة بالشّيخ الأمين ﵀، وأنه كان بحْرًا من العلوم لا ساحل له، وسبحانه ما أعظم الله مِن كريمِ منّانٍ ﷾! نطّلع على سِير السَّلف فنكاد نجزم بانقطاع ذاك النسيج من الأئمّة؛ فيطلّ علينا هذا الإمامُ الباقعة في الحفظ والفهم ليقول بلسان الواثق في الله تعالى: كم ترك الأول للآخر!!
إنّ مكتب الشّؤون الفنيَّة يهدف من وراء هذا الإصدار إلى الأهداف التالية:
- التَّنبيه على مدى حرص علمائنا وشدّة شغفهم بتقييد العلم وحضور مجالس الأئمّة العلماء، ومدى اهتمامهم بملفوظات شيوخهم، وهذه المجالس التي بين أيدينا ما هي إلَّا نموذجٌ على همّة المشغوفين بالتقييد والسَّماع.
- التّركيز على مدى عناية الوزارة بالتّاريخ العلميّ لعلماء الأمة.
1 / 7
- إبراز الروح العلميّة والأدبيّة التي كان عليها أسلافُنا العلماء.
- تسليط الضّوء على أدب المناظرات وفوائد المساجلات العلميّة، وأهمّية ذلك في حفظ العلم ونشره.
- الإشارة إلى ما كان عليه أولئك الجِلّة من كريم الأخلاق وجميل الصفات؛ من العلم والحلم والصبر والأناه؛ خلال مناظراتهم ومساجلاتهم؛ مِما لابد لكل طالبِ علم أن يجعله نصْبَ عينيه.
- صناعة القدوة بهؤلاء العظماء، ومحاولةُ بثّ روح الاقتداء بهم، والسّير على منوالهم.
إن هذا العمل العلمي يكتسي أهمية متميّزةً باعتباره يكشف عن ثراءِ ورقيِّ البيئة العلمية في الجزيرة العربيّة منذ عقود مضت، وتُبين مدى اهتمام أهلها بالعلم والعلماء، واحتفائها بطلبة العلم وإكرامها لهم، ويظهر منه مدى حرص العلماء على التزام الدقة والموضوعية والأمانة العلميّة.
هذا الكتاب الَّذي هو عبارة عن مجالس جمعها ودوّنها وآلَفَ بينها الشيخ العلّامة أحمد بن محمد الأمين الجكنيّ حلقة في سلسلة التراث العلميّ الذي يقدّمه مكتب الشؤون الفنية؛ آمِلا أن يكون
1 / 8
حافزًا لمواصلة العمل الجاد لتحقيقِ وتوثيقِ ودراسةِ المزيد من عناصر تراثنا العلمي المتين.
هذا وقد آثر مكتب الشؤون الفنية أن يُصدر الكتاب بترجمة لتلميذ الشيخ عرفانًا وتعريفًا به، وإن كان من المشاهير بين أهل العلم؛ وما كان تواضع الشيخ ليحملنا على كتْم التعريف به: إذ ذلك مطلب كل قارئ، واللَّه الهادي إلى سواء السّبيل.
مكتب الشؤون الفنية
الكويت
١٤٢٨ هـ -٢٠٠٧ م
1 / 9
نبذة عن حياة الشيخ أحمد بن محمد الأمين بن أحمد بن المختار
هو الشيخ أحمد بن محمد الأمين بن أحمد بن المختار المحضريّ، ثم الإبراهيمي، ثم الجكنيّ، وُلد أول العقد الخامس مِن القرن الرابع عشر، وعاش بين أبويه إلى أن بلغ سنّ التّعليم، وكان والده إذ ذاك رئيسَ قبيلته، ورئيسَ المحاكم الشرعية، وكان الاستعمار الفرنسي يُشدد وطأته على الرؤساء لأخذ أبنائهم للتّعليم؛ فبسبب ذلك دَفَعَه والدُه لتعليم اللغة الفرنسية، وذهب إلى مَحِلّةِ تُسمى "أباتيلميت"؛ حيث مقرّ الدّراسة هناك، واستمر في تلك الدّراسة حتَّى أنهى المرحلة الابتدائية، ثم توفي والده -عليه رحمة الله-، وبقي يتيمًا، ولكن كانت له همةٌ عاليةٌ حملتْه على النبوغ المبكر.
ولَما بلغ وأدرك أنَّه مِن أسرةِ ذات علمِ أقْبل على التعليم وانقطع له، فذهب إلى محضرة مشهورة هناك تسمى: "محضرة أهل ديد"؛ فلازَم بها الفقيه سيدي جعفر الملقّب بالصحّة، ولم يزل في تلك المحضرة حتَّى قرأ "مختصر خليل"، وأعاده ثانيًا، وقَرَأَ القواعد المعروفة عند المالكيّة بقواعد الفقه، وهي: "المنهج" للإمام
1 / 10
الزقاق، وتكميله لـ: مياره؛ كلاهما مالكي.
ولَما انتهى مِن الدراسة بدأ يحاول التجارة فلم تصلح له، وسافر سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وألف إلى الحجاز، وأدى فريضة الحج، ثم لزم الشيخَ الأمين صاحب تفسير "أضواء البيان" وشيخ هذه "المجالس" مدّةً طويلة، وسافر معه إلى الرياض فأحسن صحبته، وصار مِن أخص تلاميذه وأكثرهم انتفاعًا بعلمه.
ولم يزل في المملكة العربية السعودية بعد أن تقلد الوظيفة فيها إلى أن استقلت موريتانيا مِن تحت يد المحتل الفرنسيّ، وعند ذلك تاقت نفسه إلى رؤية مسقط رأسه بعد تحرره من المحتل الغاشم، فذهب إلى موريتانيا وشَغَل فيها عدَّة وظائف في وزارة الخارجية، ثم بدا له أن يترك ذلك ويرجع إلى الوطن الثاني، فذهب إلى الحجاز، وشغل عدَّة وظائف في وزارة الإعلام، ثم في سنة ١٣٨٩ هـ كُرِّم بنقله إلى الحرم المكّيّ للتدريس فيه، وعين مدرسًا بالمعهد في الحرم المكي.
ومن أهّم ما أُسند إلى الشيخ تدريسُه: أصول الفقه، وأصول التفسير، وألفية ابن مالك، وكان ممتلئًا عِلمًا، له اليد الطّولى في أنساب العرب والسّيرة النّبويّة والأدب والتاريخ، أمّا الفقه وأصوله
1 / 11
فهما فنّاهُ اللذان تخصّص فيهما، ولم يزل بالحرم مدرّسًا إلى سنة ١٤٠٨ هـ؛ حيث تقاعد.
وللشيخ عدّة مؤلّفات منها "مواهب الجليل من أدلة خليل" في أربعة مجلّدات، وله "تحقيق وتكملة عمود النَّسب في أنساب العرب" في ثلاثة مجلّدات، وله "اختصار زهر الأفنان على حديقة ابن الونّان" في الأدب، وثلاثتها مطبوعةٌ، وله نظْم يبلغ ثمانمائة بيت في البلاغة، وله شرحٌ لمنظومة لعمّته أمّ الخيرات في معجزات النبي ﷺ، وله نظمٌ في أمّهات النّبي ﷺ، وله شرح على لاميّة الأفعال، وله تهذيبٌ لشرح الشيخ محمد الأمين بن أحمد زيدان على المنهج، ولا يزال الله تعالى مُمْتنًّا على الشيخ بالعمر المبارك مفيدًا ومستفيدًا (١).
مكتب الشؤون الفنية
الكويت
١٤٢٨ هـ -٢٠٠٧ م
_________
(١) نقلنا هذه الترجمة من مقدّمة كتاب: "نثر الورود على مراقي السّعود"، بقلم الدكتور محمد بن سيدي ابن حبيب الجكني الشنقيطي، بتصرف وزيادة في بعض الألفاظ.
1 / 12
مَجَالِسُ مَعَ
فضيلة الشَّيخ
مُحَمَّد الأَمينِ الجَكَنيّ الشِّنقِيطيِّ - رحمه الله تعالى -
كتبها تلميذُهُ
أحمد بن محمد الأمين بن أحمد الجكني الشنقيطي
المدرِّس سابقًا بالمسجد الحرام
1 / 13
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾
الحمد لله الَّذي بفضله ونعمته وجلاله تتمّ الصَّالحات، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيِّدنا وشفيعنا مُحمد بن عبد الله خاتم النَّبيين ﷺ، وبارك، وَبجَّل، وكرَّم، وعلى آله الأكرمين، وأصحابه الغُرِّ الميامين الهداة المهديين، وعلى مَن اتَّبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
أمّا بعد؛ فإنَّه لَمَّا منَّ الله عليَّ أن هداني للإيمان، وإني لأرجوه أن يحفظ عليَّ إيماني حتَّى ألقاه وأنا مؤمن، كمنَّهِ علي أنْ جعلني من طلبة العلم عند فضيلة الشيخ محمد الأمين ابن محمد المختار الجكني ثم اليعقوبي، عليه وعلى والدينا رحمةُ اللَّه، وجمعنا الله به وبهم في مستقرِّ رحمته.
لَمّا رأيت هذا العالم الجليل رَنتْ إليه الأبصار، وطار ذكره في الأقطار، وذهب أهل العلم في تقديره والإعجاب به كل مذهب، وجعلوا غايتهم التزام مجالسه العلمية حيثما حلَّ أو ذهب، وكنتُ -أي العبد الفقير- ممن اغترف من مَعينهِ بغُرفةٍ كتبها اللهُ لي، وكنتُ قد صحبتُهُ في فُسحةٍ طيبةٍ من الزمن وشهدتُ عن
1 / 15
كثبٍ وقُربٍ كثيرًا من أحواله وكريم أقواله وفعاله، التي كانت للعلم مدرسةً تطبيقيةً؛ قائمةً بكفايته وحقِّه.
فأحببتُ أن أشارك إخواني طلبة العلم بشيءٍ من خبرِ مجالسِهِ العلمية، عسى أن يشفي غلَّتهم ويروي بعضَ ظمئهم إليه بعضٌ مما يقرأونه في كتابي: "المجالس"؛ هذا الَّذي سيملأ بلبناته قدرًا من الفراغات التاريخية من سيرة حياة شيخنا ﵀ ويُظهر بعض الحلقات المفقودة من معالم عصره المتوفِّر على أهل العلم، خاصةً لإخواني الناشئين في محاظر الطلب؛ أحداثِ السِّن ممن فاتهم الاتصال العلمي المباشر بشيخنا، عليه رحمة اللَّه؛ أسجِّل فيه علاقتي به، والكيفية التي كانت عليها، وحقيقة القرابة الرابطة بيننا، وصورًا من أفعاله النبيلة وآثار نفسه السَّخية، وإشاراتٍ إلى بصيرته النافذة وعقله الرجَّاح، ودلائلَ على بذخه العلمي وسعة حفظه، كما أسجِّل بعضًا من مجالسه العلمية المتناولة لمزيجٍ متنوِّع من مسائل الاعتقاد، والتفسير، والتاريخ، والفقه، والأدب مما علِقَ بذاكرتي بعدما تطاول عليه العمر، وكان لابدَّ من جمعه وتدوينه خشية عليه من أنْ يطويه النسيان أو يغرقه الضياع.
والمرء مهما حفظ ونسي، فإنه لا ينسى أيام حياته الجميلة، التي قُضيت في تعلُّم العلم وطَلَبه، والرحلة إليه ومجالسة أهله ونُخَبه،
1 / 16
وسماعِ كلام الله تعالى بتفسيره، واستنكاهِ لسان العرب وتنشُّقِ عبيره، ولا إخال أحدًا لقي شيخنا محمَّد الأمين بن محمد المختار الجكني ﵀ إلا انبهر من سمته وخلقه، وقوة استحضاره وحفظه؛ ويمكن إدراك ذلك من أثر البيئة التي عاشها أو -قل إن شئت- الحضارة العلمية التي خلَّفها أو تركها.
والنّاظر المتفحص لهذه المجالس تتجلى له هذه الظاهرة البيئية عن المجتمع الديني المحيط بشيخنا ﵀ وما كان عليه أهل الفضل والعلم في زمنه من التواصل والمباسطة، وما تحلوا به من السَّماحة وآداب المباحثة وأخلاق الحوار الراقية؛ تتجلى وتضيءُ بلا خفاء، فرحم الله تلك المجالس العامرة ورحم عمَّارها.
هذا، وإني ألتزم في الكتاب إثباتَ ما حدثني به شيخي -عليه رحمةُ الله- بنفسه أو ما وجدتُهُ مدوَّنًا بخط يده أو ما شهدتُهُ بنفسي معه، وإلّا فأذكر وأسنِدُ المعلومة إلى ناقلها من طلبة شيخنا محمد الأمين ﵀، مع التنويه بأنَّ بياني لمنهاج مصادر الكتاب -مع عدم الحاجة الكبيرة إليه! - كان اقتضاء لأصول الأمانة واستيفاء لدواعي التوثُّق.
وأرى أنَّ الكتاب يمثل وثيقةً هامّةً في تَاريخ النّهضة التعليمية
1 / 17
بالقرن الرابع عشر؛ وثيقةً شاهدةً على نبوغ تلكم المرحلة، ومدى صلابة متنها، وثبات أصلها وجذرها بما احتوته من فرسانها وعلمائها، الذين كان شيخنا رائدًا من روادها الأفذاذ، ولله ﷾ الفضل والمنة على ذلك.
مع العلم -يا أخي القارئ- أن تدوين المجالس العلمية بعد جمعها وإيراد رواياتها مسندة، نمطٌ من أنماط التآليف العلمية الأصيلة (١) التي قلَّتْ عند الكتَّاب المؤلفين، بل دَرَسَتْ عند متأخريهم لتقادم السنين عن سالف زمانها وتاريخها الماضي؛ لذلك رغبتُ في تجديد العهد بها، وأنْ أتصل إلى تلك المناهج العريقة بسببٍ متين.
ومن جهة أخرى؛ فإني طامعٌ بأنْ يتشجَّع من كانت لديه مسموعاتٌ أو مشاهداتٌ علمية -لفضيلة شيخنا على الإدلاء بها في مؤلَّف مفرَد.
وأستجلبُ في هذا المقام ما أخرجه الإمام مسلم من عموم قوله ﷺ: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا. ." الحديث، وليكن ذلك لنا شعارًا.
_________
(١) كمجالس الإمام أبي العباس ثعلب ﵀.
1 / 18
أقول قولي هذا مُوصيًا أخي القارئ بهذه المجالس خيرًا، وألَّا ينسني أو يبخل عليَّ بدعوة صالحة تنفعني إذا قضيتُ حياتي، واللَّه المستعان، ومنه نستمد العون والسَّداد، وأنْ يسلك بنا سبيل الرَّشاد.
1 / 19
مع الشَّيخ مُحمَّد الأمين
إنَّ هذا الحبر الجليل الَّذي عجزت النِّساء في هذه القرون أَنْ تلدَ مثله هو الشَّيخ مُحمَّد الأمين بن مُحَمَّد المُخْتار بن عَبْد القادِر بن أحْمد نُوح بن محَمَّد بن سِيدي أَحْمَد بن المُخْتار من أولادِ أولادِ الطَّالب أوبك من أولادِ أولادِ إِكْرير بن الموافي بن يعقوب بن جاكان، هكذا ذكر الشَّيخ عطية بن محمَّد سالم ﵀ أنَّهُ سمع هذا النَّسب هكذا من فضيلة الشَّيخ مباشرة.
يتحصَّل منه أَنِّي ألتقي معه نَسَبًا في جاكان بن علي جدِّ قبائل بني جاكان الَّذي يجمعها وتلتقي به أصولها.
وقد أخبرني شيخي عليه رحمة الله: أن جدَّهُ الأعلى يعقوب بن جاكان أخ شقيق لجدِّنا الأعلى إكرير بن جكان الَّذي تلتقي به أصولُ ثلاث قبائل من بني جاكان هي: أولاد اعْمر أقلال، وأولاد يوسف، وأولاد إبراهيم الَّذي إليه نِسْبَتي.
كما أخبرني -عليه رحمة الله-: أنَّ جَدَّهُ يعقوب بن جاكان تربَّى في حجره ابنُ أخيه إبراهيم بن إكرير، وذلك ما جعل رابطةَ بني يعقوب بأولاد إبراهيم أوثقَ من رابطتهم معَ إخوانهم الآخرين
1 / 20
على الرَّغم من أنهم سواسيةٌ في النَّسَب؛ وذلك لأن يعقوب اعتنى بتربية إبراهيم، وبتعليمه دون إخوته، ومعلومٌ الآن ما بين أولاد إبراهيم وأولاد يعقوب من الرَّوابط الوثيقة.
وإني أمُتُّ إلى فضيلة الشَّيخ أيضًا بخؤولةٍ أتشرَّف بها، ذلك أن جدي أعني جدَّ والدتي محمد محمود بن سيدي إبراهيم أُمُّه أُمُّ المؤمنين بنت السّيد من نفس الفصيلة اليعقوبية التي منها آلُ أحمد نوح رهطُ فضيلة الشيخ، وقد أفادني فضيلتُهُ -عليه رحمة الله- ذلك لما سألته، فهذه علاقتي النسبيَّة به، يجمعنا جاكان بن علي الَّذي يرجع نسبه -فيما يظهر- إلى غالب بن فهر من قريش الظواهر.
وقد شاع في القُطْرِ الموريتاني أنَّ بني جاكان قبيلةٌ حِمْيَريَّة، وقد لا يكون مخطئًا كلَّ الخطأ من نَسَبَ هذه القبيلة إلى حِمْيَر؛ لأنها كانت من ضمن قبائل الدولة اللمتونية الحميرية.
وفعلًا قد كان جدُّنا جاكان بن علي أحد ملوك هذه الدولة الصحراوية، ذلك أنهم بايعوا له -فيما يظهر- بناء على أن المذهب المالكىِ الَّذي تعتنقه هذه الدولة المغربية يوجب أن لا تكون الإمامة الكبرى إلا لقرشيِّ.
1 / 21
قال خليل بن إسحاق في مختصره -بعدما عَدَّدَ أوصاف القاضي التىِ يجب أنْ يتَّصف بها- قال: "وزِيدَ في الإمام الأعظم قرشي". اهـ.
قال العلامة الشَّيخ محمد الحسن بن الإمام الجكني ثُمَّ العمري الحاجي منهم، قال في قصيدته الرائية التي يُسميها الجكنيّة:
نحنُ الكرامُ بني جاكانَ من مُضَرا ... مِن غالبٍ جد مَنْ فاق الورى خَبَرا
. . . . إلخ.
والقصيدة معروفةٌ، وسبب إنشائه لها معروفٌ أيضًا.
وأخبرني من أثق به: أنَّ العلامة الشيخ محمد العاقب بن ما يابي اليوسفي من بني جاكان انتَسَبَ في شرحه لرسْم الطالب عبد الله وضبطه إلى قريش، وقال: "إنما حملني على الانتساب كون كل مؤلَّف لم ينتسب صاحبهُ يعتبر كاللقيط" أو عبارة نحو هذه.
وأما علاقتي الشَّخصية به عليه رحمة الله، فإني لم أحظَ بلقائه في موريتانيا، على الرغم من شهرته وارتفاع صيته إلَّا مرتين:
أولاهما بتجمُّعِ لأولادِ إبراهيم وبني يعقوب حمل عليه المستعمر الفرنسي، وكان الحاكم الفرنسي استدعى الشيخ فجاءهُ، وكنتُ
1 / 22