وأما ما حدث لآخيل فهو أن الآلهة أسكنوه دار النعيم جزاء شجاعته، وإخلاصه في صداقته؛ فقد نبأته أمه أن أجله معلق بأجل هيكتور، فإن قتل هيكتور تبعه آخيل، ولو أن آخيل لم يقتل هيكتور طال عمره، ومات شيخا، ومع علم آخيل بدنو أجله، وصدق ذلك النبأ العظيم، فقد راقه الموت بقتل هيكتور انتقاما لصديقه باتروكلس، وغيرة على شرفه، فمجد اليونان ذلك الإخلاص وتلك الصداقة في شخص آخيل؛ لأنه فضل صديقه على كل شيء، وقد جزى الآلهة آخيل جزاء أعظم من جزائهم السستيس؛ لأنهم أسكنوه دار النعيم.
لأجل هذا قلت إن الحب هو أقدم الأرباب وأفضلهم وأقدرهم على منح الفضيلة والسعادة لبني الإنسان، أحياء وأمواتا.
هذا ما رواه أريسطوديمس من حديث فيدروس، وقد تكلم بعده غيره حتى جاءت نوبة بوسانياس قال:
بوسانياس:
إننا لو قصرنا بحثنا على التسبيح بمجد الحب، وذكر محاسنه، لكان ميدان البحث محدودا، ومجال القول ضيقا، ولو كان الحب نوعا واحدا لكان لنا عذر في قصر بحثنا على مدحه، ولكن حيث إن الحب أنواع متعددة فسأقصر قولي على تمييز الحب الجدير بالمدح عن غيره، حتى إذا ميزته أثنيت عليه بما في وسعي، وامتدحته جهدي. نعلم جميعا أن الزهرة لا تعيش بغير حب، فلو كانت الزهرة واحدة لكان الحب واحدا غير متعدد، ولكن الزهرة زهرتان لا زهرة واحدة، والحب كذلك حبان لا حب مفرد؛ أما أولى الزهرتين وكبراهما فهي أورانيان، وهي بنت أورانوس البكر، ولم تلدها والدة، والأخرى صغرى الزهرتين وهي بنت المشتري وديون، واسمها باندميان؛ لأجل هذا كان لكل زهرة من تينك الزهرتين (أورانيان وباندميان) حب خاص بها؛ فحب الأولى لا يتخلى عنها، وحب الثانية يلازمها على الدوام؛ وغني عن البيان أن سائر الأرباب خليقة بالمدح والثناء، ولكن لكل رب صفات تميزه عن غيره، وقد يعلو قدر البعض على البعض؛ وتعلمون أن كل فعل من الأفعال على الإطلاق هو مجرد بطبيعته عن صفتي الخير والشر؛ فنحن الساعة في شرب وطرب وسمر، وليس في شيء مما ذكرت صفة تقصيه عن الخير، أو تدنيه إلى الشر، ولكن الحال التي نشرب عليها أو نطرب بها هي وحدها التي تصبغ الشراب والطرب بصبغة الخير أو ضده، فما نحسن صنعه بقطع النظر عن طبيعته يعد خيرا، وما نسيء فعله بقطع النظر عن طبعه يعد شرا؛ لذلك ليست سائر أنواع الحب كلها جميلة أو جديرة بالثناء.
إنما سيد أنواع الحب هو الذي لا نهون به، بل يزيدنا عزا وسؤددا؛ فالحب الملازم لزهرة بانديموس هو الحب الذي تعرفه العامة، وتهيم به كالبهم لما فيه من الشهوات الدنيئة، وهذا النوع خصيص بالطبقات النازلة من البشر، وعباد هذا الإله يعشقون الأبدان، ولا يأبهون للنفوس، ويفضلون الجهل على العلم، ويستهينون بالشرف والجمال، ولا يعملون إلا لإطفاء نيران شهوات الجسد، وهذا الحب مشتق من الآلهة الصغرى التي تجمع في طبيعتها بين الذكر والأنثى. أما الحب الملازم لزهرة أورانوس التي لا تجمع في طبيعتها بين النقيضين فهو الحب المذكر الذي يوحي الإخلاص والنقاء ، ويربأ بنا عن مواطن الاندفاع فيما تسوء عاقبته من الشهوات والفساد. وعباد هذه الآلهة يعشقون القوة والجمال في العقل والجسم، ويمكن تمييزهم عن غيرهم في إبان صباهم بتعشقهم أصحاب العقول الناضجة والنفوس الصحيحة، وأمثال هؤلاء مهما طرأ عليهم في حياتهم من التغير والتقلب في الخير والشر لا يزالون على سنن عهود المودة والإخاء لا يغيرونها، ولا يرضون بها بديلا، ولا ينبغي لأحد أن يتعشق الأحداث؛ لأنه يستحيل عليه أن يتكهن بما يكون لهم في مستقبل أيامهم من قوة العقل وضعفه، وسمو المدارك وانحطاطها، سيما وأن هذا الحب الطاهر أشرف وأرقى من أن يوضع في مواضع الشك والارتياب؛ والأخيار يضعون لأنفسهم حدودا لا يتعدونها في تلك الحال، أما الأشرار فلا بد من إخضاعهم لتلك القوانين التي يخضع لها الأخيار، أرادوا أم لم يريدوا؛ لأن من فعالهم المنكرة وطباعهم المذمومة ما يدعو البعض من الواقفين على عيوبهم وقبائحهم إلى القول بأن القيام على مسرات من نحب وخدمتهم هو من العار بمكان، مع أن من يقوم على مسرات محبوبه وخدمته حسبما تقتضيه القوانين المقبولة والعادات المستحسنة لا يكون عرضة للوم مطلقا.
إن الحكومات المستبدة الظالمة التي يعيش في ظلالها الوحشيون من البربر وغيرهم تحرم الصداقات بينهم، وتمنعهم تعليم الحكمة، وتعيب عليهم رياضة الأبدان؛ لأن كلا من تلك الخلال الثلاث يدعو إلى الألفة والمودة بين الرعية، وفي تينك النعمتين من اتحاد المحكومين وقوتهم ما يخشى عواقبه الحكام الظالمون. وحقيقة الأمر هي أن الحب وحده هو مسبب الألفة وموجد القوة، وقد انفصمت عروة الظلم، وانفرجت أزمة الاستبداد بفضل الحب الذي نبت ونما في قلبي هارموديوس وصاحبه أريستوجبتون، ولا ريب في أن الجمعية التي تعتبر فيها خدمة الأصدقاء، والسعي في نفع الأحباب عارا أو مذمة يستدل بتلك الحال فيها على فساد نية المقننين، واندفاع الحاكمين في تيار المظالم والمطامع الدنيئة، ولا يكون هذا إلا إذا كان المحكومون من الجبن والضعف والاستكانة بمكان عظيم. كذلك الجمعية التي تعتبر فيها خدمة الأصدقاء، والسعي في نفع الأحباب أمرا عاديا لا واجبا عظيما تحتمه مكارم الأخلاق، وتقتضيه الألفة يستدل بتلك الحال فيها على قربها من كمال الأخلاق، وإن كانت لا تزال بعيدة عنه، ويستدل كذلك بها على عجز الحكام والمتشرعين الذين وضعوا القوانين، وسنوا السنن عن بلوغ الغاية التي يستلزمها الود الصحيح والمحبة الصادقة.
وغني عن البيان أن أشرف الحب ما كان جهرا لا سرا، سيما لأصحاب النفوس القوية والعواطف المشتعلة، وأشرف أنواع الحب ما كان لأجل الفضيلة وكمال النفس، لا حسن الوجه وجمال الجسم. والحب الشريف يقتضي أن يحرص المحب على المحبوب ويرعاه ليبقى أبدا طاهر النفس، نقي القلب، مملوءا بالفضيلة. ومما يقتضيه شرف الحب أن نسعى جهدنا في نيل رضى المحبوب ومحبته، وقد عاب الفلاسفة من يحب ويغفل ذلك، ولتسهيل بلوغ هذه الغاية أباح العرف للعاشق أن يستعطف معشوقه بوسائل عجيبة لا تخطر بالبال، لو استخدمها الإنسان في غير استعطاف محبوبه عرض نفسه لأقسى تأنيب وأشد ذم؛ فلو أن شحيحا محبا للمال صرف عمره في جمعه وتكويمه، أو طموحا ميالا للحصول على القوة والنفوذ، سعى أحدهما إلى بلوغ غايته بالاستعطاف والتذلل والغلظ في القسم كما يغلظ المحبون، والرقاد على الأعتاب وتقديم ذاته للعبودية التي لا يطيقها أدنى الرقيق؛ فإنه لا شك يبعد ويحرم من نيل غايته بأعدائه وأصحابه؛ فإن أعداءه يذمونه لتمليقه، وأحبابه يلومونه ويتحملون عنه ما يلصق به من العيب، ولكن إذا كان عاشق يفعل كل تلك الفعال فإنه يكون منه مقبولا، ولا يخشى على كرامته وشرفه، ويقال إن الأرباب تصفح عن العاشق إذا حنث في يمينه، ولو أنه أقسم بالزهرة، وذلك كما صرحت قوانيننا؛ فإن الأرباب والبشر تمنح العاشق أعظم ما يمكن من العفو والرحمة.
إن المسألة على ظني هي كما قلت سابقا؛ فالحب لا يمكن أن يعتبر بذاته شريفا أو غير شريف؛ فإذا كانت طريقه شريفة فهو شريف، وإن كانت الطريق غير شريفة كان الحب كذلك؛ لأنه مما يحط من القدر خدمة الأدنياء، كما أن خدمة الشرفاء تعلي القدر؛ فالعاشق البنديمي الذي يحب البدن ويفضله على النفس لا قدر له، ولا ثبات له، ولا بقاء لحبه؛ لأنه وقف حبه على الشيء الزائل؛ لأنه إذا ذوت زهرة الشكل التي كانت غاية حبه، فإنه ينصرف ولا يعود غير مربوط بعهد ولا ميثاق غير خجل من الخلف في وعوده. أما محب الخلال الفاضلة فإنه يثبت مدى الحياة؛ لأنه وضع نفسه بانسجام ورغبة في الشيء الثابت الذي لا يتحول. هذان النوعان من الأشخاص ينبغي التمييز بينهما باحتراس؛ فنعاشر الواحد ونخدمه، ونبتعد عن الآخر ونذمه.
وكذلك يعدون من قلة الشرف الوقوع في الحب مباشرة؛ لئلا يكون الوقت كافيا للتحقق من حقيقة المحبوب، والتأكد من خلقه، كذلك من المخل بالشرف أن يجذب الشخص بالمال والقوة، أو أن يخشى السب فيترك الحب.
صفحة غير معروفة