جمهرة مقالات محمود شاكر
الناشر
مكتبة الخانجي
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
٢٠٠٣ م
مكان النشر
القاهرة - جمهورية مصر العربية
تصانيف
جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر
جمعها وقرأها وقدم لها
الدكتور عادل سليمان جمال
مكتبة الخانجي
صفحة غير معروفة
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة
الطبعة الأولى
رقم الْإِيدَاع: ٢٣٩٠/ ٢٠٠٣
الترقيم الدولي: ٩ - ٠١٥ - ٣٥٣ - ٩٧٧ - I.S.B.N
الشّركَة الدولية للطباعة
المنطقة الصناعية الثَّانِيَة - قِطْعَة ١٣٩ - شَارِع ٣٩ - مَدِينَة ٦ أكتوبر
ت: ٨٣٣٨٢٤٠ - ٨٣٣٨٢٤٢ - ٨٣٣٨٢٤٤
E-mail: pic@٦ oct.ie-eg.com
مقدمة / 2
"إنما حَمَلتُ أمانة هذا القلم لأَصْدعَ بالحق جِهارًا في غير جَمْجَمَة ولا إِدْهان. ولو عرفتُ أني أعجَزُ عن حَمْل هذه الأمانة بحقِّها لقذفتُ به إلى حيث يذِلُّ العزيز ويُمْتَهَن الكريم. . . وأنا جنديٌّ من جنود هذه العربية، لو عرفتُ أني سوف أحمل سيفا أو سِلاحًا أَمْضَى من هذا القلم لكان مكاني اليوم في ساحة الوغى في فلسطين، ولكني نَذَرتُ على هذا القلم أن لا يكُفَّ عن القتال في سبيل العرب ما استطعتُ أن أحمله بين أناملي، وما أتيح لي أن أجد مكانًا أقول فيه الحق وأدعو إليه، لا ينهاني عن الصراحة فيه شيء مما ينهى الناس أو يخدعهم أو يغرر بهم أو يغريهم بباطل من باطل هذه الحياة".
الرسالة، العدد ٧٥٦، ديسمبر ١٩٤٧، ص ٣، ١٤،
المقالات ١: ٤٩٠
"ولهذه الفصول غرض واحد. . . هو الدفاع عن أمة برُمَّتها، هي أمتي العربية الإسلامية. . . فصار حقًا عليَّ واجبًا أن لا أتلجلجَ أو أُحْجِم أو أُجَمْجِمَ، أوأداري، ما دُمْت قد نَصَبْتُ نفسي للدفاع عن أُمَّتي ما استطعت إلى ذلك سبيلا = وصار حقًا عليَّ أن أستخلص تجاربَ خمسين سنة من عمري قضيتُها قَلِقًا حائرًا، أصارِع في نفسي آثارَ عدوٍّ خَفِيٍّ، شديدِ النِّكاية، لم يَلْفِتْنى عن هول صِراعه شيءٌ، منذ استحكمت قُوَّتى واستنارت بصيرتي".
أباطيل وأسمار، ص: ١٠ - ١١
* * *
رحمة الله عليك يا أبا فهر، رحمة الله عليك! قَلْب الأمة الإسلامية المتوثب، وعينها الساهرة، وحصنها الحصين.
فإن تكن قد ذهبت إلى ربك راضيا مَرضِيًّا، ففي قلب هذه الأمة تعيش روحك الخالدة التي لا تفنى، وفي قلب هذه الأمة يُحْفَر قبرك الَّذي لا يُنسَى.
مقدمة / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
١ - قصة الكتاب
الحمد لله الَّذي كرَّم هذه الأمة بنور الإسلام ليخرجها به من ظلمات الجهل والشرك والطغيان، والحمد لله الَّذي شرفها بجعلها مهبط آخر رسالاته وأتمها وأكملها، والحمد لله الَّذي بعث منها سيد العالمين شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا بإذنه وسراجًا منيرًا، وأرسله للناس كافة رحمة للعالمين، ﷺ تسليمًا كثيرًا.
وبعد، قابلت الأستاذ شاكر ﵀ أول مرة عام ١٩٥٨ وأنا بعد طالب في السنة الثالثة من دراستي الجامعية وقد وضَّحتُ طرفًا من ذلك في مقالي عن كتاب طبقات فحول الشعراء (١)، وكذلك في مقدمة الحماسة البصرية (طبع مكتبة الخانجي). وعلى فارق ما بيننا من السن والعلم فقد وجد شيئًا مني ينسرب في نفسه، وأنستُ أنا به كما أنس هو بالرافعي. ولزمت داره كل يوم تقريبًا منذ مطلع الشمس حتَّى منتصف الليل، أقرأ مقالاته في الرسالة وسائر المجلات والصحف بعد أن أنتهي من عملي في رسالة الماجستير. ومضت السنون وعرفتُ عن الأستاذ شاكر ما لم أكن أعرف. وكنت شابًا طُلَعة، وكان هو شيخًا طويل الصمت، قارَّ النَّفْس، يرمى بعينيه وراء الحُجُب. ولكني كُنْتُ أحسُّ أحيانًا أن صدره يضيق بما يكتم. فقد كان يخيم علينا صمت ثقيل بعد أن نصلي المغرب ونجلس في شرفة منزله نحتسي الشاي. فإذا آنست أني مُخْرِج منه بعضَ ما أريد، أبديتُ رأيًا أو تعليقًا على بعض ما جاء في المقالات من أحداث أو رجال سماهم
_________
(١) انظر مجلة معهد المخطوطات، المجلد ٤٢، الجزء الأول، مايو ١٩٩٨، ص ٩٥ - ١٤٠.
مقدمة / 5
أو أشار إليهم ولم يسمِّهم. وتمضي الدقائق وكأنها ساعات، وإني لأشعر خلال ذلك بهذا الصراع المخيف بين إلحاح ما أَلِف وصلابة الأغلاق التي يضربها على ضمير نَفْسه وعناده الَّذي يأبى عليه الكلام عن نفسه، وبين إلحاح هذا الهم الجاثم على صدره يريد أن يجد له مَسْربًا، فقد كان الأستاذ شاكر ﵀، قاسيًا عنيفًا، ولكنه كان رقيقًا ألوفًا أيضًا، وكان جلدًا صبورًا، ولكنه ربما تخشَّع واستكان للجزع، وكان مستوحشًا آبدًا، ولكنه ربما أَلِفَ وانقاد، وكان كالطود رسوخًا وشموخًا، ولكني كنت أنفذ إليه أحيانا -عندما آنس في نفسه هذا الصراع بين القوتين- فأجد الزلزلة في قلبه، والاضطراب في نفسه، والتهدج في صوته. وعندئذ يشق كثافة الصمت الثقيل البهيم ويحدثني عما أثرتُ بما شاء إلى أن يشاء، ثم يعود إلى صمته المُصْمَت من جديد كأن لم يكن حديث. كان الأستاذ ﵀ وديعًا رقيقًا باشًّا ألوفًا، وكان قلبه يفيض شفقةً ورقةً وحنانًا، ولكنه أصيب بكوائن بعد بوائق جعلت منه رجلًا ظنونًا منطويًا حزينًا فهو لذلك يضن بما في قلبه أن يطلع عليه أحد إلا بمقدار ما يريد هو.
ثم أزاحت ندوة يوم الجمعة صخرة عن باب كهف توارت في أعماقه كنوز لفَّفها الزمن في محاريبه، ضمت الندوة رجالًا مختلفى المشارب والأهواء، منهم الساسة والأدباء والشعراء، وعاشقو التراث، ومحبو الأدب الحديث، ورجال لا يمتون إلى العربية تخصصًا أو احترافًا، ولكنهم واسعو الثقافة. وأذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الأستاذ رشاد مهنا، والأستاذ حسين ذو الفقار صبري، والشيخ الباقورى، والأستاذ عبد الله التَّل، والأستاذ وديع فلسطين، والأستاذ عبد الرحمن شاكر، والأستاذ محمود حسن إسماعيل، والأستاذ جلال كشك، والأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، والأستاذ رشاد عبد المطلب، والأستاذ سيد صقر، والأستاذ حسن كامل الصيرفي، والأستاذ فؤاد سيد، والأستاذ ياسين جمعة، والدكتور عبد الله غنيم والدكتور يعقوب غنيم والدكتور عبد الله محارب، والأستاذ أحمد المانع والشيخ حمد الجاسر والدكتور عبد الله الطَّيب في بعض الأحايين، والدكتور أبو همام، والدكتور إحسان عباس، والدكتور
مقدمة / 6
محمد يوسف نجم، والأستاذ يحيى حقي، والدكتور عبد الرحمن بدوي، والأستاذ فتحي رضوان، والدكتور ناصر الدين الأسد، ناهيك عن طلبة العلم من كل حدب وصوب مثل الدكتور شاكر الفحام، والأستاذ أحمد راتب النَّفَّاح، والدكتور عبد القدوس أبو صالح، وغيرهم ممن غابت عني أسماؤهم الآن. وكنت أنا وغيري من صغار الشباب، خاصة الأستاذ عبد الحميد بسيوني، والأستاذ الحساني عبد الله، وأخي المرحوم الطناحي والأستاذ علي شاكر، ﵀، ننتشر في مجالس القوم حيث يدور الحديث في شتى المواضيع وتحتدم المناقشات وتصطدم الآراء، وينبعث من غياهب الماضي ذكر رجال وأحداث، فسمعنا ووعينا، وعرفنا ما لم نكن نعرف عن زمن لم نشهده، ساعدنا على أن نفهم حاضرًا نتمثله. وكنت شديد الانتباه لما يتعلق بالأستاذ شاكر، فعرفت -إلى جانب ما حدثني به عن نفسه كما ذكرت آنفا- أشياء أخر عنه. واستبان لي حينئذ أنني لست أمام محقق أديب فقط (١)، ولكن في حضرة رجل مناضل مصري عربي إسلامي، نافح عن مصر وهاجم ساستها، وهَوَى بِسنان قلمه طَعْنا في الاستعمار البريطاني وأعوانه من بني جلدته ونافح عن قضية مصر والسودان، وقضية فلسطين وسائر قضايا البلاد العربية والإسلامية كما سيأتي بيانه.
فلما عرفتُ ما عرفت أدركتُ أن العزلة التي ارتضاها الأستاذ شاكر لنفسه منذ سنة ١٩٥٣ قد حالت بين جيلنا وبين عِرْفان نضاله في سبيل أمته، وأن هذا الجهل سيزداد إيغالا في مطارح الزمن، وستنشأ أجيال بعدنا أشد منا عمىً، وأقبح جهلًا، وأَضْيَع لِذِكْرِه. فاستجمعت شجاعتي ذات مساء في أواخر شهر إبريل سنة ١٩٦١، وقد آنست منه "انبساطا"، فقد كان يحدثني عن واقعة فَكِهَة حدثت في "دُكَّان الحاج سَعْد المجلِّد" ﵀ عصر ذلك اليوم، وقلت: لي رجاء هو مِن حقِّ جيلي عليك، بل ومن حق الأجيال الآتية عليك أيضًا. ففي كل أوان، بل في كل يوم، ينشأ طالب علم لم يدرك زمنه ما كتبتَ في المجلات
_________
(١) كما عرفته من كتبه كتفسير الطبري وطبقات فحول الشعراء وغيرهما، ومن قراءتي عليه المفضليات والأصمعيات والمعلقات.
مقدمة / 7
والصحف، وعسير عليه أن يلتمسه فيهما مع تباعد أزمانهما وندرة توافرهما في المكتبات. وسوف تُسْدِي إلى أُمَّتنا يدا لا تُنْسَى إذا جُمِعَت هذه المقالات في كتاب. فارتد إلى صمته فجأة، وتجهم وجهه شيئًا، ونحا ببصره إلى قِطْع من الليل جاثم من عن يمينه نحو رواق طويل تقوم رفوف الكتب على جانبيه، وأطال النظر في جوفه، ثم قال بهدوء، كهدوء البحر قبل العاصفة، في صوت يضطرب بعضه في بعض اضطراب الموج في تياره "أنا لا أحب أن أعيد نَشْر شيء كتبته وقرأه الناس قبلُ في مجلة أو صحيفة" (١). وقد اعتدت ألا أعاود الأستاذ شاكر في شيء يعزف عن الكلام فيه، فسكتَّ مُكْرَها، وكدت أُذكِّره بحديث رسول الله ﷺ "مَن سُئِل عمَّا يَعْلَمُه فكتَمَه أَلْجَمَه الله بلجام من نار يوم القيامة"، ولكني هبت أن أجْبهه بمثل هذا الكلام، وكدت أَفُوه بحديث آخر أَسْتَلِينه به: "زكاةُ العِلْم نَشْرُه"، ولكني أمسكتُ. ثم مضت ثلاث سنوات. وفي أواخر عام ١٩٦٤ بدأ لويس عوض نشر سلسلة من المقالات بعنوان "على هامش الغفران: شيء من التاريخ"، فتصدَّى له الأستاذ شاكر يُفَنِّد مزاعمه ويُبِين عن الدوافع الحقيقية من وراء هذه المقالات. ونَشَرَ أول هذه الردود في مجلة الرسالة، العدد ١٠٨٩ في ٢٦ نوفمبر ١٩٦٤ (رجب ١٣٨٤). فانبعث في نفسي أملي القديم، ولكني سترته إلى حين -تحت رجاء ما ظننتُ الأستاذ شاكر يستطيع ردَّه هذه المرة بنفس الصرامة التي قابل بها رجائي السابق.
قلت له: إني أظن ظنًا أشبه باليقين أن لويس عوض سوف ينشر مقالاته هذه في كتاب وسيكون بأيدي الناس في هذا الزمان ومستقبل الأيام إلى ما شاء الله (٢)، فإن لم تفعل كما سيفعل، فسوف ينتشر هذا العلم الفاسد الَّذي ضمنه كتابه بين
_________
(١) وهذا شيء كنت أعلمه عن الأستاذ شاكر، وبالغ في ذلك حتَّى أنَّه كان يكره أن يستشهد بكلام كتبه من قبل. يقول مخاطبًا محمد رجب البيومي "وأنا أكره أن أنقل كلامًا لي من مكان، ولكنك استكرهتني على نقله". وانظر مقال "ذو العقل يشقى"، مجلة الرسالة، العدد ٩٧٤، سنة ١٩٥٢، ص: ٢٤٥، والمقالات ١: ٥٧٤.
(٢) وقد صدق حدسي، فقد نشر لويس عوض مقالاته في "كتاب الهلال"، العدد ١٨١، إبريل ١٩٦٦.
مقدمة / 8
طلاب العلم الناشئين والغافلين، ويأخذونه على محمل الجد، فهو نتاج رجل "من كبار مثقفينا"، كما وصفه الدكتور مندور (١)، فإذا كان هذا ظن الدكتور محمد مندور، ﵀، وهو من هو في الأدب والنقد، فما بالك بظن أشباه العوام وأنصاف المثقفين؟ فالرأى أن تُجْمع مقالاتك وتنشر في كتاب يتداوله الناس، فيعرف من يقرأ حقيقة ما كتب لويس عوض، ومن تصدوا للدفاع عنه. وتعمدت إثارة هذا الأمر في ندوة يوم الجمعة وسرني أن بعض الحضور كانوا قد سبقوني إلى اقتراح ذلك على الأستاذ خلال مكالمات هاتفية، وكان الدكتور محمد رشاد سالم والأستاذ عبد الرحمن شاكر من أشد الناس تأييدًا وتعضيدًا. وبعد لأي وافق الأستاذ شاكر على جمع المقالات (٢).
وقد ظننت أن ما صدَّر به الكتاب إيذان بهجران ما أَصَرَّ عليه من إلْفِه حيث قال: "وبعدُ، فقد قَضَيتُ دهرًا أحمل القلم وأكتبُ، ولكني ظَلِلْتُ أكره أن أنشر على الناس شيئًا قد قرأوه من قبل في صحيفة أو مجلة، حتَّى إذا كان ما كتبتُه في مجلة الرسالة منذ يوم الخميس ٢٢ رجب سنة ١٣٨٤، وجدت إلحاحًا شديدًا على جَمْع ما نُشِر وإخراجِه في كتاب. وكانت حُجَّة أصحابنا قاهرةً لِحُجَّتي، ومزيلةً لما أصررتُ عليه من إِلْفِي وعسى أن أكونَ أخطأتُ الطريقَ حين أَلِفْتُ ما أَلِفْتُ، وخِفْتُ أن أكون كتمتُ عِلْمًا يَسَّره الله لي عن طالب عِلْم. ففي كل يوم ينشأ في الناس طالبُ عِلم لم يُدرِكْ زمانُه ما كتبتُ وعسيرٌ عليه أن يلتمسَه مع تفرُّقه في الصحف والمجلات. فمن أَجْل ذلك لم أجدْ بُدًّا من الاستجابة لأصحابنا، راضِيًا عنهم، لائمًا لنفسي، معتذِرًا عما فَرَط مِنِّي".
فانتهزتُ فرصة "هذا الرِّضَى" عمن أَسْدَوا إليه هذه النصيحة، وتَبَيّنِه طريقًا كان قد أخطأه، ثم لاح له لاحِبًا مُسْتَتِبًّا، ففاتحْتُه في أمر جَمْع المقالات وإخراجِها في كتاب، لا لِمَ ذَكَرَه في تصدير الكتاب فقط، بل لكي يرى جيلي
_________
(١) أباطيل وأسمار "الطبعة الثانية" ١٩٧٢، ص: ٢٠٠.
(٢) نشر الجزء الأول بعنوان أباطل وأسمار سنة ١٩٦٥، ثم صدرت الطبعة الثانية سنة ١٩٧٢ عن مطبعة المدني، القاهرة.
مقدمة / 9
والأجيالُ التالية كفاحَه في سبيل أُمَّته منذ بدأ يحمل القلم. ولكن حظي من الإجابة لم يكن بأمثل مما كان منذ ثلاث سنوات، فأمسكت مرة أخرى.
وفى عام ١٩٦٩ بدأ الأستاذ شاكر سلسلة مقالات في مجلة المجلة بعنوان "نَمَطٌ صعبُ، ونَمَطٌ مخيفٌ"، نشر أولها في العدد ١٤٧، إبريل ١٩٦٩، وآخرها في العدد ١٥٩، مارس ١٩٧٠. وأيقنت -مخطئًا- أنَّه جامعها ومخرجها في كتاب. ولكن خاب ظني (والظن هنا بمعنى اليقين). لله كيف كان وَقْع هذا اليقين الخاطئ! فلم تخرج في كتاب إلا بعد ست وعشرين سنة (١٩٩٦)!
في صيف عام ١٩٧٨ قبل سفري إلى الولايات المتحدة لأعمل أستاذًا بجامعة أريزونا أخبرني المرحوم الدكتور محمد رشاد سالم أن النية معقودة على إخراج كتاب يُهْدَى إلى الأستاذ شاكر بمناسبة بلوغه السبعين، وطلب مني أن أشارك بفَصْل فيه، ففعلتُ، وأوصاني بكتمان الأمر حتَّى لا يصل إلى سمع الأستاذ، فامتثلتُ. ولكن الأمر بَلَغ أسماعَه، وأَدَعُ الدكتور محمد رشاد سالم يحدثك عما وقع: "وكان من المفروض أن يصدر هذا الكتاب منذ سنتين، إلا أنَّه بعد أن مضتْ اللجنة في عملها واتصلتْ بالأساتذة المشاركين، وتلقَّت عددًا كبيرا من المقالات، عَلِمَ "أبو فهر" بما نحن مُقْدِمون عليه، فعَرْقَل عَمَلَنا وحَيَّرنا. وكاد أن يرفض المبدأ، حتَّى نجحنا في إقناعه والاتفاق على استمرار اللجنة" (١).
وقول الدكتور رشاد سالم "فعَرْقَل عملنا وحيَّرنا" كلام في حاقِّ موضعه إزاء إعادة نشر الأستاذ شاكر أعماله أو الكتابة عنه. فأما "عرقلة" عملي في جمع مقالاته فقد ذكرت طَرَفًا من ذلك قبلُ وأمسكتُ عن بقية هنا موضعُها. كان الأستاذ شاكر -كما ذكرت- قاسيًا عنيفًا، ولكنه كان أيضًا رقيقًا وديعًا ألوفًا حنونًا، فلم يشأ أن يقابل ما أردت من الإحسان بالإساءة والنكران، فقال متلطفًا: هذا عمل بالغ التعقيد يتطلب جهدًا ووقتًا أنت أحوج إليهما حتَّى تنتهى من رسالتي
_________
(١) دراسات عربية وإسلامية، مطبعة المدني، القاهرة ١٩٨٢، ص ١٠ م.
مقدمة / 10
الماجستير والدكتوراه. أما "الحيرة" فإنني عندما انتهيت من كتابة رسالة الدكتوراه في ديسمبر سنة ١٩٦٨ رجع الأستاذ إلى إِلْفِه الَّذي أَلِفَ ولم يأذن لي، وقال متلطفًا أيضًا: إنك ستحتاج عما قريب إلى عمل جيِّد يمكِّنك من الترقية، ولن تستطيع أن تنالها بجمع مقالاتي، هذا فضلًا عن بعدها عن مجال تخصصك في الأدب القديم. فسكت مرة ثالثة على مضض، ولكني لم أيأس، فقد كنت، ولم أزل، "صعيديًا" مثله.
اضطلع الأستاذ جمعة ياسين جزاه الله خيرًا بمشاركته في كتاب "دراسات عربية وإسلامية" بحصر ما كتب الأستاذ شاكر من مؤلفات وتحقيقات ورتبها حسب زمان صدورها بادئًا بسنة ١٩٢٦ ومنتهيًا بسنة ١٩٨٢. فأسدى إلى القراء فضلًا عميمًا، وكان ذلك عونًا لمن كتبوا رسائل جامعية عن الأستاذ محمود شاكر مثل الأستاذ محمود إبراهيم الرضواني (١٩٩٥)، والأستاذ عمر حسن القيام (١٩٩٧)، والأستاذ إبراهيم الكُوفَحى (٢٠٠٠). أما بالنسبة لي فقد ذُلِّلتْ عقبةٌ كَأْداء، فقد بات كل شيء تقريبًا كَتَبَه الأستاذ شاكر حتَّى هذا التاريخ معروفًا: عنوانه ومكان نشره وتاريخه، وما علي إلا النسخ أو التصوير.
أجمعت أمري ولممت شتات نفسي وفاتحته مرة رابعة في صيف ١٩٨٥ في جمع المقالات، فمواضعها وتواريخها الآن معروفة، وقد دلَّ هو بنفسه الأستاذ جمعة ياسين على أكثر أماكنها، هذه واحدة. نلتُ درجة "أستاذ" عام ١٩٨٠، وبذلك لم أعد مضطرًا إلى كتابة أبحاث ذات طابع خاص يتصل بمجال تخصصي، هذه ثانية. فلم يبعد ولم يقارب، وقال "ربنا يسهِّل" وعلت وجهه ابتسامة خفيفة، ونظر إليَّ كالمتعجب من إصرارى على مدى أربعة وعشرين عامًا. ومضت السنون ولم يأذن الله بالتسهيل. ولكني استبشرت خيرًا، فقد كنت أتحسس الأخبار من أخي الأصغر الدكتور فهر، وعلمت أن الأستاذ شاكر صوَّر بعض المقالات وكذلك فعل بأشعاره. ولكن حال الأَجَل دون تحقيق الأمل، فقد توفي رحمة الله عليه في ٧/ ٨/ ١٩٩٧.
مقدمة / 11
٢ - منهج الكتاب
وفى صيف العام التالي فاتحت الأستاذ عبد الرحمن شاكر والسيدة أم فهر والدكتور فهر بعزمي على جمع مقالات الأستاذ شاكر وشعره أيضًا فوافقوا شاكرين ممتنِّين. وأعطاني الدكتور فهر كل ما وجده مما جمعه الأستاذ، فقمت بمقابلته على سرد الأستاذ جمعة ياسين من مؤلفات الأستاذ، ثم بدأت رحلة شاقة مضنية مع المجلات والصحف التي نشرت فيها المقالات والأشعار، فاستكملت ما نقص، ثم نظرت في بعض ملفات الأستاذ الخاصة، فوجدت مقالة بخط يده وبعض أشعار لم تنشر. فلما استوى لي ذلك كله بدأت بالمقالات، ورأيت أن أرتبها حسب ورودها في المجلات والصحف، فأضع في مكان واحد كل ما نشر في مجلة الرسالة مثلًا، ثم مجلة الزهراء مراعيًا أثناء ذلك أسبقية تواريخ النشر. وقد وجدت عنتًا شديدًا في قراءة المقالات التي نُشِرت في الصحف كالبلاغ والمقطَّم والدُّستور والأهرام، فقد طَوَى الأستاذ هذه المقالات نِصفَيْن نِصفيْن، فتَهَرَّأ مكانُ الطَّي وتآكلَ، فضاع ما يقرب من سَطْريْن بعَرْض المقال في كل صفحة، ولكنني خلال زيارتى لمكتبة الكونجرس الأمريكى بمدينة واشنطن استطعت أن أحصل على "ميكروفيش" فيه المقالات كاملة واضحة، فأقمت النصوص، والحمد لله.
وبعد أن مَضَيْتُ شوطًا، رأى الأستاذ عبد الرحمن شاكر أن أدعَ المقالات إلى حين، وأبدأ بجمع أشعار الأستاذ شاكر أوَّلًا، وكان له في ذلك حُجَّة مُقْنِعة، لستُ في حِلٍّ مِن ذكرها، ففعلتُ، وقد بيَّنْت طَرَفًا مِن ذلك في مقدمة الديوان. حتَّى إذا أتممتُ مراجعة الديوان وشرحه والتقديم له، عكفت على المقالات سنتين أُخريَيْن. ولم يكن ترتيبها حسب المجلات والصحف التي نُشِرت فيها تبعًا لأقدمية تواريخها بالأمر السهل. وشاركنى أخي محمد الخانجي هذا العَنَت في صَبْر وأَناة، فقد كان يقوم بصَفِّ كل مقال أعثر عليه بغضِّ النظر عن تاريخه
مقدمة / 12
أو مكان نشره، ثم عُدْنا بعد ذلك لنضع كلَّ مقال مع مجلته أو صحيفته التي نُشِر بها في نسق تاريخي، واستدعى ذلك كثيرًا من التقديم والتأخير خاصة في الجزء الثاني. واضطررت في أحيان قليلة أن أتخلَّى عن هذا النسق التاريخي إذا كانت هناك مجموعة من المقالات في موضوع واحد تخللها مقال أو أكثر في موضوع آخر، فكرهت أن يفرق تاريخ النشر بين تتابع المقالات، فجعلت هذه المقالات آخذًا بعضها برقاب بعض حِفاظًا على وحدة موضوعها.
حاولت جهدي أن أقرأ المقالات بدقة، فصحَّحتُ بعض ما بدا لي فيها من أخطاء، وعسى ألا أكون قد أخطأت الطريق، ووضعت التشكيل حيث ظننتُ أنَّه مُزِيل لِلَبْس أو مُعِين على فَهْم، وشرحتُ بعض ألفاظ، أوضحتُ بعضَ ما استشهد به الأستاذ مما يجرى مجرى الأمثال، أو يكون جزء من حديث شريف، أو غير ذلك. وللأستاذ شاكر شروح قليلة أثبَّتُ أمامها اسمه (شاكر).
وكنت أنوي -لتمام العمل- أن أفعل ثلاثة أشياء، أولها: أن أكتب مقدمة ضافية، كما فعلت في مجموع شعر الأستاذ. ثانيها: أن أترجم لجميع الأعلام الذين وَرَدُوا في سياق المقالات، ولو ترجمة موجزة. صحيح أن بعض هذه الأعلام معروفة كالأستاذ سيد قطب والأستاذ مصطفى صادق الرافعي والأستاذ العقاد، ولكن صحيح أيضًا أن بعضها غير معروف خاصة للأجيال التي لم تشهد هذا الزمان مثل الأستاذ صبحى البَضَّام، والأستاذ محمد رجب البيومي، أطال الله بقاءه، والأستاذ محمد عبد السلام القبَّاني وغيرهم. ثالثها: أن أجعل ذيلًا للكتاب يَضُمَّ المقالات التي نقدت بعض كتابات الأستاذ شاكر، مثل نقد كتاب طبقات فحول الشعراء للأستاذ سيد صقر ﵀، أو ردت عليه نَقْده، مثل مقالات الأستاذ سيد قطب بشأن الرافعي والعقاد، ومقالات الأستاذ بشر فارس، والأستاذ محمد عبد الغنى حسن وغيرهم كثير.
ولكن الأستاذ محمد الخانجي -لدواعي النشر- رأى أن ذلك سيضيف ما يقرب من ثلاثمائة صفحة أخرى، فَتخلَّيت عما نَوَيْتُ.
مقدمة / 13
أما المقدمة الضافية، فسوف أضمُّ إليها المقدمَة التي كتبتُها لمجموع شعره "اعْصِفي يا رياح وقصائد أخرى" وقد نقَّحتها وزدتُ فيها دراسةً فنيةً لأسلوب شِعْر الأستاذ شاكر، فسوف أنشر ذلك جميعًا -إن أَذِن الله- في كتاب مستقلٍ. وأما تراجم الأعلام، فلن تشكِّل عبئًا كبيرًا للقارئ الَّذي يريد أن يستزيد، فأكثرها موجود في كتاب الزركلي، والموسوعة القومية للشخصيات المصرية البارزة. أما ثالث هذه الأشياء، فقد أشرتُ في الهوامش إليها، وبينَّتُ عنوانَ النَّقْد الَّذي وُجِّه إلى كتابات الأستاذ، ومكانَ نشره وتاريخَه ليرجع إليه مَن يشاء.
* * *
يقول الأستاذ شاكر ﵀ في المقدمة التي صدَّر بها كتابَ الأستاذ سعيد العريان عن "حياة الرافعي":
"ولو يَسَّر الله لكل شاعرٍ أو كاتبٍ أو عالمٍ صديقًا وَفِيًّا ينقُله إلى الناس أحاديثَ وأخبارًا وأعمالًا -كما يسَّر الله للرافعي- لما أضلَّت العربية مَجْدَ أدبائها وعلمائها، ولما تفلَّتَ من أدبها عِلْمُ أسرار الأساليب وعلمُ وجوه المعاني التي تَعتِلج في النفوس وتَرْتِكض في القلوب حتَّى يُؤْذَن لها أن تكون أدبًا يُصْطَفَى، وعِلْمًا يُتَوارَث، وفنًّا يتبَلَّجُ على سَواد الحياة، فتُسْفِر عن مَكْنونها متكشِّفَة بارزة تتأنَّق للنفس حتَّى تستوي بمعانيها وأسرارها على أسباب ودواعي السرور وما قبلُ وما بعدُ".
ويقول في كلامه عن ذكرى الرافعي (المقالات: ١٧١): "إن هذا التراث الَّذي خلَّفه الرافعي للأدب العربي، قد جعله الله أمانة بين يدي "سعيد". فهو يؤدِّي اليوم هذه الأمانة وافيه كاملة لم ينتقص منها شيء -إلا أن يُعْجِزه أن يهتدى إليه أو يقع عليه. وغدًا يجد الناس بين أيديهم كلَّ ما كتبه الرافعي حاضرًا لم يَضِعْ منه شيء منه، وكذلك يجد من يريد سبيلَه إلى معرفة الرافعي من قريب وتقديره والحكم إما له وإما عليه".
فلتَقَرَّ عَيْنًا أستاذنا الجليل، فقد يَسَّر الله لك -كما يَسَّر للرافعي- ابْنًا بارًّا
مقدمة / 14
وصديقًا وَفِيًّا وتلميذًا مَدِينًا لك بالفضل يَنْقُل عِلْمك للناس حتَّى لا تَضِلَّ العربية مَكْنونَ عِلْمك، ولا فاضلَ أَدبك، ولا أسرارَ أسأليبك، وحتى يصبح ما خَلَّفْتَ أدبًا يُصْطَفَى، وعِلْمًا يُتَوارَث، وخُلُقًا يُحْتَذَى، وهَدْيًا لأجيال خَشِيتَ أنت عليها وعورةَ المسالك ومَتالفَ الطريق.
وعسى أن أكون قد أدَّيتُ الأمانة -التي اخترتُ أن أحملها بظُلْمي وجهلي- وافية كاملة لم ينقص منها شيء إلا ما أَهْمَلْتُ لعجزي وتقصيري، أو لم أقع عليه لسهْوِي وغفلتي، وتَشتُّتي بين البلاد وغُربتي. ولإخواني من أهل العلم والفضل سابق شكري إذا تكرموا عليَّ ودلّوني على ما عجزت عن الإهتداء إليه.
وأدعو الله أن ييسر لهذه المقالات علماء شتى، كُلًّا في مجال تخصصه، خاصة في مجال الفكر السياسي، والدراسات الاجتماعية. وأُهِيب بالمتخصصين في اللغويات linguistice وعلماء اللغة بالنظر في مقالاته الثلاث عن "علم معاني أصوات الحروف" وآرائه الأخرى المبثوثة في ثنايا المقالات، كما في مقال "الطريق إلى الحق"، "المُنْطَلِق"، "وبِشْر أيضًا" وغيرها، ثم بعد ذلك وفوق ذلك ما بثه في "نَمَطٌ صَعْب ونَمْطٌ مخيف". كما أحثُّ نُقَّاد الأدب على إنعام النظر في مقالاته الخمس بعنوان "من مذكرات عمر بن أبي ربيعة"، فهي وإن اعتمدت أشخاصها وبعض أحداثها على حقائق تاريخية، فهي أَدَبٌ مُنْشِئ Creative literature. كما أدعوهم إلى تدبُّر مقالاته الثلاث عن "شاعر الحب والفلوات: ذو الرمة"، فهي نمط فريد من الدراسة، ليس تاريخًا لحياة الشاعر، وليس تحليلًا لشعره، وإنما هي تَدسُّسٌ في مشاعره وأحساسيه وآماله وهواجسه، حتَّى لكأنك مع الشاعر مع مأساة حُبِّه يومًا بيوم. كما أدعوهم أيضًا إلى التوقَّف أمام مقالاته الثلاث "إلى أين؟ "، فهي تجمع بين السيرة الذاتية، وفن "المقال" في أرفع مناحيه. ثم فَلْيَحُطُّوا الرِّحال لوَقْفَة طويلة أمام مقالاته الثلاث "المتنبي: ليتني ما عرفتُه" وتحليله الرائع الدقيق لعملية "الإبانة والاستبانة".
وأنا أدعو النقاد الذين أخذوا بحظٍّ وافرٍ من الثقافة الغربية -وهم كُثْر، والحمد لله- للنظر في كل ذلك حسب أصول النظر الغربي، لكي يستبين أن
مقدمة / 15
هذا الرجل الفَذّ نَسِيج وَحْدِه قد نَفَذ إلى أسرار نظريات شتى يَحْلو لنا أن ننسبها إلى علماء الغرب وحدهم، ونستشهد بكلامهم تأييدًا لما نقول، غير ناظرين إلى مرمى ليس أبعد من موضع سجودنا.
مقدمة / 16
٣ - كلمة واجبة
إذا كانت ظروف النشر قد حالت دون كتابة مقدمة دراسية لهذه المقالات النفيسة، فلأقتصر هنا على بيان جانب معين في شخصية الأستاذ شاكر، وعسى أن يكون في ذلك بيانٌ لما أسلفته في "قصة الكتاب" من كراهية الأستاذ شاكر لإعادة نشر شيء سبق له نشره.
حقق الأستاذ شاكر كُتبا معروفة، وكتب دراسات عن الأدب العربي مذكورة، ونظم أشعارًا فريدة، خاصة القوس العذراء، ولكن فعل ذلك كثيرون غيره، وإن لم يلحقوا به في هذا المضمار. غير أن أعماله قوبلت بالصمت المُنْكَر زمنًا طويلًا، وتوالت الدراساتُ والرسائل الجامعيةُ عن محقِّقِين وكُتَّاب وأدباء وشعراء دون الأستاذ شاكر علمًا وموهبة، وما كُتِبَ عنه حتَّى دخوله في العزلة التي ارتضاها لنفسه سنة ١٩٥٣ لا يعدو أن يكون نقدًا لبعض ما كتب أو تقريظًا لا يتجاوز أسطرًا معدودات، ولأضرب مثالًا واحدًا بشعره، فالشعر أكثر سيرورةً وقُرَّاء من تفسير الطبري أو طبقات فحول الشعراء. قلت في مقدمة مجموع شعر الأستاذ شاكر "اعْصِفِي يا رياح وقصائد أخرى" ص: ١٣٥ - ١٣٦ ما يلي "والعجب كل العجب أن يُهْمَل هذا الشعر حتَّى الآن. فإن قلتَ: ربما كان ذلك لأنه كان مُفَرَّقًا في مجلتي المقتطف والرسالة، فعَزَّ تيسُّرُه في أيدي الباحثين. قلتُ: كذلك كان شعر بعض شعراء مدرسة أبوللو الَّذي عكف عليه الدكتور محمد مندور ﵀، وهم لا يدانون الأستاذ شاكر في شاعرية أو فكر". وإذا كان التماسُ هذا الشعر لِتفرُّقِه في المجالات أمرًا عسيرًا حال دون دراسته، فكيف نفسر موقف النُّقَّاد من "القوس العذراء"، فهي قصيدة طويلة جدًا ظهرت أول مرة في مجلة الكتاب (المجلد ١١، عدد فبراير ١٩٥٢)، وقدم لها الأستاذ عادل الغضبان بكلمة تقريظ قصيرة بعنوان "توطئة" ص: ١٥٤. وفي عدد مارس ١٩٥٢ من نفس المجلة كتب الأستاذ جمال مرسى بدر كلامًا
مقدمة / 17
لا يتعدى صفحة واحدة مزج فيه تقريظًا بنقد، قال ص: ٣٨٠ "وقفت طويلًا عند ملحمة القوس العذراء للأستاذ الكبير محمود محمد شاكر مأْخُوذًا بمحاسن هذه الخريدة الفريدة، مُمَتِّعا الروح بما حوت من خيال رائع، ونسيج متين. غير أني لاحظت في قليل من أبيات مطلع هذه القصيدة العصماء خَلَلا أَفْقَد نغمها انسجامه"، ثم أورد ثلاثة أبيات هائية (فقضاها، رآها، سَوَّاها) ورأى أن زيادة تفعيلة فيها أخلت بوزن مجزوء الرمل. ثم نشر الأستاذ محمد سعيد المسلم في نفس المجلة (المجلد ١٢، عدد فبراير ١٩٥٣، ص: ٢٩٣ - ٢٩٥) نقدًا تابع فيه الأستاذ جمال مرسي، حيث زاد أربعة أبيات من الهائية، وهي البيت السادس، وفيه زيادة كلمة، والبيت التاسع وفيه زيادة كلمة، والبيتان السابع عشر والثاني والعشرون، وكلاهما يزيد تفعيلة. ثم أورد الأبيات الثلاثة التالية لذلك وهي (فَداها، وشاها، هواها) وعلق عليها قائلًا: "فذوقي يقف إزاء هذه الأبيات الثلاثة المُدَوَّرة حائرًا! لا يدرى! كيف يرجعها إلى أي بحر من بحور علم العروض؟؟ أتراها بحورًا جديدة اخترعها الشاعر؟ " (ص: ٢٩٤). وأورد بيتًا من اللامية فيه خلل.
ثم نُشِرَت القصيدة في كتاب مستقل من القطع الصغير سنة ١٩٦٤، فكتب عنها أستاذنا المرحوم الدكتور زكي نجيب محمود (مجلة الكتاب العربي، العدد: ١٥، سنة ١٩٦٥، ص: ١١ - ١٥) مقالًا هو بالمدح والتقريظ أشبه منه بالدرس والتحليل.
فكما ترى لم يكتب شيء جاد عن هذه القصيدة الفريدة طوال ثلاثة عشر عامًا من تاريخ نشرها. ثم مضت سبعة عشر عامًا أُخَر حتَّى كتب عنها الدكتور إحسان عباس -أطال الله بقاءه- والدكتور محمد مصطفى هدَّارة، ﵀، دراستيْن قيمتيْن في الكتاب الَّذي أهديناه للأستاذ شاكر بمناسبة بلوغه السبعين، وطُبِع سنة ١٩٨٢. ولا أَدْرِى إذا كان الأستاذان الجليلان سيكتبان عن هذه القصيدة لولا الكتاب؟ لا أدري! وقد حاول الدكتور إحسان عباس أن يُعلِّل سبب إهمال الدارسين لها بما فيهم هو نفسه، وهو تعليل لم أجد فيها مَقْنعا (ص ١٣ - ١٤).
مقدمة / 18
فهذِي ثلاثون سنة من الإهمال والتغاضي والجحود والنكران لإنتاج علَّامة فذّ، لم يَجُد الزمن بضَرِيبة له منذ عبد القادر البغدادي.
وليت الأمر من إهمال مُسْتشنَع اقتصر على عِلْم الأستاذ شاكر وجهوده في ميادين التحقيق والأدب والشعر، بل تعداه إلى ماهو أشد وأنكى وأبشع، تعداه إلى كفاحه الطويل وجهاده العنيد في شمم وإباء وعزم ومضاء في سبيل أمته العربية: أرضها، ووحدتها، وحريتها، وقوميتها، ودينها ولغتها. فهو كما قال عن نفسه بحق -ونقلت ذلك في صدر هذا التقديم- إنه جندي من جنود العربية، نصب نفسه للدفاع عن أمته.
دافع عن مصر دفاعًا مجيدًا وهاجم ساستها هجومًا عنيفًا، واتهمهم بأنهم صنائع بريطانيا، شَنَّ عليهم وعليها غارة شَعْواء، وتمسَّك بشِعار فتى مصر مصطفى كامل ﵀ "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء". يقول الأستاذ شاكر مخاطبًا من اختاروا حَلَّ القضية المصرية عن طريق التفاوض مع بريطانيا "وليعلم هؤلاء المفاوضون أنهم لا يملكون التصرف في رقاب أهل مصر الحاضرين، ولا في رقاب الأجيال الآتية، وأنهم وإن كانوا مصريين كرامًا، إلا أن مصر خالدة على وجه الدهر، وهي أكرم على أبنائها ورجالها الآتين. . . ونحن الشباب الناشيء نعرف أن الحياة لا معنى لها إذا خلت من الشرف والكرامة، وأن الشرف والكرامة عندئذ هي الموت. فَلْنَمُت كرامًا صادقين، فذلك خير من أن نعيش أذلَّاء مُسْتَعْبَدِين" (١).
ونافح عن قضية وادي النيل، فهو مصري سوداني، وإن شئت سوداني مصري، يقول واصفًا العلاقة بين شطري الوادي "فالحقيقة التي ينبغي أن لا نتمارَى فيها بالعصبية أو الكبرياء هي أن السودان سيد هذا الوادي الَّذي يمده النيل بمائه. وإذن فالسودان هو أحق الشقيقين باسم الدولة، فإما أن يسمى وادي
_________
(١) "اسلمي يا مصر"، مجلة الرسالة، العدد ٦٩٤، سنة ١٩٤٦، ص ١١٥٩، والمقالات ١: ٣١٣.
مقدمة / 19
النيل كله باسم الدولة المصرية برضَى أهل السودان، أو أن يسمى هذا الوادي باسم الدولة السودانية برضى أهل مصر " (١). لذلك انتقد ساسة مصر والسودان الذين قبلوا أن يفصلوا بين قضية مصر وقضية السودان، فقد كان من سياسة بريطانيا قديما أن تمزق وحدة شعب وادي النيل، فأوجدت رجالا يتطلعون إلى مناصب الحكم كما يتطلع الظمآن إلى الماء. وكان من سياسة بريطانيا أن تلاين وتساير حتَّى يصبح السودان شيئًا قائمًا بذاته وقضية منفصلة عن قضية مصر. "وكان من سياستها أن تُغْرِي شهوات قوم من أهل السودان بالحكم أو السلطان، ففعلت، وانقسمت فئةٌ من أبنائه مُضَلَّلين بوعود كاذبة لم تتحقق. وخرجت عن بقية الشعب مؤُزرَةً بالمال فَفَجَرت ومَرَدَتْ، وبريطانيا من ورائهم تنفُخ في نيرانهم حتَّى يأتي اليوم الَّذي يجعلونهم فيه حَرْبًا على بلادهم وهم يظنون أنهم يفعلون لخيرها وفلاحها" (٢). لذلك دعا شعبَ مصر والسودان إلى تأييد الوفد المصري السوداني الَّذي سيَعْرِض القضية المصرية السودانية على مجلس الأمن، وإن لم تجتمع لأعضاء هذا الوفد الصفاتُ التي ينبغي أن تجتمع لوفد مثله، "لأن الشعب المصري السوداني شعب كريم ذكيُّ الفؤاد، تجتمع قلوبُه عند المحنة يدًا واحدة على عدوِّه الباغي إليه الغوائل" (٣). ومن ثم فقد وجَّه نداء إلى السيد المهدي أن يضع يده في يد أخيه السيد الميرغني ويخرجا على بريطانيا مرة واحدة، ويعلنان أن مصر والسودان أُمَّة واحدة، وأن بريطانيا كاذبة فيما ادَّعت علينا وعليهم، وأن لا حياة لأحد الشطرين إذا اقتطع عن صاحبه (٤).
_________
(١) "مصر هي السودان"، مجلة الرسالة، العدد ٧٠٨، سنة ١٩٤٧، ص ١٠٥، المقالات ١: ٣٥٧.
(٢) "قضى الأمر"، مجلة الرسالة، العدد ٧٢٦، سنة ١٩٤٧ ص: ٦٠٨، المقالات ١: ٤٠١ - ٤٠٢.
(٣) نفس المصدر والصفحة.
(٤) "شهر النصر"، مجلة الرسالة، العدد ٧٣٤، سنة ١٩٤٧، ص: ٨٣٦، المقالات ١: ٤٢٥.
مقدمة / 20
ووادي النيل -مصر والسودان- هو البلد الَّذي وُلِد فيه الأستاذ شاكر، وعاش في شطره الثاني والده الشيخُ محمد شاكر أربع سنوات تولى فيها منصب قاضي القضاة، ولكن وادي النيل ما هو إلا جزء لا يتجزأ من الأمة العربية. والأستاذ شاكر مؤمن بهذه الأُمَّة وبوحدتها واستقلالها "لا يحتلُّ عراقَها جنديٌّ واحد، ولا تخضع جزيرتها لسلطان ملوك البترول (١)، ولا ينال نيلَها من منبعه إلى مصبه سلطانُ بريطاني أو غير بريطاني. ولا تقع شامُها ولُبْنانها تحت سطوة غاصِب، ولا يعبث في أرجها مَغْرِبها فرنسي خبيثُ القول والفعل مجنونُ الإرادة. هذا كلُّه شيء لا يملك كائنٌ مَن كان أن يُجْبِرنا على خِلافه أو على الرِّضَى بِه" (٢).
"وينبغي أن لا نرضى منذ اليوم أن نُفَرِّق قضيةَ العرب ونجعلها قضايا ممزَّقة: هذه قضية مصر والسودان، وتلك قضية فلسطين، والأخرى قضية طرابلس وبرقة، والرابعة قضية تونس، والخامسة قضية الجزائر، والسادسة قضية مراكش، والسابعة قضية العراق. بل إن هذه القضايا كلها قضية واحدة لا تنفكَّ منها واحدة عن أختها أبدًا" (٣).
والأُمَّة العربية أيضًا جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية. فأهمَّه ما تتعرَّض له البلادُ الإسلامية من البلاء، يقول عن باكستان "انظروا فهذه دولة باكستان، قد اجتمعت فيها كلمة المسلمين على أن يكونوا أمة عدتها مئة مليون، فإذا عُبَّاد البُدِّ (بوذا) قد دمروا عليهم من كل مكان يذبحونهم ويقتلونهم ويفتكون بالنساء
_________
(١) لا يعني الأستاذ شاكر حكام البلاد، فيما أخبرني، وإنما هؤلاء الأجانب الذين يأخذون بترول بلادنا ليديروا بها مصانعهم لتغزو منتجاتها أسواقنا. ولكن انظر ١: ٤١٦.
(٢) "شعب واحد وقضية واحدة"، مجلة الرسالة، العدد ٧٣٠، سنة ١٩٤٧، ص: ٧٢٣، والمقالات ١: ٤١٢، وانظر أيضًا العدد ٧٣٢ من الرسالة، سنة ١٩٤٧، ص ٧٧٧، والمقالات ١: ٤١٥، ومواضع أخرى كثيرة.
(٣) المقالات ١: ٤١٣.
مقدمة / 21