الجانب الإيجابي على أية حال هو الذي جعل اسم بيكون يقترن بالعلم الحديث والعصر الحديث، وينقسم إلى قسمين أو مرحلتين: المرحلة الأولى هي إجراء التجارب، حيث تحدث بيكون عن أنواع ودرجات التجريب، وهي: تنويع التجربة، تكرارها، إطالة أمدها، ونقلها إلى فرع آخر من فروع البحث، وقلب التجربة وإجراؤها بصورة معكوسة، وإلغاؤها لدراسة الصورة السلبية لموضوع البحث، وتطبيقها لاستكشاف خاصية نافعة، وجمع التجربة لزيادة فعالية مادة البحث بالجمع بينها وبين فاعلية مادة أخرى، وصدف التجربة أي إجراؤها فقط لكونها لم تجر بعد.
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة تسجيل نتائج التجريب في ثلاث قوائم تصنيفية، تنتظم فيها الوقائع التجريبية تمهيدا لاستخلاص نتائجها، وهي: أولا قائمة الحضور أو الإثبات؛ حيث يضع الباحث جميع الحالات التي لاحظ عن طريق التجربة، أن الظاهرة موضوع الدراسة تتبدى فيها، وثانيا قائمة الغياب أو النفي؛ حيث يسجل الباحث الحالات التي تغيب فيها الظاهرة، فمثلا إذا كان موضوع الدراسة هو أثر ضوء الشمس على نمو النبات، نحاول أن نعرف ماذا يحدث لهذا النبات إذا غاب عنه ضوء الشمس، وهذه القائمة تجعل استقراء بيكون منهجا علميا وليس مجرد تعداد ساذج، والنفي أقوى منطقيا من الإيجاب، وقوة المنهج العلمي في البحث عن الأمثلة النافية وليس الأمثلة المؤيدة، مثلما يعلمنا منطق التكذيب البوبري. وأخيرا قائمة التفاوت في الدرجة؛ حيث يسجل الباحث وقائع حدوث الظاهرة محل الدراسة بدرجات متفاوتة.
هذه القوائم الثلاث محاولة منهجية ناضجة نسبيا لتصنيف المعطيات، والتصنيف إجراء له أهميته في البحث العلمي . على أن قائمة التفاوت في الدرجة محض تنويه سطحي لأهمية التكميم، وبيكون قد تحامل على الرياضيات؛ لأنها استنباط خالص ينأى بالباحث عن الطبيعة والتجريب! وفي تعيين ثغرات بيكون وقصوراته، نجده كان يريد من منهجه أن يفضي به إلى معرفة أو اكتشاف الصور
Forms ؛ أي صور الطبائع البسيطة
Simple Natures ؛ فقد رأى أن كل شيء في العالم يمكن رده إلى مجموعة من الطبائع البسيطة عددها اثنتا عشرة طبيعة، كالضوء والوزن والحرارة ... إلخ، ومن اجتماع هذه الطبائع وتفرقها تتكون سائر الموجودات، وهدف العلم الطبيعي هو اكتشاف أسباب هذه الطبائع؛ أي صورها، قائلا إن الصورة ليست تجريدا أو فكرة مثالية، بل هي شرط فيزيائي للطبيعة البسيطة، أساس لها ومباطنة فيها، الصورة تمثل علة معلولها الطبيعية البسيطة.
تبدو «الطبائع البسيطة» فكرة جوفاء ولا علمية، والأدهى أن بيكون تصور مجموعة من الأبحاث تجرى في بضع سنوات أو عقود تستقصي صور الطبائع البسيطة، فيكتمل نسق العلم الطبيعي! هكذا كان تصوره لعالم العلم الطبيعي على قدر من السذاجة.
ويبقى أهم المآخذ على منهج بيكون في أنه لم يفطن لأهمية الفروض، بل حذر منها وأسماها استباق الطبيعة، وكأن المنهج العلمي يمكن أن يقتصر على محض استقراء للوقائع. إن الفروض سر تقدم العلم، إن لم تكن هي العلم نفسه، وبغيرها لا جديد.
أضف إلى هذا أن بيكون نفسه، قاضي القضاة وحامل الأختام الملكية، لم يكن عالما ولا حتى متابعا جيدا لتقدم العلم والخطوات الشاسعة التي قطعها في عصره، لم يهتم باكتشاف طبيبه الخاص وليم هارفي
W. Harvey (1578-1657م) للدورة الدموية. وحتى نظرية كوبرنيقوس ذاتها عارضها بيكون! بوصفها فرضا أهوج، ما دامت الخبرة الحسية التجريبية تخبرنا بأن الشمس هي التي تدور في سماء الأرض! ولم يقدر نظريات كبلر وجاليليو حق قدرها، ولم يعترف بأبحاث جيلبرت في المغناطيسية.
جهوده العلمية متهافتة، لكنه قام بتجربة دفع حياته ثمنا لها: دفن دجاجة مذبوحة في جليد لندن، ليختبر أثر البرودة في وقف تعفن اللحم، وبعد بضع ليال خرج في يوم قارص البرودة ليرى نتيجة التجربة، وكم كانت سعادته حين وجد الدجاجة سليمة، لكنه أصيب بنوبة برد قاتل ألزمه فراش الموت؛ حيث قال قولته الشهيرة، التي أصبحت شعار العصر: «لقد نجحت التجربة.» فهل يقصد تجربة الدجاج والبرودة؟ أم كان يقصد أن التجربة قد نجحت في فرض ذاتها على روح العصر الحديث وروح العلم الحديث، فبات الأورجانون الجديد شريعة الاثنين معا.
صفحة غير معروفة