إنه اختراع في تاريخ العقل الرياضي، يوازي اختراع العجلة في تاريخ العقل التكنولوجي. مؤرخون آخرون يرون العكس؛ أي إن رموز الأرقام اختراع هندي انتقل من الهند إلى العراق القديمة. إن الهند وجارتها الصين مهد من مهود الحضارة الإنسانية، أسهمت بنصيبها في هذه المرحلة الباكرة والأولية التمهيدية من تاريخ العلم؛ حيث وعورة شق الطريق وتعبيده، ليكون الإبداع الأصيل. على أن الصين القديمة تراجعت فيها الرياضيات والتفكير البرهاني والمنهج الاستنباطي، ولم تعرف حتى رموز الأرقام الهندية . عرفت التفكير القانوني وعرفت التفكير في الطبيعة، لكنها افتقرت إلى الأساس المنهجي الاستدلالي. ألقت الصين بثقلها في التطبيقيات والتقانيات، لتحتل موقعها في تاريخ التكنولوجيا، وقدمت فيما بعد ابتكارات عديدة مثل: الساعة المائية، والبوصلة، والبارود، والورق ... وتفرغ جوزيف نيدهام
J. Needham
لأمر العلم في الصين القديمة، ليكشف عن كنوزه في موسوعة من سبعة أجزاء.
كانت الممارسات المعرفية للمنهج العلمي في الحضارات الشرقية عموما، ونشأة العلم ونموه استجابة للحاجات العملية الملحة. وكان العلم البدائي المطروح آنذاك في صياغته ودرسه حكرا على طبقة الكهنة. ومع هذا لم ينفصل عن النموذج المعرفي وإطار البنية التصورية، بما احتوته من أساطير وعقائد؛ لأن العلم وممارسة المنهج العلمي منغمسة بشكل ما في الواقع الثقافي المعيش. (3) في حضارة الإغريق
ثم كانت نقلة حاسمة في المرحلة الحضارية التالية حيث النموذج الإغريقي الأنضج والأقدر، قام بالدور العظيم في تنضيد العقل النظري الإطاري للمنهج العلمي كآلية معرفية.
والمشكلة أن تثبيت مركزية الحضارة الغربية وإمبرياليتها إنما يمتد إلى الإغريق، باعتبارهم أصول الحضارة الغربية. يسرفون في تمجيد ما أسموه بالمعجزة الإغريقية، بزعم أنها بدأت من نقطة الصفر المطلق، بإهدار تام لدور الحضارات الشرقية القديمة الأسبق. وعبر فجوة باهتة مظلمة هي العصور الوسطى، قام فيها العرب بدور ساعي البريد أو حافظ الأمانة، الذي أدخل عليها بعض التجديدات - بتعبير رشدي راشد - انتقل العلم من الإغريق إلى أحفادهم وورثتهم الشرعيين في غرب أوروبا. هكذا تبدو قصة العلم وتجليات المنهج العلمي من ألفها إلى يائها قصة غربية خالصة! لتكون الحضارة البشرية ملكا خالصا للغرب، له أن يقسمها كما يشاء، ومن حكم في ماله فما ظلم، وبالتالي استعمار العالمين عدل وحق وواجب للغرب!
لقد كان الإغريق أول قوم في أوروبا يخرجون من الوضع القبلي البدائي، ويصنعون مدنية وثقافة متنامية، قبل الميلاد بعشرة قرون، إنهم بداية الحضارة الأوروبية فتسهل المغالطة والزعم بأنهم نقطة بدء الحضارة الإنسانية بجملتها، وليس الأوروبية فقط، وأجج من هذا ضعف الحصيلة المعرفية عن العلم القديم، وما كان شائعا من خفوت الوعي بأهمية تاريخ العلم، تراجع هذا الآن مع تنامي وتطور مباحث تاريخ العلم، والتطور الذي لحق بفلسفة العلوم خصوصا بعد كتاب توماس كون «بنية الثورات العلمية» (1962م)، فباتت تسلم بأن حاضر العلم لا يفهم بدون ماضيه، وأن تاريخ العلم ضروري من أجل فهم ظاهرة العلم فهما حقيقيا أكمل، والمحصلة أن تتكامل قصة العلم ومنهجه عبر الحضارات.
في المنظور التكاملي يبدو النموذج العلمي الإغريقي مرحلة تالية لمرحلة الحضارات الشرقية القديمة، مستفيدة منها ومواصلة لمسارها. بدأت في أيونيا ببلاد اليونان وليس في أي مكان آخر من أوروبا، لقربها وسهولة اتصالها بمواطن الحضارات الشرقية الأسبق منها، لا سيما مصر وفينيقيا وبابل، فكانت تمثلا واستيعابا لميراثها، ثم تطويرا له. أقر عدد من العقليات العظمى في حضارة الإغريق أمثال: هيرودوت أبو التاريخ، وطاليس أول الفلاسفة، والفيلسوف العظيم أفلاطون شيخ المثالية، وهيبوقراط، وسواهم بأنهم زاروا طيبة وبابليون، أي مركز الحضارتين الفرعونية والبابلية، وتعلموا منهما، ومثلت مصر القديمة بالذات مثلا أعلى ماثلا أمام الإغريق.
وكان العلم الإغريقي هو المقابل الصريح للعلم الصيني؛ فبينما اهتم هذا الأخير بالجوانب التطبيقية والتقانية، أغفل الجوانب المنهجية النظرية والاستدلالية، فإن العلم الإغريقي قد فعل العكس تماما، اهتم بالنظري والبرهاني دونا عن التجريبي والتطبيقي. وكان الفضل العظيم للإغريق في صياغة الأصول النظرية العقلانية للمنهجية، وهيكل التفكير البرهاني الاستدلالي، وتقنين مفاهيم من قبيل القانون والنظرية والحجة والبينة، على الإجمال شق الطريق نحو بلورة مثل المنهج العلمي وإرساء أسسه العقلانية.
ثمة أيضا فروض خصيبة طرحها بعضهم، خصوصا الفلاسفة القبل سقراطيين الذين بدأت معهم الفلسفة الغربية بدايتها الحاسمة المعتمدة، وتحديدا مع فلاسفة المدرسة الملطية نسبة إلى مدينة مليتوس على ساحل إيونيا بآسيا الصغرى (تركيا الآن)، الذي سكنه قوم من الإغريق وظهر فيها رائدهم طاليس أول الفلاسفة جميعا. السؤال المحوري الذي دارت حوله المدرسة الملطية والفلاسفة القبل سقراطيين عموما، هو السؤال عن «الأرخي»؛ أي المادة الخام التي صنعت منها الطبيعة أو المبدأ المادي الأول الذي يرتد إليه العالم المحسوس بأسره. قال طاليس إن الماء هو أصل الأشياء جميعا، وتبعه تلميذه أنكسماندر الذي قال إن «الأبيرون» أو عنصرا هيوليا غير محدد وغير متعين هو أصل الأشياء، ثم جاء أنكسيمنس ليقول بالهواء. أما فيثاغورث الذي ظهر في القرن السادس ق.م باذخ العطاء، ويصغر طاليس بثلاثين عاما، فقد قال إن العدد هو أصل الأشياء جميعا، وقام بدوره المبدئي المبكر في ترييض التفكير العلمي ومنهجه.
صفحة غير معروفة