الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هذه السورة
فقه الفاتحة:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ، وَعَنِ الْأَصَمِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهَا لَا تَجِبُ.
لَنَا أَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْقِرَاءَةِ واجب وتزيد هَاهُنَا وُجُوهًا: - الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاءِ: ٧٨] وَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ الْقِرَاءَةُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَقِمْ قِرَاءَةَ الْفَجْرِ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ.
الثَّانِي:
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: أَفِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةٌ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ السَّائِلُ:
وَجَبَتْ، فَأَقَرَّ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ الرَّجُلَ عَلَى قَوْلِهِ وَجَبَتْ.
الثَّالِثُ:
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ: أَيُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ ﵊: أَتَكُونُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ،
وَهَذَانَ الْخَبَرَانِ نَقَلْتُهُمَا مِنْ «تَعْلِيقِ الشيخ أبي حامد الإسفرايني» .
حُجَّةُ الْأَصَمِّ
قَوْلُهُ ﵊: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي،
جَعَلَ الصَّلَاةَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَرْئِيَّةِ، وَالْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ بِمَرْئِيَّةٍ، فَوَجَبَ كَوْنُهَا خَارِجَةً عَنِ الصَّلَاةِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ إِذَا كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَانَتْ بِمَعْنَى الْعِلْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀: قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا حَرْفًا وَاحِدًا وَهُوَ يُحْسِنُهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ.
لَنَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ﵊ وَاظَبَ طُولَ عُمْرِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا ذلك، لقوله تعالى: وَاتَّبِعُوهُ وَلِقَوْلِهِ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النُّورِ: ٦٣] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: ٣١] وَيَا لَلْعَجَبِ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَمَسَّكَ فِي وُجُوبِ مَسْحِ النَّاصِيَةِ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مَا
رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَخُفَّيْهِ،
فِي أَنَّهُ ﵊ مَسَحَ عَلَى النَّاصِيَةِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ الْمَسْحِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَهَاهُنَا نَقَلَ أَهْلُ الْعِلْمِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا أَنَّهُ ﵊ وَاظَبَ طُولَ عُمْرِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ غَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَيْهَا، وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ: وَالصَّلَاةُ لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ مُحَلَّاةٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهَا الْمَعْهُودَ السَّابِقَ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ مِنْ لَفْظِ الصَّلَاةِ إِلَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَأْتِي بِهَا: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ» جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِهِ: «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ الَّتِي كَانَ يَأْتِي بِهَا
1 / 168