مدخل إلى العلاج النفسي الوجودي

عادل مصطفى ت. 1450 هجري
78

مدخل إلى العلاج النفسي الوجودي

تصانيف

في كثير من الأحيان تكون طبيعة الموقف العلاجي هي التي تملي المدخل العلاجي الأنسب لها. وهي قاعدة تنسحب بدورها على العلاج الوجودي. وعلى المعالج في كل برنامج علاجي أن يحدد أهدافه المرجوة وفق ما يقتضيه الموقف العلاجي. ففي الحالات الحادة، على سبيل المثال، حيث يقيم المريض في المستشفى أسبوعا أو اثنين، تكون غاية المعالج هي التدخل السريع لتخفيف الأعراض وإعادة المريض إلى مستوى أدائه السابق على الأزمة. ومن غير الواقعي وغير المناسب في هذا المقام أن يطمح المعالج إلى غايات أبعد أو أهداف أعمق (كأن يزيد وعي المريض بالصراعات الوجودية ).

أما في المواقف التي لا يقنع فيها المريض بإزالة الأعراض بل يصبو إلى تحقيق مزيد من النمو الشخصي، فإن المدخل الوجودي يكون خيارا مفيدا. ويعد المدخل الوجودي الدقيق بأهدافه الطموحة هو أنسب المداخل في العلاج الطويل الأمد. بل إن العلاجات القصيرة الأمد لا تستغني في أغلب الأحيان عن بعض العناصر الوجودية؛ من مثل التأكيد على المسئولية، والقرار، والمواجهة الأصيلة بين المعالج والمريض ، وعمل الحزن ... وما إلى ذلك.

وتمس الحاجة إلى المدخل الوجودي حين يكون المريض مواجها لأحد المواقف الحدية؛ كأن يكون في مواجهة مع الموت، أو في مواجهة قرار مصيري، أو حين تلقي به الظروف في عزلة مفاجئة، أو حين يمر بمعالم حياتية تمثل نقاط تحول كبرى وانتقالا من مرحلة حياتية إلى مرحلة جديدة (مثل ترك الأبناء بيت العائلة، ومثل التقاعد، والفشل المهني، والانفصال الزوجي، والطلاق، والمرض الجسيم). غير أن الأمر لا يقتصر على هذه الأزمات الوجودية الصريحة؛ ففي كل برنامج علاجي، كما أشرنا آنفا، هناك أدلة وافرة على معاناة المرضى من كروب ناجمة عن صراعات وجودية لا يفطن لها إلا معالج وجودي اتسعت مداركه وتهيأ توجهه الموقفي لالتقاط مثل هذه المعطيات. ولا يصح العمل العلاجي على هذه المستويات الأعمق إلا بقرار يشترك كل من المعالج والمريض في اتخاذه. (1) التقييم

evaluation

1

تقييم العلاج النفسي مهمة صعبة دائما. وكقاعدة عامة: كلما كان المدخل والأهداف العلاجية أكثر تحددا واقتصارا كانت النتائج أسمح بالقياس وأيسر في التقييم. فبمقدور المرء أحيانا أن يقيس زوال الأعراض وتغير السلوك الظاهر بدقة كبيرة. ولكن العلاجات الأكثر طموحا، والتي تستهدف من الفرد الطبقات الأعمق من نمط وجوده في العالم، هي علاجات تتأبى على القياس وتند عن التكميم

quantification . وفيما يلي عرض موجز لحالتين أوردهما يالوم (1981م) تتمثل فيهما مشاكل التقييم بجلاء ووضوح.

الأولى: امرأة في السادسة والأربعين ترافق أصغر أبنائها الأربعة إلى المطار حيث يرحل عنها إلى الجامعة. لقد قضت هذه المرأة أعوامها الستة والعشرين الأخيرة تربي أبناءها وتتوق إلى هذا اليوم. لا أعباء بعد الآن ولا مكابدة من أجل الآخرين، ولا إلحاح طهي، ولا تجهيز ملابس ... أخيرا أصبحت حرة.

غير أنها لم تكد تودع ولدها حتى بدأت تنشج بحرقة على غير توقع. وفي طريقها من المطار إلى البيت غشيتها رعدة عميقة أخذت بمجامع جسدها. حدثت نفسها: «هذا أمر طبيعي ... إنه جزع الفراق ... فراق واحد من أعز الأحبة». غير أن الأمر كان أكبر من ذلك بكثير. فسرعان ما تحولت الرعدة إلى قلق دائم لا يشفى ولا يندمل. واستشارت معالجا شخص حالتها تشخيصا شائعا: «متلازمة - أو زملة - العش الخالي»

empty nest syndrome . طبيعي أن تكون قلقة. وكيف لا وقد أسست ثقتها واعتبارها طيلة سنوات على أدائها كأم، وفجأة فقدت هذا الأساس وتغير برنامج يومها المألوف وشكل حياتها المعتاد؟ كان هذا تشخيص المعالج الذي مد إليها يد العون. وشيئا فشيئا، وبمساعدة الفاليوم، والعلاج التدعيمي، وجماعة التدريب على تأكيد الذات، وعدد من الدراسات الحرة، ورفيق أو اثنين، وعمل تطوعي نصف وقتي ... انخفضت الرعدة إلى رعشة خفيفة ما لبثت أن زالت تماما. وعادت صاحبتنا إلى سكينتها الماضية وتكيفها السابق.

صفحة غير معروفة