يرى فرانكل أن سعي الإنسان إلى البحث عن معنى في حياته هو قوة دافعية أولية وليس تبريرا ثانويا لحوافزه الغريزية. وإذا كان الإنسان عند سارتر «يخترع» نفسه ويخلق ماهيته، فإن فرانكل يميل إلى أن معنى وجودنا ليس أمرا نبتدعه ونبرؤه، بل هو أمر نكتشفه ونستبينه. وقد تتعرض إرادة المعنى عند الإنسان إلى الإحباط، وهو ما يعرف باسم «الإحباط الوجودي». عندئذ ينشأ ما يسمى بالعصاب المعنوي
noogenic neurosis
وهو لون من العصاب يختلف عن العصاب النفسي الشائع
. فالعصاب المعنوي لا يكمن في البعد النفسي، بل في البعد العقلي أو الروحي. فهو لا يتولد من الصراعات بين الدوافع والغرائز، وإنما يتولد من الصراعات بين القيم المختلفة. وحين يكون المرض روحيا بالدرجة الأساس يكون العلاج بالعقاقير تخديرا مضرا، ويكون العلاج التحليلي خلطا خارجا عن الموضوع. إن «العلاج بالمعنى» يعتبر الإنسان كائنا معنيا في المقام الأول بتحقيق القيم لا بمجرد إرضاء أهواء وإشباع غرائز، أو مجرد تحقيق تسوية بين المطالب المتصارعة للأنا والهو والأنا الأعلى، أو مجرد التوافق مع المجتمع والتكيف مع البيئة.
إن سعي الإنسان إلى تحقيق المعنى والقيم هو أدعى للتوتر والقلق منه للاتزان والسكينة. غير أن هذا التوتر هو بعينه آية الصحة النفسية ودليلها. فالصحة النفسية توتر لا اتزان ... توتر بين ما أنجزه المرء وما لا يزال عليه أن ينجزه ... بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. ذلك التوتر كامن في الوجود الإنساني مضفور في ماهيته، وبالتالي في صلاحيته وصحته. وينبغي ألا نتردد في أن نضع أمام الإنسان تحديات عليه أن يواجهها بما عنده من معان كامنة تطالبه أن يحققها. إننا بذلك نستنفر إرادة المعنى فيه من حالة هجوعها. فليس ما يحتاجه الإنسان حقيقة هو حالة اللاتوتر أو التوازن أو «الهميوستاسيس»
homeostasis
ولكنه بحاجة إلى السعي والكدح في سبيل هدف يستحق أن يعيش من أجله. فلا شيء يعين الإنسان على البقاء والاستمرار والثبات في أحلك الظروف مثل معرفته أن هناك معنى في حياته. يقول نيتشه: «إن من لديه سبب يعيش من أجله، فإن بمقدوره غالبا أن يتحمل أي شيء في سبيله، وبمقدوره غالبا أن ينهض بأي شكل من الأشكال.»
وجد فرانكل في دراسة مسحية إحصائية قام بها تلامذته أن 55٪ من الأشخاص المدروسين يعانون مما أسماه «الفراغ الوجودي»
existential vacuum
وهو مصطلح أدخله فرانكل، ويعني فقدان الفرد للشعور بأن حياته ذات معنى. والفراغ الوجودي ظاهرة واسعة الانتشار في القرن العشرين. ويكشف هذا الفراغ عن نفسه في حالة الملل. الملل هو آية الفراغ الوجودي. فالفراغ هنا فراغ من المعنى وليس فراغا من المشاغل والتلهيات. ومن المتوقع أن تتفاقم مشكلة الفراغ هذه بدرجة خطيرة على مر الأيام نتيجة التقدم الآلي والتكنولوجي الذي من شأنه أن يطرح فائضا وقتيا رهيبا في حياة الشخص العادي. ولنا أن نتوقع أعدادا هائلة من البشر لا يعرفون ماذا يفعلون بكل هذا الوقت.
صفحة غير معروفة