وذاعت زحلة شهرة بعد حرب العريان وفي زمن الأمير حيدر إسماعيل اللمعي؛ لأن كثيرا من أسرها كانت من عهدته. فقدم إلى زحلة كثير وتديروها واتسعت أبنيتها وأسواقها، وامتدت تجارتها في الأغنام والغلال والصوف، وكان يرد إليها من الأغنام نحو مائة ألف خروف مما يجلبه التجار المواطنون أو الأكراد الغرباء ومعظمها يرسل إلى السواحل، واتسعت تجارتها أيضا مع مدينة بيروت التي صارت إذ ذاك «ميناء سورية» ومستودع بضائع أوروبة، واقتنى سكان زحلة كثيرا من القرى والأملاك في بلاد بعلبك والبقاع، فكثر عمرانها وصارت تعرف بقاعدة إقليم الشوف البياضي. وكانت الراحة مستتبة بزمن أسعد باشا والأمير حيدر إسماعيل لاعتدالهما في مشربيهما وموازنتهما بين الحزبين.
ويوم الثلاثاء في 15 آب سنة 1844م سار السيد باسيليوس شاهيات مع عشرين من وجوه زحلة إلى بيروت، وقابلوا أسعد باشا والي صيداء وبيروت وعادوا بعد سبعة أيام نائلين التفاته. (12) موقعة كفر سلوان وقرنايل
انقطع الزحليون بعد موقعة العريان إلى أشغالهم وتجارتهم وإدارة أملاكهم وتوفير ثروتهم، فطمع بهم الدروز الذين كانوا ينتهزون الفرصة للاستثار منهم. وما ركدت زعازع الفتن الداخلية في لبنان بضع سنوات حتى كانت سنة 1845م، فعادت القلاقل والتحزبات بين الدروز والمسيحيين وتحركت دفائن الضغائن وعوامل الأحقاد، فأخذ كل من الفريقين يستعد للقتال، ولا سيما على أثر تولية وجيهي باشا عوض أسعد باشا في أيالة صيداء وبيروت، فصار هذا يشد أزر الدروز لميله الخاص إليهم ويتحامل على النصارى، فزاد ذلك في طنبور التحزب نغمة جديدة، فكثرت الاختلافات بين الفريقين في قائميتي المقام لاختلاطهما في أكثر القرى، ولعدم إمكان فصل بعضهم عن بعض ليتباعدا.
ولما حمي وطيس الحرب بين الطائفتين في قضائي الشوف والمتن يوم الأربعاء في 18 نيسان سنة 1845م، تأهب الزحليون لنصرة المتنيين خشية أن يتطرق الدروز إلى بلدتهم المتصلة بالمتن إذا فازوا بالحرب، فنووا أن يوقفوهم عن التغلب على صرود (جرود) المتن فوق زحلة فيتخلصوا من مهاجمتهم، ولسوء الحظ كانت زحلة إذ ذاك قد تشتت كلمتها وفرق الطمع وحب الرئاسة بين أعيانها على حد قول الشاعر:
لقد صبرت عن لذة المال أنفس
وما صبرت عن لذة النهي والأمر
فانقسموا إلى حزبين البعلبكي نسبة إلى الأسر التي أصلها من بعلبك ، والراسي نسبة إلى الأسر التي منبتها رأس بعلبك. أما بعض الأسر الأخرى فالتزمت الحياد، وكان بعضها يحب التفريق وزيادة الخرق والآخر يحب الاتفاق والاتحاد؛ فلذلك أنتجت السعاية وشدة التحزب والتحيز حدوث قتال يوم الاثنين في 16 نيسان في زحلة بين الفريقين المذكورين فقتل يوسف بالش وجرح عبد الله مسلم، فلهذا لم يشاءوا أن يذهبوا للمدافعة عن بلدتهم إلا حزبين، فالبعلبكيون ذهبوا بقيادة عساف مسلم من جهة خان مراد على طريق الشام وبيروت، والراسيون بقيادة مخول البريدي إلى حمى
26
كفر سلوان. وكانوا جميعهم نحو ثمانمائة بين فرسان ومشاة.
ويوم السبت في 21 منه دخلت فئة من الزحليين الراسيين كفر سلوان وأحرقوها وتقدموا إلى قرنايل (المسماة سكرة المتن أي مفتاحه)، فلاقاهم الدروز في الطريق وجرت بينهم موقعة رجع فيها الزحليون متقهقرين وفقد منهم ستة أنفار وذلك؛ لأنهم ثملوا بخمرة النصر وانصرفوا إلى اقتسام الأسلاب. والفئة الثانية من الزحليين؛ أي البعلبكية تقدمت إلى جهة المتن وملكت منها جوار الحوز وبزبدين، ودخلت بتخنيه قرع السيف وأحرقوا بعض تلك القرى التي استولوا عليها، فتجمع الدروز عليهم، وردوهم إلى الوراء وفقد منهم بهذه الموقعة عشرة أنفار وخسر الدروز كثيرا منهم في الموقعتين، وكان الدروز قد استصرخوا بعسكر الدولة، فعزم الوزير وجيهي باشا على النهوض إلى المتن لمنع الحرب وكتب إلى مناصب البلاد من الطائفتين ليستقدمهم إليه إلى خان الحصين فوق بحمدون للمذاكرة بما يوقف تيار الثورة ويخمد نار الفتنة، فوصل الوزير المديرج، وكان قد أرسل ثلاثمائة من عسكره إلى قرنايل بقيادة خورشيد باشا، فمنعوا الزحليين وعسكر النصارى عن الهجوم على الدروز، وأرسل فئة أخرى إلى عين دارة وقب إلياس للضرب على أيدي النصارى.
صفحة غير معروفة