فصاح أحمد صفوان من قصر نبا: «أيها الأمير عار عليك أن تترك الزحليين، وقد أكلت من خبزهم وملحهم.» فرماه بالقرابينه فمزقه، وسار إلى تلة بئر هاشم حيث كانت نساء زحلة والأولاد في الكروم عند بئر هاشم، فلما رأين الحرفوشيين منهزمين صحن بهم: «أنتم بيت الحرفوش أنتم سيوف البيض وحماة العرض اليوم نريدكم الجوعان يأكل والعطشان يشرب»، وحملن إليهم الطعام والماء وبعضهن قدمن لهم الذخائر، فالتفت الأمير خنجر إلى الزحليين وإذا بالنصر يحف بهم، وقد ثبتوا ثبات الأبطال. فاستعاد قوته وجمع رجاله وصاح بهم اليوم أريدكم، وتقدم فارس الديراني بعلمه، وكان الزحليون قد انسحبوا إلى تل شيحا وثبتوا في الخندق والمتاريس والمرامي، واندفق عليهم الدروز بجيشهم الجرار من جهة غدير (بركة) البيادر، فأصلوا الدروز نارا حامية وأحسنوا الرمي، فكردسوا الأشلاء عند البيادر نحو أربعمائة، ولا سيما من حامية الخندق فردوهم إلى بيادر الحوش حيث عاد الأمير خنجر برجاله والتقى بهم، فكان الدروز قد دحروا وتقهقروا فاعتذر عن تخلفه.
وكانت بعض فرق الدروز قد دخلت البلد عندما انكسر الحرفوشيون وأخلوا نقطة محافظتهم قصد النهب، فانسحبت بعض نقط زحلة لسد الخرق، فتفرقت قواتهم وطمع الدروز، فدخلت شراذم منهم من جهة حوش الزراعنة، فحرقت حارة في بستان عبد الله أبي خاطر الباقي إلى الآن قرب الخان وتقدمت نحو زحلة، فهجم أبو جرجس إلياس رابية الزحلي مع شرذمة، وقتل حامل علم الدروز قرب محل الحمام الآن، وهجم الزحليون عليهم فأعادوهم على أعقابهم. وكانت شرذمة من الدروز قد دخلت البلد من جهة بيت أبي راجي المعلوف، فأحرقت بيت العزر (قرب دير اليسوعيين الآن)، فردها الزحليون ناكصة على الأعقاب. وهكذا فعلوا من جميع الجهات التي دخل فيها الدروز البلدة، ورموا كثيرا من أشلاء القتلى. ولم يقتل في الموقعة الثانية إلا أربعة من زحلة منهم خليل الحاج نقولا، وابن منصور بالش، وعبد الله بن يوسف إبراهيم، وابن الزنكي. وجرح اثنان أحدهما إبراهيم أبو طقة مات بعد أيام، أما من المعلقة فقتل ثلاثة عشر نفرا؛ لإخلاء الحرفوشيين نقطة المحافظة فيها كما مر.
فتأثر الزحليون الدروز الذين تفرقوا طرائق لا يلوون على شيء، فقتل منهم نحو ثلاثمائة، وقيل أكثر من ذلك وجرح ثماني مائة، فبقي الزحليون يطاردونهم ويعملون الأسلحة في أقفيتهم إلى قرب بر إلياس وبعضهم لحقهم إلى جديتا وغيرها. ولولا أن الزحليين أوجسوا خيفة من أن متابعة مطاردتهم ربما تفضي بهم إلى حيث تكثر عليهم النجدات، وخافوا من أن يكون ذلك خدعة لهم لأخرجوهم من البقاع، ففر الدروز إلى وادي التيم مذعورين ومنكلين بمن رأوه في طريقهم من المسيحيين، وكانوا يسلبون من النصارى الذين حضروا معهم هذه الموقعة ما يعجبهم من السلاح والخيل، وبات العريان جريحا في قرية ظهر الأحمر.
ثم عاد الزحليون ورءوس القتلى على رماح كثير من أبطالهم، ودخلوا البلدة فائزين واحتفلوا بنصرهم بقصف وسرور، وكانوا يعيدون لهذا اليوم الانتصاري في كل سنة حتى سنة الستين. وتناقل الناس نبأ هذه الموقعة وانتصار الزحليين فيها على قلتهم وكثرة الدروز. فلما نمي خبرها إلى إبراهيم باشا المصري قال: «عفارم أولادي، سباع الوادي، لقد شهدت مواقعهم في سورية، وعرفت حميتهم الحربية.»
وفي أثناء هذه الموقعة كان سليم باشا قد خلف زكريا باشا في ولاية بيروت، فلما بلغه خبر محاربة الدروز للزحليين أرسل خمسمائة جندي نظامي ومدفعين بقيادة رشيد باشا لمحافظة زحلة، فبقي القائد على الطريق نحو أربعة أيام متنقلا بين حمانا والمتين مع أن البعد بين بيروت وزحلة ليس بأكثر من سبع ساعات، فوصلوا زحلة وقد خمدت نار القتال فارتعد عسكره من رؤية جثث القتلى، ونزلوا في المعلقة وتهدد الزحليين وطلب جمع سلاحهم، وبعد أيام عاد رشيد باشا إلى بيروت وأبقى العسكر مع مصطفى باشا للمحافظة؛ لأن العريان كان يريد أن يهاجم زحلة ثالثة، فلم يلب أحد استصراخه لما ناله من الفشل في هذه الموقعة التي ذاع فيها صيت الزحليين، وعرفوا باجتماع الكلمة والتعاضد والعمل بقول الشاعر:
كونوا جميعا يا بني إذا اعترى
خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى القداح إذا اجتمعن تكسرا
وإذا افترقن تكسرت أفرادا
وكان لهم بموقعة بعبدا التي سبقت عبرة وعظة؛ لأنهم خرجوا من البلدة غير متفقي الكلمة فعادوا بخسارة عظيمة من القتلى.
صفحة غير معروفة