وعلى الجملة فإن صخور زحلة سريعة التفتت رخوة، وذلك من تأثير امتصاص المطر للحامض الفحمي «الكربوني» من الهواء، وتشرب الأرض إياه فيتخللها ويفتتها. ولقد تناوب لبنان الفاعلان المهمان المائي الذي يمهد ما ارتفع من الأرض ويعلي ما انخفض منها. والفاعل الناري الذي يسعى بعكس ذلك، فيجعل السطح غير مستو. فكثرت فيه الأودية والمنخفضات والروابي والمرتفعات والسهول والمستويات، كما ترى في وادي البردوني.
ولما كانت صخور زحلة لا تصلح للبناء؛ اتخذ اللبن المجفف بالشمس لبناء بيوتها القديمة، وهو متين يصبر على الفواعل الطبيعية، ويتماسك الجدار المبني به حتى يصير كأنه قطعة واحدة صبت في قالب واحد. أما الأبنية الحديثة ولا سيما منذ بضع عشرة سنة، فمعظمها من الحجارة التي تقطع من مشارف المدينة على بعد أكثر من ساعة في غربيها، وتنقل على ظهور البغال، فهي كثيرة النفقات لصعوبة النقل من المقاطع (المقالع) البعيدة. وهناك حجر أشبه بالحجر السماقي، كأنه مرصع بفصوص بيضاء وحمراء يقبل الصقل فيصير لماعا جميلا، تسميه العامة «شحم بلحم»، تتخذ منه الأجران للمدققة (الكبة) والأحواض والبوابات ونحوها.
ومن أكبر الصخور في المدينة الذراعان الممتدتان في فم الوادي الغربي عند نزل (لوكندة) الصحة من الجنوب والشمال، ولكنهما لا يستخرج منهما حجر صالح للبناء، حتى إنهم عند تشييد ذلك النزل في آخر الذراع الشمالية لم يقطع منها حجر نافع؛ بل احتاج بانيها إلى تفتيت الصخور وإبعادها ليفسح للبناء محلا، واستقدم الحجارة من المقاطع البعيدة. وفي كثير من سفوح وأسناد وادي البردوني على ضفتي النهر طبقات صخرية حصوية مدملكة متراصة تدل على فعل المياه الجارية.
وفي مشارف المدينة كثير من المستحجرات الحيوانية، ولا سيما عند عين حزير وعين السواعير وغيرهما مثل الحلزون (البزاق) والتوتيا والمحار (صدف الدر) وبعض الأسماك، ومن أعجبها حيوان مائي بحجم الفرنك أو أكبر مستطيل الشكل، له على ظهره نقش بديع كأنه منبت شعر أو ريش، ومن ذلك حجارة صدفية مركبة من مسحوقات الصدف المتراصة، وغير ذلك مما يوجد بعضه في متحفي الكليتين الأميركانية واليسوعية في بيروت.
هوامش
نباتاتها وحيواناتها
كانت المدينة قديما كثيرة الغابات المشتبكة والأدغال، تنبت فيها أشجار السنديان السوري والعفص والبطم والسماق والدردار (بمعنى الشائك) والرمان والجوز والدلب، وغير ذلك من نباتات المنطقة الجبلية. وفي أعاليها ينبت البقل الذي هو من خصائص جبال الألب في أوروبة، وكانت مشارفها تظللها الأشجار الغبياء والمتعرشات الغناء، حتى لا يكاد المار يقطعها بدون أن يقطع بعضها شأن لبنان وسورية في الأيام القديمة؛ أيام كانت يد الإنسان لا تتحامل على الطبيعة بفئوسها، ولا تصليها نارا آكلة. فكان الداخل في هذه المدينة لا يكاد يرى للشمس أثرا إلا من خلال الأوراق، ولا يعرف للماء منسابا إلا من خريرها الذي هو أشبه بأنة الجريح من الحصى البلورية. وقد تصورت هذا المشهد الفتان الطبيعي، فقلت فيه مشطرا أبياتا للإمام ابن الوردي الشاعر المشهور وهي: «فيه دوح يحجب الشمس إذا»
نظرت فيه ويخشى من رقب
أوقف الإنسان حينا بعد ما «قال للنسمة جوزي بأدب» «طيره معربة عن لحنها»
إذ تربت في مغان للعرب
صفحة غير معروفة