المؤرخ المثالي، المؤرخ الذي لا تشوب طريقته في التحقيق شائبة ما، المتجرد عن الغرض أو - بتعبير أدق - المتصنع التجرد عن الغرض، المتحري الدقة على الأقل في إثبات الوقائع، فماذا يمكن أن يقال فيه؟ نقول وبكل بساطة: إنه كان الرجل الذي هجم على العدو في عقر داره، وإنه هو الذي هاجم العصور المسيحية وجها لوجه، خطر له وهو بين أطلال الكابيتول أن يروي قصة تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ليصور بذلك مشهدا تاريخيا لعله أعظم وأروع ما في التاريخ البشري كله، وعمل في الموضوع الذي اختار عشرين سنة متواصلة إلى أن أتم كتابه، ويا له من كتاب! فكم من براعة بذل، وكم من تفصيل دقيق وافر جمع، لكي يروي قصة سقوط الحضارة من أعلى ما بلغت في القرن الثاني، أسعد وأهنأ ما رأت البشرية في تاريخها إطلاقا، وكم كان سمحا لاهيا، وفي الوقت نفسه أسيفا، ولكن غير باخع نفسه، بل مترفعا حين يكتب عمن يكره وعما يأسف له! وكم كان مرحبا بالفرص القليلة التي سمح له بها سياق الحديث ليعود «لاستنشاق هواء الجمهورية الرومانية النقي الباعث للقوة!» وكم كان رجلا متحضرا مهذبا ساخرا سخرية الرجل الراقي الرزين، عالما مستنيرا حقا كثير الاطلاع، وفي الوقت نفسه محرفا سيئ الفهم، حين وصف انتشار الدين المسيحي وانتصاره، وحين عرض إلى ما دار من المناظرات والمحاورات بين الفرق حول التثليث والتجسد، وحين حكى قصص الأفعال الصبيانية المأثورة عن رهبان العمد،
66
وعن القديسين المترهبنين، وما إلى هذا من «أفعال» عديدة جلبت الخزي على الكنيسة والضرر على الدولة، وأخلق بها أن تثير «ازدراء الفيلسوف ورثاءه لها».
هذا؛ وقد يخيل لقارئ التدهور والسقوط أنه قد سير به في سفر بعيد، ولكنه - في حقيقة الأمر - يظل حيث هو مع جيبون بين أطلال الكابيتول يطل منه على عالم طيفي زاخر بأشباه الرجال ولا رجال، يتحركون متخبطين، ويأتون غرائب الأفعال، وهكذا صور جيبون أحداث ألف سنة من التاريخ، فلا القارئ قد دخل في العصور الوسطى بالمرة، ولا هو عاش عقلا وشعورا فترة من التاريخ، وأدرك حقيقة تجاربها في نفسه، بل ظل في مقعده بين أطلال الكابيتول يصغي متململا ضجرا خدر الجسم، متقلص العضل لهذا الراوي الذي لا يكل، يقص في حزن وترجيع أنباء الكارثة التي حاقت بالبشرية، وما نكبت به قوى الشر عقل الإنسان. «والتدهور والسقوط» تاريخ، بل هو شيء أكثر من تاريخ، هو خطبة رثاء، جيبون يرثي الحضارة القديمة ويذكر بموتها، كتب لكي يعلم الأجيال المقبلة كيف انتصرت «البربرية والديانة».
انتصار البربرية والديانة، تكشف هذه الجملة تماما عن موقف الفلاسفة المؤرخين من الماضي، من ماض ذهبت فيه البشرية ضحية غواية البربرية والديانة لها، فأخرجتاها من فردوس الطبيعة، ثم أقبلت العصور الوسطى المسيحية، وكانت عصور شقاء بعد نعيم الجنة، عصورا عقيمة هامت البشرية أثناءها على وجهها، يرهقها القهر، وقد أفسدتها الغواية وأضلتها وجعلتها خسيسة القدر، ولكن ها هو ذا الفرج قد جاء، وأخذت البشرية تخرج من ظلمات الماضي وضلالاته لتدخل في نور القرن الثامن عشر ونظامه، فكان القرن الثامن عشر بذلك فاصلا بين عصرين، ينظر منه الفلاسفة إلى الماضي ويتنبئون بالمستقبل، فكانوا إذا ما ذكروا الماضي وشقاءه وضلاله تحدثوا عنه حديث الرجال عن إسراف الشباب وأزماته، حديثا قد لا يخلو من مرارة الذكرى، ولكن تصحبه ابتسامة سمحة وتنهد الرضا وشعور الاطمئنان، وأما حاضرهم فهو خير قطعا مما سبقه. والمستقبل؟ أما والحاضر خير من الغابر، ألا ينبغي أن يكون المستقبل خيرا من الحاضر؟ فليولوا وجوههم إذن نحو المستقبل، نحو أرض الميعاد، نحو عصر البعث الجديد.
فوائد الخلف أو أطوار العلاقة بين الحاضر والماضي والمستقبل
الخلف في نظر الفيلسوف بمثابة الدار الآخرة في نظر رجل الدين.
ديدرو
وأيا كان بدء الخليقة، فإن النهاية ستكون مجيدة فردوسية، يقصر الخيال عن تصورها.
بريستلي
صفحة غير معروفة