ويردد الفلاسفة جميعا نفس المأخذ على المؤرخين الثقات المعتمدين، وهو أنهم يجمعون الوقائع لغرض الجمع فقط، ويبتغي الفلاسفة جميعا نفس المطلب، وهو أن يتولوا هم كتابة التاريخ ليستخرجوا من رواية الوقائع تلك الحقائق النافعة التي «تهدينا إلى معرفة أنفسنا وغيرنا من بني الإنسان.»
37
ولم يذهب هذا المطلب سدى، ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر انقلب الفلاسفة مؤرخين - أو المؤرخون فلاسفة إن شئت - وأحاط المؤرخون الجدد من أولئك وهؤلاء بالبشرية جمعاء ما بين الصين وبيرو، كما كانوا يقولون ترى إذن أن لا صحة لما زعمه المؤرخون في القرن التاسع عشر من أن القرن الثامن عشر كان (عصرا لا تاريخيا)، وقد بنوا زعمهم هذا على أن القرن الثامن عشر، كان يعمل على قطع صلته بالماضي ليبدأ بالإنسانية من جديد، بيد أن هذا الزعم لا يستقيم مع ما هو ثابت من كثرة ما صنفه رجال القرن الثامن عشر في التاريخ، ومن إقبال القراء على تلك المصنفات، مما دعا إلى إعادة طبع بعضها عدة مرات، ومما نسبه زعماء العصر للتاريخ من فضل وقيمة، وإنا لنستطيع دون أن نكلف أنفسنا شيئا من عناء التذكرة، أن نذكر عددا غير قليل من المؤرخين المشهورين المبرزين: جيبون وهيوم وروبرتسون من البريطانيين، رولان وفولتير ومنتسكييه ومابلي ورينال من الفرنسيين، وهردر من الألمان
38 - وهؤلاء أشهرهم.
وإذا ما رجعنا لصحيفة الأخبار الأدبية التي كان يؤلفها جريم، تبينا أن التاريخ لقي من عناية العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر كتابة عنه وقراءة ما لم يلقه أي علم آخر، وقد قلت: كتابة عنه، متعمدا، لأبين لكم أن جل الفلاسفة - سواء أوضعوا مصنفات تاريخية أم لم يضعوا - عنوا بأن يتحدثوا للناس في الغرض من كتابة التاريخ، وفيما يجب اتباعه في كتابته، وقد أجمعوا بلا استثناء - فيما أعرف - على أن التاريخ مضافا إلى الأخلاق من أهم ما يدرس من العلوم.
وقد يصح أن الفلاسفة عملوا على قطع الصلات بالماضي، والبدء بالإنسانية من جديد، وأنا أسلم بهذا على وجه معين، ولكن هذا لا يفيد أنهم لم يهتموا بالتاريخ، فالإنسان يضيق بالأغلال في عنقه ويديه، ولكن ضيقه بها يمنعه من أن يغفل ولو لحظة عن مصدره، وعلى هذا النحو كان إحساس الفلاسفة بالماضي، فابتغوا من درسه أن يعرفوا لم لا تزال البشرية - بالرغم عما مرت فيه من التجارب خلال عدة قرون - مغلولة بأغلال من حماقات السلف وأباطيلهم، ولفولتير أن يقول - إذا أراد - إن تاريخ الأحداث الكبرى التي وقعت في هذا العالم لا يزيد كثيرا على أن يكون تاريخ جرائم، ولكن هذا لم يمنعه من أن يكلف نفسه مشقة كتابة تاريخ العالم في ستة مجلدات، ولم يكن أحد أسوأ رأيا في ماضي الإنسانية من شاتلو، الذي ذهب إلى أن الأفكار والعادات السائدة بين أهل زمانه، لا تعدو أن تكون كتلة متراصة من الجهل المكتسب، وقال: «من يروم السعادة يحتاج إلى النسيان أشد مما يحتاج إلى التذكرة.» «فإن الغاية الكبرى التي يسعى إليها المستنيرون هي إقامة صرح العقل فوق حطام الظنون»، ولم ينس شاتلو أن يقوم بنصيبه من هذا المسعى، فكتب تاريخا عاما في مجلدين بعنوان «في سعادة الأمم»، قال فيه:
إن هذه السعادة ستكون من حظ الأجيال المستقبلة، ولا سبيل للحصول عليها إلا بقطع الصلة بالماضي، ولكنه اعتقد في نفس الوقت أن لا شيء يغري الناس بالتبرؤ من ماضيهم، إلا بأن يظهرهم المؤرخ على مقدار فساده، وبناء على هذا الاعتقاد وجد شاتلو حينما كتب في «السعادة» أنه يتحتم عليه أن يتتبع تاريخ «شقاء» الإنسانية.
39
على أن شاتلو لم يلتزم هذا التحديد الضيق، فلم يقصر عرضه على إظهار فساد الماضي فقط، بل أفسح لنفسه بعض الشيء؛ ذلك لأنه كان أيضا يرى أن من العبث أن يدون المؤرخ تاريخ عدد كبير من الوقائع الفردية دون أن يستخرج منها حقائق عامة جديدة أكبر صحة من تلك التي عني الرواة بنقلها لنا.
40
صفحة غير معروفة