24
من الجهة الأخرى، فماذا يقول الفيلسوف في هذا؟ عليه أن يسعى أولا لإصلاح العقل المحض، قبل أن يسعى لإصلاح المجتمع، فإن مجتمعا ظاهر الاعوجاج إلى هذا الحد لا يمكن تقويمه إلا إذا تيسر التمييز بين العادة الصالحة بالطبع والعادة الفاسدة بالطبع.
وصلنا إذن للتمييز بين الصالح والفاسد، بين الطيب والخبيث، أو بالأحرى عدنا إلى ذلك، فالفكرة قديمة جدا دينية مسيحية تماما، وهل يفيد ذلك وجوب عودة الفلسفة للدين المنزل - على حد تعبير هيوم؟ ربما لم تبلغ الضرورة إلى هذا، ولكن كان لا بد من إجراء حركة ارتداد من تلك المواقع الأمامية التي احتلها العقل المحض، كان لا بد من العدول عن ذلك الرأي القائل بأن الطبيعة سيان لديها الفضيلة والرذيلة، كما هو سيان لديها الحرارة والبرودة، فإن لم يعدلوا عن هذه، فالأولى بهم أن يتركوا الميدان، فالمعركة لبعث مجتمع جديد خاسرة حتما، والمشروع العظيم لجعل الأمراء مواطنين نافعين مجرد حلم، فهم روسو هذا كله خيرا من غيره، ولعل ذلك يرجع إلى أنه أفهمه بالذوق وبلا كبت من العقل، وبذا كان روسو هو الواضع لخطة الارتداد التي أشرنا إليها، قال: «إن لم يعين الفلاسفة حدودا للطبيعة امتلأت بعجائب الكائنات: وحوش بشعة وعمالقة وأقزام وسائر ما هو عجيب من أمثال ذلك الحيوان ذي رأس الأسد وجسد الجدي وذيل الثعبان، وهكذا يصبح كل شيء فيها ممسوخا، ولن نجد فيها مثالا مشتركا للإنسان، وأعود فأقول: إن الصورة الحقة للطبيعة الإنسانية هي الصورة التي يجد فيها كل إنسان شبيهه، وبعبارة أخرى ينبغي أن نفرق بين أفراد النوع الإنساني، وبين ما هو مشترك بين الأفراد.»
25
معنى هذا أن المعاني الغريزية التي أخرجها لوك بلطف من باب الدار الأمامي، أعادها غير خلسة من نافذة المطبخ، وأن النفس التي سلبها المنطق الديكارتي من الفرد عادوا يلتمسونها في الإنسانية، وقد تكون نفس الفرد شرا، وقد تكون شيئا زائلا، بل وقد تكون وهما، ولكن النفس الإنسانية ذلك الشيء الأصيل في الطبيعة الإنسانية، ذلك «المثال المشترك للنوع الإنساني»، ثابتة وعامة، فهي يقينا خالدة، أوليس هذا هو المذهب الواقعي الذي عرفته العصور الوسطى قد بعث من جديد؟ فحق على الفلاسفة إذن أن يضربوا في الأرض ملتمسين، وفي يدهم مصباح يستمد نوره من استنارتهم، الإنسان المثالي، كما فعل مونتاني من قبل، والوسيلة لذلك هي أن يعينوا ويحصوا ويصفوا الصفات المشتركة لبني الإنسان عموما؛ وذلك لكي يحددوا أي الأفكار وأي العادات وأي النظم في زمنهم لا تتفق مع النسق الطبيعي العالمي، وشرط السعي للحصول على هذا العلم الثمين أن تملكهم الرغبة فيه، كما ملكت أولئك الذين ابتغوا في مشارف الأرض ومغاربها الحصول على الصحفة المقدسة التي تناول منها السيد المسيح «العشاء الأخير»، والشرط الآخر أن يضيفوا إلى النور المستمد من العقل المحض النور المستفاد من التجارب، ويقول قائلهم بريستلي في هذا: «ما نفيده من ملكاتنا العقلية وحدها دون التاريخ قليل.»
26
وليس التاريخ المقصود من هذه العبارة مطلق التاريخ، بل كان ما طلبه الفلاسفة تاريخا جديدا، كانت الفلسفة تعلم الناس بضرب الأمثال.
2 «والتاريخ الجديد» إنما هو قصة قديمة؛ ذلك لأنه لما كان التاريخ لا يعدو أن يكون تأليفا خياليا لأحداث ماضية، وليس حقيقة ذات ماهية ثابتة، فإن التاريخ الذي يعده عصر من العصور نافعا وممتعا، قد لا يكون كذلك بالنسبة لعصر آخر، وقد سبق أن أشرنا إلى ما تحتويه نكتة فولتير من صدق عميق: «ما التاريخ إلا حاصل احتيال الأحياء على الأموات»، ولا أظن أن هذا الاحتيال مما يؤذي الموتى، ولكني أوقن أنه ينفع الأحياء، فهو في أحسن الظروف معين على قهر صعوباتنا، وفي أسوئها معين على احتمالها بما يبعثه فينا من الأمل في مستقبل أزهر، ويتوقف نوع الاحتيال الذي نختار على موقفنا من حاضرنا، فإن كنا راضين عن هذا الحاضر، فالمحتمل أننا لا نحفل كثيرا بأسلافنا، بل المحتمل أن نتعمد إظهار ذلك، وهكذا نجزيهم عما قدموا لنا إن كان هذا جزاء، وإن كنا ساخطين على حاضرنا، فإما أن نعد أسلافنا مسئولين عما أصابنا فنلومهم، وإما أن نتخذ منهم مثلا يحتذى، وننسب إليهم فضائل لم يتحلوا بها، وربما لو بلغهم أمرها لما عدوها فضائل مطلقا. «التاريخ الجديد» تاريخه قديم، وتاريخ التاريخ الجديد في الوقت الحاضر معروف لنا جميعا، ولا حاجة لأن نعود في حديثنا عنه لأبعد من عشرين عاما، حين أعلن جيمس هارفي روبنسون شكواه وأسفه للوقت الذي يضيعه المؤرخون في تحقيق أحداث من نوع: «أين كان تشارلس السمين في اليوم الأول من يوليو سنة 887؟ أكان في أنجلهايم أو في لستناو؟» وأضاف إلى أسفه اعتقاده أن المؤرخين يعرفون الكثير عن الماضي، ولكنهم لا يعرفون عن الإنسان إلا القليل، وأن ما يعانيه زماننا من الارتباك والاضطراب يقتضي منهم أن يقبلوا على دراسة العلوم الإنسانية الجديدة، وأن ما يصرفونه من وقت في تحديد مقام تشارلس السمين كان أجدى عليهم أن يصرفوه في تأمل فك «رجل هيدلبرج»
27
مثلا، إنهم لو فعلوا هذا لأحسنوا استغلال الماضي في سبيل تقدم الإنسانية.
صفحة غير معروفة