وهكذا حرمني هيوم من تاريخ معين بسيط، أبدأ منه عملية استدلال تاريخي أنيقة.
وهذه مأساة، ولكنها لا تحدث كثيرا، فمن البين أن أكثر المصنفين لا يفعلون مثل ما فعل هيوم، ولكن هل هي مأساة حقا؟ أظن لا، فلئن فوت علينا هيوم تعيين سنة لبدء اتجاه جديد في الفلسفة، فقد عوضنا عن ذلك غنما كبيرا؛ إذ إن عدم نشر الكتاب حال دون أن نقع فيما يتوهمه السذج من أن فريقا من الفلاسفة ساقته قراءة الكتاب للإلحاد، وهذا الضرب من الوهم شائع بين المشتغلين بتاريخ الأدب، فهؤلاء يجدون متعة أيما متعة في تسجيل انتقال الأفكار من كاتب إلى كاتب، كما لو كانت الأفكار دراهم تنتقل من يد إلى يد، فإذا ما ثبت لديهم مثلا أن زيدا من الناس قرأ كتاب عمرو، أو كان من المحتمل أنه قرأه، فلا بد أن زيدا أخذ عن عمرو الفكرة الفلانية، وهم إذ يفعلون ذلك يغفلون عن حقيقة أساسية هي أنه لولا أن تلك الفكرة أو ما يقرب منها كانت تتشكل في ذهن زيد على نحو ما، لما اهتم بأن يقرأ كتاب عمرو مطلقا، أو لو قرأه لرماه جانبا أو أصدر عنه نقدا ليظهر أنه كتاب رديء ضال، وكم من كتاب أثر في قارئه على عكس ما قصد الكاتب! وهذه مدام رولان قرأت كتب هولباك وهلفسيوس، ولكن هذه الكتب لم تجعل منها امرأة ملحدة، بل - على الضد - ثبتتها في إيمانها بالله، وصرفتها لكتب روسو تبتغي فيها شفاء، ولولا كتب الملحدين لصح جدا أن مدام رولان ما كانت لتقبل على روسو على النحو الذي فعلت.
2
وبعد فلا بأس بأن نعرف أن هيوم أخفى كتاب المحاورات، ولكن الأهم من هذا أن نعرف لماذا اهتم بأن يصنف الكتاب، فإن إخفاءه في زمانه لم يقدم ولم يؤخر شيئا، كما هو الحال بالنسبة لإعادة طبعه في زماننا، ولنا أن نقرأ «المحاورات» اليوم إن شئنا، ولكن لن يقرأه إلا القلة منا التي تهمها - تاريخيا - القضايا التي عالجها، وفي عصر هيوم لم يتمكن الناس من الاطلاع عليه، ولكنهم لم يكونوا بحاجة إلى هذا؛ لأن القضايا التي عالجها كانت من الخطورة والذيوع، بحيث تغنيهم عن قراءة الكتب، وما هي تلك القضايا؟ كانت حقا جد أساسية، تساءل عنها الناس، واختلفوا فيها كما لو كانت نبأ لا يعلم أحد متى بدأ، ولكنه عظم واستقر، فلم يعد أحد يستطيع إغفاله، تساءل الناس: أحق ما يزعمه الملحدون والمبطلون أن لا إله؟ وكان شعورهم شعور قوم من الوثنيين فارقهم معبودهم بليل إلى حيث لا يعلمون وتركهم بلا راع ولا نصير.
فالقضية - وينبغي أن ندرك هذا جيدا - هي قضية العصر العقلية الكبرى، هي قضية وجود الله، اهتزت لها العواطف على نحو يصعب علينا فهمه تماما، لم يكن الذي أزعجهم الإشكال العقلي أو المنطقي الذي اهتم به هيوم وديدرو وباركلي،
3
فالإشكال لم يهم في ذاته الجمهور كثيرا، بل يهم جمهرة الفلاسفة عموما، إن الذي أهم الناس - كتابهم وقراءهم - هو الجواب عن السؤال، هل يوجد إله يرعى أنفسهم الخالدة حق الرعاية، أو لا يوجد إله، ولا توجد نفس خالدة؟ هذا في نظر الجمهور هو وضع الإشكال المنطقي الذي قام على مقدمات الفلسفة الجديدة، والذي حدثتكم عنه في محاضرتي السابقة، وثم وضع آخر: هل العالم الذي يعيشون فيه يحكمه عقل خير أو تتحكم فيه قوة لا تعرف خيرا ولا شرا؟ سؤال حير الألباب في عصر زعموه عصر عقل متثبت من نفسه ومما حوله، متعال ساخر، سؤال أخرج أهله عن صمتهم، سؤال كان موضوع جدلهم وخصامهم أينما كانوا، في الكتب وعلى المنابر وفي سامرهم وحول موائد الطعام حين يطاف عليهم بالنبيذ وبعد انصراف الخدم، وجملة القول أننا لا نتصور فيلسوفا من فلاسفة ذلك العصر جهل السؤال أو تجاهله، كما أننا لا نتصور فيلسوفا من فلاسفة أيامنا يجهل أو يتجاهل نظرية الكوانتوم، وينبغي علينا الآن أن نعرف كيف تصدي فلاسفة القرن الثامن عشر لسؤالهم هذا البعيد الغور، وكيف فصلوا فيه.
وأولا في الملحدين، كان هؤلاء في فرنسا فيما بعد منتصف القرن الثامن عشر شرذمة من رجال شتى، قالوا أن لا حكم إلا للعقل وحده، وافتتنوا به أيما افتتان، وجهر هؤلاء المفتونون «المسعورون» بإلحادهم، فذاع أمرهم أو افتضح إن فضلت، وكان أكبرهم اعتبارا هولباك وهلفسيون ولامتري
4
وميلييه،
صفحة غير معروفة