49
يجد الناس في هذه كلها وأمثالها ما كانوا يبتغون من الفلسفة النيوتونية، وهم لم يبتغوا من هذه الفلسفة النظريات العلمية لذاتها، وإنما لعلاقتها بقضية القضايا، بالقضية الأساسية، ألا وهي علاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقة الإنسان والطبيعة كليهما بالله، ويبسط الموضوع على خير وجه كولن مالكورين أستاذ الرياضيات في جامعة أدنبرة في كتابه «عرض اكتشافات السير إسحاق نيوتون الفلسفية»، ولعل هذا الكتاب أحسن ما أخرج بالإنجليزية لتقريب فلسفة نيوتون من الأذهان، (وقد نشر في 1775)، قال:
موضوع الفلسفة الطبيعية وصف الظواهر الطبيعية وشرح عللها، وبحث النظام العام للعالم، وقد دفع حب الاستطلاع الإنسان في جميع الأذهان دفعا قويا نحو النظر العلمي في الطبيعة، ولا توجد صناعة نافعة للإنسان إلا ولها ارتباط بهذا النظر العلمي، وللموجودات جمال لا ينفد، ولها فيما بينها اختلاف وتنوع وتعدد، وهذا الجمال وهذا التنوع يكسبان النظر العلمي في الطبيعة متعة وطرافة وجدة دائمة.
ولكن الفلسفة الطبيعية تخدم غايات أسمى من هذا، وأسمى هذه الغايات هي أنها تضع أساسا للدين الطبيعي وللفلسفة الأخلاقية؛ وهذا لأنها تهدينا بطريقة مرضية لمعرفة موجد الكون ومدبر أمره، وأن أداء الفلسفة الطبيعية لهذا لهو أهم ما يكسبها اعتبارا.
إننا يجب علينا أن نلتمس معرفة الله عن طريق النظر في صنعه، وليس خليقا بنا أن نتخذ مما أوتينا من العلم القليل القاصر عن هذا الكائن العظيم الباطن مادة لتعليل قضائه وقدره ووصف أفعاله.
وإن ما نراه في الطبيعة على كل ما يشوب نظرنا من نقص لكفيل بأن يدلنا دلالة محسوسة على تلك القدرة النافذة في كل شيء الفعالة بقوة وسداد، ولا يعييها أعظم أبعاد الفضاء أو الزمان، وتلك الحكمة الجلية - على حد سواء - في تركيب الأشياء جليلها ودقيقها التركيب الرائع وفي إحكام حركاتها، وهذه القدرة والحكمة توجههما - على ما هو مشاهد - إرادة الخير المطلق.
ومن هذا جميعه يتكون المقصد الأسمى لنظر الفيلسوف، وإن الفيلسوف حين يتأمل هذا النظام الكامل ويعجب به لا يلبث أن يهتز حمية وشوقا ليماثل في نفسه الانسجام العام السائد في عالم الطبيعة.
50
والكلمات التي اختتمت بها هذه القطعة تعبر تعبيرا صادقا عن حالة الشعور عند منتصف القرن الثامن عشر، ونستدل بها على أن مريدي الفلسفة النيوتونية ما زالوا بعد أهل عبادة وتهجد، بيد أنهم خلعوا على ما يعبدون شكلا آخر واسما جديدا، فهم إذ نزهوا الله عن الطبيعة، اتخذوا من الطبيعة ربا، ولهم - إن شاءوا - أن يرددوا دون تكلف وبيسير من التعديل دعوة صاحب المزامير: «أرفع عيني إلى الطبيعة من حيث يأتي عوني.»
51
صفحة غير معروفة