وأثره في الإلهيات لا يقل عن أثره في المنطق. والمقصود بالإلهيات، أو العلم الإلهي، ما نسميه اليوم بالميتافيزيقا. تحدث فيه عن الواجب، أو واجب الوجود، وعن تسلسل الموجودات عن الواجب، وعن العلل. فواجب الوجود هو الموجود الذي متى فرض غير موجود عرض منه محال. وممكن الوجود هو الذي متى فرض غير موجود أو موجود لم يعرض منه محال. وقد مر بنا أن الكندي كان يصف الله بأنه الحق، وأن الفارابي كان يصفه بأنه «الواحد»، وهنا نرى نظرة ابن سينا وجودية ومنطقية؛ فالله هو واجب الوجود لذاته، والواجب مفهوم منطقي يقابل المستحيل، ويتوسط الممكن بينهما. والموجود هو حجر الزاوية في الفلسفة المشائية، على حين أن «الواحد» كما رأينا فوق الوجود في فلسفة أفلوطين.
أي إن الفرق بين المعلم الثاني والشيخ الرئيس أن الفارابي يجنح إلى الأفلاطونية، على حين يميل ابن سينا إلى المشائية. وليس هذا هو الفرق الوحيد بين الحكيمين وبين المدرستين؛ لأن ابن سينا اصطنع في آخر حياته فلسفة أخرى خلاف المشائية، التي بسطها في الشفاء وفي النجاة، هي التي يسميها الفلسفة المشرقية، كما تتمثل في الإشارات. والفلسفة المشرقية إشراقية، صوفية، متأثرة بالمشرق في فارس.
وقد فطن الغزالي (450-501 هجرية) لما في آراء ابن سينا من خطر على الإسلام، فكتب «تهافت الفلاسفة» يكفرهم في عشرين مسألة، على رأسها القول بقدم العالم ، وعدم علم الله بالجزئيات، ونفي المعاد. ولم يستطع ابن رشد في «تهافت التهافت» أن يقنع الجمهور بعدم صحة هذه التهم، وانتهى الأمر بالفلسفة إلى الانزواء، ودخلت في مباحث علم الكلام الذي أصبح يسمى علم التوحيد. •••
أشرنا إلى أن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده جدد مدرسة ابن سينا، فاشتغل بالمنطق ورجع إلى كتبه القديمة، كما أنه في «رسالة التوحيد» سلك مسلك الشيخ الرئيس في إثبات «الواجب». ولكن محمد عبده لم يكن ملخصا لابن سينا أو شارحا لآرائه، بل كان صاحب مدرسة فكرية تدعو إلى تجديد النظر الديني بالعودة إلى الإسلام في منابعه الأولى، وإلى إصلاح المجتمع عن طريق إصلاح الدين والأخلاق والفكر، والخروج على التقليد والجمود، وإلى تحكيم العقل والفطرة السليمة. وكان محمد عبده قد أخذ هذا الاتجاه الحر الجديد من جمال الدين الأفغاني، الذي يعد بحق رئيس المدرسة.
وأخذ عن محمد عبده مصطفى عبد الرازق، الذي استطاع أن ينشر تعاليمه الفلسفية في الجامعة المصرية حين عين للتدريس فيها سنة 1927م، وعندئذ أصبح تعليم الفلسفة موجودا في مدرسة ثابتة ويدرس من فوق منبر جامعي. وخلاصة رأي الشيخ مصطفى عبد الرازق أن المسلمين كانت لهم فلسفة أصيلة لا هي يونانية، ولا هي فارسية وهندية، ويمكن التماس هذه الفلسفة في أصول الفقه. وهذه النظرية ليست جديدة مبتكرة كل الابتكار؛ لأن كثيرا من المفكرين في الإسلام لم تنقطع معارضتهم للفلسفة، وبخاصة للمنطق باعتبار أنه أداة البحث فيها، ولابن تيمية كتاب هام في نقد المنطق اليوناني.
ولكن تيارات العصر الحديث لم تكن تسمح بالعزلة عن الأفكار المعاصرة، وعن الفلسفات الأوروبية التي نشأت في أوروبا منذ القرن السابع عشر على يد ديكارت في فرنسا وبيكون في إنجلترا، ثم في القرن الثامن عشر على يد كانط في ألمانيا، فكان لا بد للفلسفة العربية المعاصرة أن تأخذ في الاعتبار هذه الفلسفات الوافدة من الغرب، والعمل على التوفيق بينها وبين تراثنا الفلسفي الموروث.
وكاتب هذه السطور يعتز بأنه كان تلميذا لمصطفى عبد الرازق بالجامعة المصرية، قرأنا عليه البصائر النصيرية في المنطق، ولباب الإشارات لابن سينا في محاضراته. ولازمته بعد ذلك طول حياته، وعليه قمت بتحضير رسالتي، ثم انتقلت إلى التعليم بالجامعة، متابعا روح المدرسة العقلية الحرة التي بدأها جمال الدين، ثم محمد عبده، ثم مصطفى عبد الرازق.
صفحة غير معروفة