وأعظم تلاميذه يحيى بن عدي المنطقي، إليه انتهت الرئاسة ومعرفة العلوم الحكمية في وقته. قرأ على أبي بشر متى، وعلى أبي نصر الفارابي، وهو نصراني يعقوبي، توفي 364ه. كان مترجما عن السريانية، ومعظم مؤلفاته في المنطق. وعن طريق يحيي بن عدي، تسلسلت المدرسة المنطقية في بغداد، فرأسها أبو الخير الحسن بن سوار المعروف بابن الخمار، ولد 331، فيلسوف وطبيب، ومنطقي، وله شروح وتعليقات على أورجانون أرسطو. ثم أبو علي عيسى بن إسحاق بن زرعة، نصراني يعقوبي، له ترجمات لبعض كتب أرسطو، والإسكندرانيين. ثم عبد الله ابن الطيب، تلميذ ابن الخمار، فيلسوف وطبيب، اشتغل بالبيمارستان العضدي، جمع بين الطب والفلسفة، شرح ميتافيزيقا أرسطو وكتبه المنطقية، واتصل بالمراسلة مع معاصره ابن سينا.
لا نود أن نحصي أسماء كل الفلاسفة الذين اشتهروا ببغداد، وأخذ بعضهم عن بعض، فهذا أمر يطول، وفي القدر الذي ذكرناه كفاية لتوضيح مدرسة بغداد الفلسفية، والتي كانت تقوم على منطق أرسطو وشرح كتبه المختلفة في الطبيعيات، والإلهيات، والأخلاق والسياسة، وتهذيب الكتب الطبية والرياضية المأثورة عن مدرسة الإسكندرية.
ولا غرابة أن يدور المذهب الفلسفي حول آراء الفارابي، الذي اعترف له بالرئاسة في الفلسفة، حتى سموه المعلم الثاني. ويمكن تلخيص هذه الآراء في أمور ثلاثة؛ المنطق، وتسلسل الوجود ب «الفيض»، ونظرية الاتصال.
أما المنطق، فهو أداة الفكر، ومعيار النظر، منزلته من الفلسفة منزلة علم النحو من اللغة، إلا أن النحو يعنى بالألفاظ، على حين يعنى المنطق بالمعاني. وقد أثر الفارابي في الفلسفة الإسلامية من جهة المنطق ثلاثة أنواع من التأثير؛ الأول: حسن صياغة العبارة المنطقية، مما يجعلها مقبولة مفهومة. والثاني: العناية بالتحليلات الثانية؛ أي البرهان، بعد أن كان السابقون لا يتجاوزون التحليلات الأولى؛ أي القياس. والثالث: دخول المنطق في علم الكلام، حتى أضحى بعد القرن الخامس الهجري جزءا من مباحثه.
وأما تسلسل الوجود صدورا عن «الواحد»، فإنها نظرية مزج فيها الفارابي بين «الفلسفتين»؛ أي بين أفلاطون وأرسطو، وكذلك أفلوطين، فأصبحت النظرية مستقيمة لا تعتمد على أساسين هما الوجود و«الواحد»، بل على أساس واحد مداره أن الوجود هو «الواحد»، وعن الموجود الأول صدرت جميع الموجودات؛ «على جهة فيض وجوده لوجود شيء آخر.» صدر عن الموجود الأول العقل الأول، ثم يصدر عنه العقل الثاني، وهكذا إلى نهاية العقول العشرة. والعقل العاشر هو الذي يحكم عالم الأرض، عالم الكون والفساد، والعناصر الأربعة. وإنما كانت العقول عشرة لأنها تحرك الكواكب والأفلاك، وهي بحسب علم الفلك اليوناني المتأخر عشرة.
هذه النظرية مشتقة أساسا من الأفلاطونية المحدثة، وتحل مشكلة المادة القديمة عند أرسطو؛ لأن الهيولى في هذا المذهب متصلة بوحدة وجود مع الموجود الأول، وهذا يتعارض تماما مع الإسلام القائل بالخلق من عدم. وقد رأينا أن الكندي كان أقرب إلى روح الإسلام حين نادى بالخلق، بل إنه يستعمل مصطلحا أدق من معنى الخلق، وهو الإبداع. فلما شاعت فلسفة الفارابي عن طريق مدرسته، وعن طريق ابن سينا فيما بعد، لم ينقطع هجوم أهل السنة على الفلاسفة، حتى رفع الغزالي لواء الحملة عليهم في تهافته.
والمقصود بنظرية الاتصال؛ اتصال عقولنا بآخر العقول المتسلسلة عن «الواحد» وهو العقل العاشر. وإذا تيسر لنا الاتصال بالعقل الفعال ؛ أمكن الاطلاع على كل علم بطريق «الفيض» عن الأنوار الإلهية. ويتصل الفيلسوف بهذا العقل بطريق «البحث النظري»، ويتصل النبي أو الولي بطريق «المخيلة» التي تقبل الإلهامات في الرؤيا الصادقة أو في اليقظة على هيئة الوحي. وبهذا المسلك وفق الفارابي بين الحكمة والشريعة؛ لأن الحقائق الدينية والحقائق الفلسفية كلاهما ثمرة «الفيض» الإلهي؛ إما عن طريق المخيلة أو النظر والتأمل. (3) مدرسة ابن سينا
مدرسة الفارابي وهي مدرسة بغداد - وقد عرفت بهذا الاسم - كان معظمها من النصارى، بدأت بأبي بشر متى ويوحنا بن حيلان، وبلغت أوجها عند الفارابي وتلميذه يحيى بن عدي، وكانت تعارض مدرسة الكندي معارضة جوهرية، منهجا وموضوعا.
وإذا بمدرسة ابن سينا التي ظهرت في فارس، تعارض تلك المدرسة وتسفه آراءها وتفسيراتها، وتنتقد رجالها فيما عدا الفارابي. قال ابن سينا في كتاب المباحثات
1
صفحة غير معروفة