وقد خلف لنا أرسطو مؤلفات في جميع المعارف، ابتداء من المنطق بأجزائه، والطبيعة، وعلوم الحياة، إلى الميتافيزيقا والأخلاق والسياسة. وكانت تلك المؤلفات متداولة في داخل المدرسة حوالي ثلاثة قرون من الزمان، إلى أن رتبها أندرونيقوس الرودسي في القرن الأول قبل الميلاد هذا الترتيب المعروف حتى اليوم، واكتسبت هذه المؤلفات أسماء لم تكن لها زمان أرسطو.
مثال ذلك أن كتاب «الميتافيزيقا» لم يؤلفه أرسطو بهذا الاسم، بل الفن الذي يبحث فيه هو إما الفلسفة الأولى، وإما الإلهيات. أما «الميتافيزيقا» فهو اسم وضعه أندرونيقوس للدلالة على ترتيب الكتب التي جاءت «بعد» الكتب الطبيعية؛ لأن «ميتا» باليونانية تدل على «بعد»، ولذلك قال العرب في ترجمتهم لهذا الكتاب إنه كتاب «ما بعد الطبيعة». وحقيقة أمره أنه ليس كتابا واحدا، بل أربعة عشر كتابا مرتبة على حسب الحروف الأبجدية اليونانية.
والمنطق الذي تركه لنا أرسطو يتألف من ستة كتب أساسية؛ هي (1) المقولات. (2) العبارة. (3) القياس. (4) البرهان. (5) الجدل. (6) السفسطة. وقد أضاف العرب فيما بعد إلى هذه الكتب الستة ثلاثة أخرى؛ مدخلا يسمى «إيساغوجي»؛ أي المدخل إلى المقولات، وهو من عمل فرفريوس الصوري، ثم الخطابة والشعر. والشعر بوجه خاص كتاب فني يبحث في الفن والجمال، ولا صلة له بالمنطق، ولكن العرب متأثرون ببعض شراح أرسطو جعلوه ضربا من القياس. ولم يكن أرسطو يعرف مصطلح «المنطق»، فهذا المصطلح من وضع شيشرون في عصر متأخر، ولكنه كان يعني - بما نقول عنه «المنطق» - «التحليلات». وصناعة التحليل عنده تمر في مرحلتين أولى وثانية؛ فالأولى هي القياس، والثانية هي البرهان. والمقصد من «المنطق» هو البرهان الذي يؤدي إلى معرفة اليقين في الأمور العلمية؛ لأنه يعتمد على مقدمات أولى يقينية. و«المنطق» عند أرسطو، وعند المشائين بوجه عام، هو أداة التفكير، هو «الأرجانون»؛ أي الآلة التي إذا أحسن المرء استخدامها توصل إلى التفكير الصحيح.
وهكذا نرى أن البرهان منهج ضروري للبحث في الطبيعيات، وقد كان أرسطو مبتكرا إلى حد ما لهذا المنهج الذي استخدمه منذ كان في أسوس وميتلين. وعندما افتتح «اللوقيون»، وكان يتتبع الظواهر الطبيعية للوصول منها إلى القواعد الكلية السارية في العالم الطبيعي. وله من الكتب في هذه الموضوعات كتاب الطبيعة، والسماء، والكون والفساد، والآثار العلوية، ثم الكتب النفسية وعلى رأسها كتاب النفس، والطبيعيات الصغرى التي تشمل الحس والمحسوس، والذكر والتذكر، والنوم والأرق، وغير ذلك. ثم الكتب التي تبحث في علم الحيوان، وقد اقتبس الجاحظ في الحيوان كثيرا من آراء أرسطو، وذكره في أكثر من موضع.
وها هنا يمكن تقدير قيمة المساعدة التي أمر بها الإسكندر المقدوني، حين طلب من الصيادين في الجو والبر والبحر أن يقدموا نماذج مما يصيدون لأرسطو، أو على أقل تقدير أن يصفوا له ما لا يتيسر لهم تقديمه من أصناف الحيوان. وهذا المنهج الذي يعتمد على وصف النماذج المختلفة يسميه أرسطو «التاريخ الطبيعي»، وفيما يختص بالحيوان يسميه «تاريخ الحيوان»؛ يقصد بذلك تسجيل أصنافه المتعددة. ولم يتبع أرسطو هذه الطريقة فيما يختص بالبحث الطبيعي فقط، بل كذلك عندما بحث الدساتير ونظم الدولة. إنه يقيم نظريته السياسية بعد التقصي والاستقراء.
لم يكن أرسطو صاحب المنطق فقط، بل يمكن القول إنه صاحب كل علم، وواضع أسس معظم فروع العلوم الطبيعية؛ فهو صاحب الحيوان، وهو صاحب النفس، الذي ظل كتابه في علم النفس عمدة لهذا العلم عشرين قرنا من الزمان. وقد استمرت نظرية العناصر الأربعة حتى القرن الثامن عشر هي النظرية السائدة في العلوم الطبيعية. وهكذا نجد أن فلاسفة العصر الوسيط سموه بحق «المعلم الأول». واستمرت كتبه هي العمدة التي يعول عليها، والأصل الذي يعد أقصى ما يتمناه المرء أن يقوم بشرحها؛ ولذلك قامت المشائية كمدرسة على كتب «المعلم الأول» وشروحها. واشتهر الشراح في هذه المدرسة شهرة مؤسسها، ولا يمكن الفصل في هذه المدرسة بين «المعلم الأول» وبين شراحه. وكيف يمكن هذا الفصل، ولم تظهر كتبه إلا بعد ثلاثة قرون من الزمان، ولم يكن ترتيبها على هذا النحو الموجود بين أيدينا؟ ويبدو أن كثيرا من هذه الكتب من عمل المدرسة لا من عمل أرسطو وحده.
ولما توفي أرسطو، تولى رئاسة المدرسة ثاوفراسطس ثمانية وثلاثين عاما (323-286ق.م)، ويعد المؤسس الثاني لمدرسة «اللوقيون»، بخاصة أن أرسطو لم يستمر في المدرسة إلا ثلاثة عشر عاما. وفد إلى أثينا من جزيرة لسبوس، وحضر على أفلاطون في الأكاديمية، وعرف أرسطو في ذلك الحين، وتوطدت الصداقة بينهما. ولما هجر أرسطو أثينا قبل وفاته بعام، عهد برئاستها إلى ثاوفراسطس، ووهب له في وصيته المكتبة والمذكرات التي كان يلقي منها محاضراته، والتي نشرت فيما بعد على أنها مؤلفات «المعلم الأول».
وقد ذكرنا من قبل أن عدد الذين كانوا يحضرون دروسه بلغ الألفين ، ولعل هذا العدد كان يحضر دروس الخطابة والأخلاق وما أشبه. والأشبه أن الرقم مبالغ فيه. وقد تابع ثاوفراسطس جهود أرسطو في تأسيس المدرسة واستكمالها؛ فوسع الحديقة، ونظم الأوقات والمناهج للتدريس. واشتهر بكتابه في النبات، وله في هذا الفن كتابان في الواقع هما تاريخ النبات، وعلل النبات، ظلا عمدة هذا العلم في الزمن القديم والعصر الوسيط. والعرب يعرفون ثاوفراسطس ويبجلونه، وترجموا كتبه. وجاء في وصيته ما فحواه أن المال الذي أودعه عند هيبارخوس ينفق منه أولا على إتمام تجديد بناء المتحف، وما فيه من تماثيل الآلهة. وثانيا أن يوضع في المعبد تمثال أرسطو كما كان من قبل. وثالثا تجديد بناء الرواق المجاور للمتحف، بشرط أن يكون جميلا كما كان، وأن يوضع في الرواق السفلي المناضد وعليها خرائط البلاد التي اجتازها الرواد المستكشفون. وأيضا يجب إصلاح المذبح وتجميله. إلى قوله: وإني أوصي بإتمام تمثال نيقوماخوس في الحجم الطبيعي، وقد دفعت الأجر المتفق عليه للمثال براكستيلس ... وإني أوصي أن تتألف هيئة المدرسة من هيبارخوس، ونيلوس، وسطراطون، وقالينوس، وديموتيموس، وديمارتوس، وقالستينمس، وميلانتيس، وبانقريون، ونيقيبوس.
والوصية طويلة لم نذكر إلا بعضها؛ لنبين كيف كان رئيس «اللوقيون» يفكر في مصلحة المدرسة حيا وميتا، وكيف كان يعنى بتجميلها، كما وضح لنا عدد الخلفاء البارزين الذين كانوا يديرون أمور المدرسة. وهذه الهيئة أشبه شيء بمجلس إدارة للنظر في جميع شئون المدرسة، ويعد رئيس المدرسة رئيس مجلس الإدارة.
تولى المدرسة أسطراطون من 286 إلى 268ق.م، وقد اشتهر باسم أسطراطون الطبيعي؛ بسبب انقطاعه لبحث الطبيعة. وقد علم بطليموس فيلاديلفوس الذي نفحه مبلغا عظيما من المال يضاهي ما أعطاه الإسكندر لأرسطو. وله مؤلفات كثيرة ذكر ديوجينيس أسماءها، كما أثبت وصيته التي جاء فيها أنه يعهد برئاسة المدرسة إلى «ليقون»؛ لأن الآخرين أصبحوا إما طاعنين في السن، وإما في غاية الانشغال. ويبدو من النظر في وصية رؤساء المدرسة أن الرئاسة كانت في بعض الأحيان بالنص والتعيين، كالحال في تولية «ليقون»، وفي بعض الأحيان الأخرى بالانتخاب من جماعة الفلاسفة الذين يديرون أمور المدرسة، ويعيشون معا معيشة مشتركة.
صفحة غير معروفة