6
وقد اقتبست من قبل من كتابات المفكرين الإغريق مقتطفات تدل على عالمية كاملة التطور وازدراء جريء لقيود الوطنية، وتذكرون ما قال ديموقريطس الأبديري من أن «كل بلد تحت منال الرجل الحكيم» وأن الأرض بأسرها موطن الروح الطيبة، وقد سارت النهضة على هذا النهج؛ لأن الإنسان حينما يشرع في تحرير الفكر تخف عنه وطأة الوطنية، ومن ثم فلا عجب أن تجد كوروس أوركيس - وهو اسم نختاره اعتباطا - الرجل الإنجليزي الذي يهتم بالجمال أو الحق أو المعرفة أشد عطفا على الفرنسي أو الألماني أو الصيني الذي يشاركه ذوقه منه على ابن موطنه الذي يشارك في ذوقه مجلة «بنش» أو «جون بول».
غير أن الوطنية هوى يشق أبعاده عن الدولة أو المجتمع. والعالمية - وهي النتيجة المنطقية للفردية - بطبيعتها صفة من صفات الفرد أكثر منها من صفات الجماعة، وليس من شك في أن الأثينيين كانوا وطنيين، إلا إن وطنيتهم تخلو من بعض مساوئها لأنهم كانوا صادقين في حبهم أثينا لما كانت عليه ، لا لفكرة وحشية ساذجة وهي أنها مدينتهم. كانوا يحسون هذا الإحساس عن تفكير، لما في المدينة من صفات معينة محببة، لا عن غباء لعلمها أو اسمها، وكذلك كان للأثينيين عذرهم، فقد كانت دولتهم محاطة بدول أخرى تهددهم وتعاديهم. وكان لا مناص لهم من الإحساس بأنهم يقفون موقف الدفاع، ولما انتصف القرن الخامس عشر هبطت هبوطا كبيرا الحماسة الوطنية للمدن الإيطالية، واستأجر الطغاة جيوش المرتزقة لأغراضهم السياسية. ولم يسهم المواطنون إلا قليلا - أو لم يسهموا قط - في الحروب التي نشبت بين الأسرات، ولو أن الإيطاليين أدركوا أن المدنية الإيطالية في جملتها مهددة - كما كانت - من جانب البرابرة الجرمان أو الإسبان، ولو أنهم سلحوا أنفسهم للدفاع، لهبطوا ولا شك بمستوى مدنيتهم، ولكان لهم في ذلك ما يبررهم كما كان للأثينيين، وتكاد أن تكون جميع حروب القرن الثامن عشر منازعات بين جيوش من الجند المحترفين المدربين على القتال أحسن تدريب؛ فاشتهر المدنيون المتفوقون في تعليمهم بانتفاء العاطفة الوطنية والبغض بينهم.
إن جميع الشعوب المتمدنة عندها إحساس بالقيم، ويختلف هذا الحكم في معناه عن قولنا إنه كان لديهم ناموس للأخلاق. ففي الأخلاق ربما كانوا متشككين كل التشكك، وربما قبلوا نظرية ثابتة مسلما بها، أو نظرية تقوم على الإلهام الشخصي، أو ربما أخذوا بمبدأ النفعية وأقروا أنهم يسعون لتحقيق أكبر قسط من السعادة لأكبر عدد من الناس، ولكنك لن تجد شخصا متمدنا من جميع نواحيه يقبل قانونا للأخلاق يهدف إلى توفير أكبر قسط من السعادة لأكثرية مجموعة مختارة اعتباطا وبغير تمييز. إن الفرد إذا تقدم في المدنية لا يمكن أن يقبل الوطنية كقاعدة خلقية بغير تردد. إنه يميل بحق إلى الإقلال من التفكير في حدود المجموعة. كما أن اعتبار «بلده» وحدة لها مصالح تتميز عن مصالح بقية العالم فكرة تفقد وضوحها تدريجا في نظره، حتى يشعر في النهاية - بعدما يدرك أن الفرد وحدة لها مصالحها المتميزة وهذا الكوكب وحدة أخرى - إن حدود جميع الوحدات المعروفة الأخرى وتخومها غامضة اعتباطية. هناك أفراد وهناك الجنس البشري، وحينما تتدبر العقول القوية المدربة في حرية وانطلاق تنهار العقيدة في وجود الحواجز المأمونة بين هاتين الحقيقتين الثابتتين، وقد يكون من أسباب التيسير أحيانا -لأغراض تنظيمية أو بيولوجية مثلا - أن ننظر إلى الأفراد أعضاء في جماعات: الرجال، والنساء، والأطفال، أصحاب الساق الواحدة أو الرئة الواحدة، قصار الناس، وطوالهم وأصحاب الشعر الأحمر، والمتعلمون، ومدمنو الخمور، وحمالو السكك الحديدية، والحلاقون، والألمان، والإنجليز والأتراك. إلا أن مثل هذه المجموعات لا يمكن أن تكون لها ما للأفراد من واقع أو من صفة أكيدة أو وجود لا نزاع فيه، أو ما لهم - في الحقيقة - من فردية، وأهم من ذلك أن الجماعات التي تقوم على أساس الوضع الجغرافي أو الفروض الجنسية تبدو في اعتبار المدنية أقل من غيرها واقعية وأقل منها في الصفات المشتركة وأشد غموضا.
العالمية سلاح تميل المدنية إلى الدفاع عن نفسها به حينما يشتد تهديد العصبية الوطنية؛ لأن الوطنية خصم لدود للمدنية. هي مرض قوض في النهاية صرح أثينا، وهدد أكثر من مرة سلامة كيان القرن الثامن عشر، وإنا نشك في أن التعصب الديني نفسه قد تولدت عنه من الويلات البربرية ما يفوق هذه الظاهرة الحديثة من مظاهر غريزة القطيع. كم من ملايين البشر انهار أو أفقر من جراء هذه الظاهرة التي هي من بقايا عصر ما قبل الإنسان؟ كم من إمكانيات الخير العام ما ضحي به في سبيل هذه الزائدة سريعة التهيج؟ والعصبية الوطنية - برغم هذا - غول لا يمكن الاقتراب منه، ولا يستطيع أحد أن يحدثك على وجه الدقة عن ماهية الأمة. إن وجود ألمانيا وإنجلترا يشبه وجود ناديين من نوادي كرة القدم. تستطيع اللجنة التنفيذية في كل منهما أن تختار أحد عشر لاعبا يتبارون مع أحد عشر لاعبا آخرين، يهتف مؤيدوهم من الجانبين ويهللون، ومع ذلك فإن أحدا لا يشك في أن العامل من عمال السكة الحديدية في كرو بينه وبين زميله في شفيلد قدر مشترك أكبر مما بينه وبين رئيس الغرفة التجارية في كرو الذي قد يكون بالمصادفة رئيس نادي كرة القدم. إن الناس جميعا يستطيعون الانحياز، وأكثرهم يستطيع أن ينحاز إلى أي جانب. من أجل هذا كان من اليسير الإبقاء على روح التعصب الوطني حيا، ولكن إذا كان هناك معنى حقيقي في تقسيم الناس إلى قوميات مختلفة، لا بد بالتأكيد أن تكون هناك صفات مشتركة يختص بها كل من ينتمي إلى قسم معين، فما هي هذه الصفات؟ ما هي الصفات الخاصة التي يشترك فيها ملتن مع بوتملي وشلي ومستر لويد جورج ودارون وسر أولفر لودج ودوق ولنجتن وفستانلي، وأسفف لندن، والأسقف باركلي، وبليك وكولردج وسروليم جوينسن هكس؟ ولما كنا قد بلغنا هذا، فما هي الصفات الخاصة التي اشترك فيها معك أو مع الرجل الذي جلب لنا النصر في الحرب؟ إنه يتكلم الإنجليزية، وكذلك يتكلمها الرئيس ولسن، وكذلك يتكلمها القيصر ولهلم: إن المستر جورج يتكلم لغة ويلز كذلك، التي لا أتكلمها أنا على الأقل، وهناك لغات أخرى قديمة وحديثة أعتقد أننا نتفوق عليه فيها. ومن ثم فإن اللغة، بدلا من أن تضم بعضنا إلى بعض، توحي بتقسيم ربما باعد بيننا. إن ثلاثتنا ولد في الجزر البريطانية، وربما ولد فيها كذلك كارل شيدنتز، وماريوس بيرفت، وديمتري بروتو بوبوف، وسقراط كنبيرفت، والحاج بابا، وعبد اللطيف، وبوشي لنج، وأرنست روتشيلد وشيوزا موني (وهم أجانب من جنسيات مختلفة). فهل أفرض أن التعصب الوطني، ذلك الشيء الذي من أجله يتحمل المرء كثيرا من المشاق، ويتجاوز عن كثير من المزايا، هو نفس الشيء الذي يشترك فيه هؤلاء الرجال معا ومع مستر لويد جورج ومعي؟ إن كان الأمر كذلك، استطعت أن تفهم في يسر لماذا يرى المتمدنون باطلا معينا في تقسيم الناس إلى أمم.
ومن الصفات التي يتميز بها تميزا واضحا الرجل المتمدن من الرجل الهمجي روح الفكاهة، وليست روح الفكاهة - عند التحليل الدقيق - سوى إحساس بالقيم ارتفع كثيرا في سلم التقدم، ولست أقصد بروح الفكاهة استساغة المجون والتهريج، وأستطيع أن أتصور - مثلا - ما يقوم به الفدا في سيلان من وضع الأشواك في حصير الآخرين، أو اليوروبا في غرب أفريقيا من تبادل التسلية بالحكايات الماجنة، وإنما أقصد بروح الفكاهة القدرة على إدراك الجانب المضحك من أخذ الأمور مأخذا جديا أكثر مما تستحق، وإعطائها أهمية ليست جديرة بها، ولا يتمتع بهذه القدرة إلا أولئك الذين يستطيعون أن يفرقوا بين الوسائل والغايات؛ فما يثير الضحك أن تعزو إلى الوسيلة الأهمية التي تستحقها الغاية. ولما كانت كل أعمال البشر لا تبلغ المثل الأعلى، فإن جميع المحاولات البشرية تبدو أحيانا في عين الرجل المتمدن من جميع نواحيه أمورا تثير الضحك ولو إلى حد ضئيل، غير أن الحماسة في البحث وراء الحب والجمال والحق أمور لا يعلو فيها الضحك ولا يطول إلا من الحمقى الذين لا يستطيعون أن يدركوا هذه الحماسة أو يقدروا الهدف منها. إن الحالة العقلية التي تسيطر على المحب، أو على من يبدع أو يتأمل الجمال، أو على من يتطلع إلى قمم الحق العالية، حالة طيبة في حد ذاتها، ومهما تكن الوسيلة التي تستخدم في بلوغها شاقة أو بغيضة، فإنه يجب ألا تحكم عليها بعدم الملاءمة - وإن كنا في الواقع كثيرا ما نفعل ذلك. إن هذه الأمور غايات طيبة، ومن ثم يشق أخذها مأخذ الجد أكثر مما ينبغي، وإذا ما خرجنا عن هذا النطاق المقدس للغايات وطرقنا باب الوسائل، وشرعنا ننظر إلى الناس الذين يشغلون أنفسهم بالسياسة والتجارة والكرامة والراحة والسمعة والشرف وما إليها، فسرعان ما يتبين لنا أنهم يعالجون هذه الوسائل بالجد الصارم الشديد الذي لا يجوز إلا للغايات. إنهم يأخذون هذه الأمور مأخذا جديا أكثر مما ينبغي. يدلك على ذلك إحساسك بالقيم، وترد عليه روحك الفكاهية بومضة من السرور لها لون معين لا يراه إلا المتمدنون.
هذا السرور الذي لا يستطيع أن يدركه الرجل الهمجي بما لديه من إحساس بدائي بالقيم، وعجز عن التمييز بين الوسائل والغايات، هذا السرور يستمتع به كل رجل تمدن بدرجات مختلفة. إن روح الفكاهة مميز من مميزات الفرد الضالع في المدنية؛ إلا إنه لأسباب أرجو أن أوضحها حالا لا يترتب على ذلك أن يعيش أرقى الأفراد مدنية في أرقى العصور مدنية، بل على العكس من ذلك يبدو أن أرقى الأفراد مدنية في أي قرن له نصيب من المدنية يجب أن يكونوا أرقى مدنية من نظرائهم في القرن السابق بشرط أن يكون تراث الماضي دائما في منالهم وأن تتوفر لهم وسائل الاستمتاع به، فقد كان أكثر الرجال تمدنا في القرن الثالث عشر أحط في المدنية إلى درجة لا تقاس من الأثيني أو حتى من الروماني المثقف، وذلك لأن العصور الوسطى كان يشق عليها أن تستمد أي شيء من الماضي أو أن تفيد كثيرا من القليل الذي تحدر إليها، وحتى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر لم يكن الطريق بعد معبدا، ولا أتصور أن أشد رجال النهضة تهذيبا كان يظهر بمظهر الشخصية التي لها قيمتها في دائرة أسبسيا
Aspasia
ولكن إذا كانت النهضة ما برحت تتجه إلى أعلى، فمن المؤكد - فيما أظن - أنه عندما انتصف القرن الثامن عشر كان هناك من الرجال والنساء من سموا في المدنية على سابقيهم، ويرجع السبب أولا في ذلك - من غير شك - إلى أنهم تعلموا منهم الكثير؛ إلا إن الرجال والنساء الضالعين في المدنية في القرن الثامن عشر لم يؤثروا برغم هذا في عصرهم تأثيرا قويا عميقا كما فعل المتمدنون في أثينا، وربما يعود ذلك إلى أنهم كانوا نسبة ضئيلة من السكان. كانت مدنية القرن الثامن عشر أحط درجة من مدينة بركليز، ولكني برغم هذا أستطيع أن أقول إنه لم يوجد بين الأثينيين من يبلغ في مدنيته مبلغ فلتير، وعلى أية حال فإن الرجل الكامل المدنية في القرن الثامن عشر كان أرهف حسا في فكاهته من الأثينيين بدرجة واضحة. لم يبلغ أرستوفان نفسه مبلغ لافونتين (منذ البداية) في رقة الحس، أو مبلغ جرسيه، أو منتسكيو، أو ماريفو، أو فلتير، أو بومارشيه، أو - في هذا الشأن - مبلغ كنجريف، أو بوب، أو جولد سمث، أو ستيرن، أو جبن، بل إن أرقى المتمدنين في العصر الحاضر ربما فاقوا كل من عداهم في دقة الحس ، من حيث الفكاهة، أو في تقديرها على الأقل. وإن كان الأمر كذلك فلست في حاجة إلى أن أعزز رأيي بأن أذكر أن ظهور عصفور واحد من عصافير الجنة لا ينبئ بقدوم الصيف.
وأراني في هذه الفقرات الأخيرة كنت أبحث في الموضوع من نهايته إلى بدايته، في حين أنه كان ينبغي أن أرجئ معالجته إلى بعد ذلك وأن أعالجه في جو خاص به. إن روح الفكاهة والعالمية كذلك من صفات الشخص المتمدن أكثر من أن تكون من صفات المجتمع المتمدن، ومع أني أرمي إلى التدليل على أن المجتمع المتمدن ليس إلا مجتمعا لونته حفنة الأشخاص المتمدنين، إلا إني لم أثبت ذلك بعد، وليس غرضي المباشر أن أصف الرجال والنساء المتمدنين، وإنما غرضي أن أكتشف الصفات التي تشترك فيها وتختص بها تلك المجتمعات الثلاثة التي عددتها نماذج الكمال، ولما كنت الآن قد انتهيت من ذكر هذه الصفات التي تنشأ عن الإحساس بالقيم، فلا بد لي أن أتجه نحو تلك الصفات التي تغري إلى تتويج العقل.
صفحة غير معروفة