ومن أقوى مظاهر التصوف في حب أهل البيت ما كان يقع من أنصارهم في حضرة معاوية، ومن شواهده ما وقع من أبي الطفيل، وكان معاوية يتشهى أن يراه فلم يزل يكاتبه ويلطف له حتى قدم عليه، فجعل يسائله عن أمر الجاهلية، ودخل عليه عمرو بن العاص ونفر معه، فقال لهم معاوية: أما تعرفون هذا؟ هذا خليل أبي الحسن! ثم قال: يا أبا الطفيل، ما بلغ من حبك لعلي؟ قال: حب أم موسى موسى، قال: فما بلغ من بكائك عليه؟ قال: بكاء العجوز الثكلى والشيخ الرقوب، وإلى الله أشكو التقصير!
قال معاوية: إن أصحابي هؤلاء لو كانوا سئلوا عني ما قالوا في ما قلت في صاحبك!
قالوا: إذن والله لا نقول الباطل.
فقال لهم معاوية: لا والله، ولا الحق تقولون!
6
وحدثوا أن معاوية كان يسمر مع جماعة من بني أمية، فذكر اسم الزرقاء ابنة عدي بن قيس الهمدانية، وكانت شهدت مع قومها بصفين، فقال لجلسائه: أيكم يحفظ كلامها؟ قال بعضهم: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين. قال: أشيروا علي في أمرها، فقال بعضهم: نشير عليك بقتلها. قال: بئس الرأي أشرتم به علي، أيحسن بمثلي أن يتحدث عنه أنه قتل امرأة بعدما ظفر بها؟ وكتب إلى عامله بالكوفة، فأوفدها إليه، ثم قال لها بعد الترحيب: أتدرين فيم بعثت إليك؟ قالت: أنى لي بعلم ما لم أعلم؟! قال: ألست الراكبة الجمل الأحمر، والواقفة بين الصفين تحضين على القتال، وتوقدين الحرب، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين! مات الرأس، وبتر الذنب، ولم يعد ما ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر. قال لها معاوية: أتحفظين كلامك يومئذ؟ قالت: لا والله لا أحفظه، ولقد أنسيته. قال: لكني أحفظه، لله أبوك حين تقولين: «أيها الناس! ارعووا وارجعوا، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عند قصد المحجة، فيا لها فتنة عمياء صماء، بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تنساق لقائدها! إن المصباح لا يضيء في الشمس، ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، ألا من استرشد أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه.
أيها الناس! إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرا يا معشر المهاجرين على الغصص، فكأن قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة الحق ودمغ الحق الباطل، فلا يجهلن أحد فيقول: كيف وأنى، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ألا وإن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء! ولهذا اليوم ما بعده .»
ثم قال لها: والله يا زرقاء لقد شركت عليا في كل دم سفكه.
فقالت: أحسن الله شارتك، وأدام سلامتك، فمثلك بشر بخير وسر جليسه.
قال: أويسرك ذلك؟
صفحة غير معروفة