قلت: أعوذ بالله أن يكون مثله والدي. أنا لم أعرف والدي جيدا لأنه توفي إلى رحمة ربه وأنا صغير، ولكنني سمعت من أناس كثيرين أنه كان رجلا أحسن الله أدبه وعصمه مما يشين أهل الوقار. أما هذا الرجل الذي يذم حسبي ونسبي في قصر سلطان العثمانيين فلص دنيء حقير كذاب أفاك، لا يقاس بأحد حتى من السوقة. فالتفت أبو لحية إلى جليسه وقال: أرأيت كيف يستبطر حلم السلطان هؤلاء القوم؟ أما والله لو كان أمره بيدي لتوالت على أكتافه العصي.
قلت: وما يمنعك من ذلك؟
قال: خوفي من غضب سيدي الذي أعيش بأنعمه، وإني لفخور بخوفي هذا. وأنتم لا تعرفون مقام السلطان، فتبلغ منكم قلة الأدب أقصاها. وقد صدق من قال: أشد الناس جرأة على الأسد أشدهم جهلا لبأس الأسد.
قلت: ويحك! ألا تدري أن السلطان لو جعل أمرك بيدي لألجمت فاك، ولجعلت فوق ظهرك برذعة، ولأركبت الناس متنك بلا أجرة. أنت لا تعلم ما تقول، ومن العبث أن أضيع معك أوقاتي، وها أنا ذاهب فإن كان عندك ما تبلغني عن السلطان فلا أتقبله إلا مكتوبا. وخرجت من بين يديه فلم يمانعني.
ثم أرسلت رسالة برقية إلى عبد الحميد وصفت فيها ما اتفق لي مع سيافه، وقلت: إذا لم ينصفني طلبت إنصافه في جرائد أوروبا. فدعاني المرحوم عاصم بك كاتبه الخاص وأبلغني أن السلطان أسف أشد الأسف لما جرى لي مع أبي لحية، وأخبرني أنه سيحضر إلي عند عاصم ليعتذر إلي عما فرط منه، ونصح لي ألا أجيبه جوابا يؤلمه. فجاء أبو لحية وسلم علي وزعم أنه لم يرد بكلامه لي غير النصيحة، وأنه أحبني فرأى أن يخاطبني بما يخاطب به ولده إذا لم يطعه.
قلت: إذا كنت تقول لولدك في أية دار فجور نشأت، فهذا كلام أنا لا أصبر عليه. وحين هممت بالانصراف مال عاصم بك بي جانبا وقال: يقول لك مولانا السلطان: إن من حسن أدب المرء ألا يكثر من الوعيد في مخاطبة مليكه. ويريد ألا يسمع منك كلاما عن الجرائد الأوروبية.
فخرجت من ذلك القصر الذي استوطنه الظلم وأنا أكاد أعدو هربا، وقلت: يا لك من صرح شيد على خراب الوطن، فلئن مد الله في أيامي ورأيتك وقد خلت مقاصيرك وحجرك وقفت أمام رسمك المحيل وحييتك بما قاله الملك الضليل في الغابرين:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي
وهل يعمن من كان في العصر الخالي
فدخلت منزلي واستلقيت على مقعد لي وجعلت أفكر فيما مر بي من المخاوف والمهالك، وقلت: عسى يعقب الله هذا التعب راحة فأخرج لا غانما ولا غارما، كما قال الشاعر القديم:
صفحة غير معروفة