وإلى القراء أسماء إخوان لي عرفتهم بالآستانة وبمصر، ثم التقيت بهم في سيواس، وقد نفوا إليها بعد أن توسطت المعية في عودتهم إلى الآستانة، وضمنت لهم ألا يمسهم بها سوء.
فائق أفندي الملقب لقصره ب «كوجك فائق»؛ أي فائق الصغير، شوقي أفندي، صلاح الدين أفندي، فائق أفندي، خالد أفندي، توفيق أفندي. وقد أرسل مع هؤلاء مصطفى وجداني أفندي، ولكنه نفي إلى جزيرة رودس ونفي أيضا ستة آخرون إلى جهات مختلفة، وهؤلاء كلهم أحياء يرزقون. أقاموا نحو العشرة أعوام فوق جبال سيواس يلاقون من مشاق الاغتراب وآلام الظلم ما لا يصبر عليه غير المجاهدين. وما قيل في المعية لهم إننا مشترون ذممكم ومساوموكم في وطنكم بالمال، بل قيل لهم أنتم أنصار الحرية وجنودها المتطوعون، ونحن معجبون بما أنتم قائمون به من مناصرة الحق والذود عن الوطن، ولكن تعلمون أن مثل عملكم يحتاج مالا كافيا ورزقا موصولا، وأكفكم اليوم صفر من المال، وإذا طال الأمر ربما كنتم عيالا على إخوانكم الآخرين. وعندنا الرأي الصواب، أن ترجعوا إلى بلادكم وتكفوا أنفسكم ذل الحاجة في هذه البلاد التي لا تعرفون لغة أهلها، ولا تجدون لكم فيها من الكسب ما يقوم بأمر معاشكم، ولكم علينا أن نستعطف عليكم السلطان. فإذا جاء عفوه ذهبتم إلى وطنكم وهنالك تتقاضون من الرواتب ما تجعلون بعضها إعانة لسائر إخوانكم المجاهدين. فإذا تأمل المنصف في متكلم هذا الكلام ونظر إلى حال سامعيه، وفيهم أناس لم يذوقوا طعاما منذ يومين - قد سخر منهم أهل مصر وقالوا: هؤلاء الصعاليك يريدون أن يصلحوا الدولة العثمانية - عرف كيف كان اضطرار أولئك الغرباء المجاهدين إلى الرجوع، وكيف كان فوز المعية عليهم.
وقد أوفدت المعية بعد ذلك بعض أبناء «بدرخان» باشا الشهير إلى الآستانة، وكان لها مع أحدهم واسمه صالح بك حرب عوان وشأن لا كالشئون.
وأين هذا من واقعتها مع المرحوم محمود باشا «الداماد» وولديه الأميرين الحرين؛ فتلك لعمر الذمة إحدى الكبر؛ رأت عبد الحميد يجتهد في استرجاع ذلك المجاهد العظيم إلى الآستانة لينتقم منه، ويصب عليه وعلى ذويه أسواط عذابه، وكان الداماد بباريس، فخفت المعية إليه واستقدمته إلى مصر واعدة إياه بمؤازرته وتخفيف حاجته ليواصل جهاده مكفي الحاجة مطمئن الفؤاد، فخدعته ظواهر المقال، وأقبل مع ابنيه يؤم منزل الكرم وينزل بساحة المجد، ثم أقام أياما لقي فيها من أقلام السفهاء وأحلاف الباطل ما استكت له مسامعه. وما راعه إلا قائل من المعية يقول له ارجع إلى الآستانة، ولك علي أن أطلب لك العفو، فما بلغ هذا الكلام سمع الأمير صباح الدين أكبر أنجال الداماد إلا تطاير الشرر من عينيه، وقال لأبيه: إذا كنت تنوي الرجوع فأنا لا أنوي الرجوع، وخرج من عنده حنقا وسافر من ساعته إلى باريس مستصحبا معه أخاه، واضطر والده الكريم أن يلحق به إلى عاصمة الحرية، وبقي يواصل فيها جهاده مع شبليه حتى قبضه الله إليه.
كذا كان ما كان بين التابع والمتبوع، يختلفان فيتذرعان إلى الوفاق بكل ذريعة ولو ذهبت بأرواح العباد، ويتوافقان فيتبادلان الهدايا والتحف؛ وهي إما قصور شيدت بدماء الأمة، وإما أوراق بالية مما حبره فحول كتاب الأحرار، وإما شبان هجروا أوطانهم واستخلفوا للفقر والذل أهلهم وعشيرتهم في سبيل الوطن، فتخرب تلك الدور ليعمر قصران أحدهما صرح الخليفة وثانيهما بيت الإمارة.
ومالي لا أذكر في هذا الفصل ما وقع للمرحوم صالح جمال صاحب المطبعة العثمانية مع المعية من أجل مطبعته؛ فذلك مما يحلو إيثاره مع ما سبق بيانه من المكارم؛ فقد أتت المعية في سياستها تلك بأساليب من الخدع الحربية تصفر لها الأنامل؛ وجهت من قبلها رجلا ليشتري المطبعة العثمانية حين جرى ما جرى بين صاحبها وجماعة من جمعية العثمانيين الأحرار فيما يرجع إلى حساب المطبعة. فما برح هذا الرجل يغالي في الثمن حتى وقف عليه البيع، فأراد أخذ المطبعة بما فيها من كتب وأوراق ودفاتر، ولما أبى ذلك رجال الحزب حجز رجل المعية على المطبعة بما فيها، وكانت المعية تريد أن تستخرج من تلك الدفاتر أسماء المشتركين في جريدة القانون الأساسي، وأن تأخذ رسائل من يراسلون الأحرار من إخوانهم المقيمين في البلاد العثمانية؛ لتبعث بذلك كله إلى عبد الحميد، فينتقم هو منهم كما يريد . وقد كبر الأمر على أحرار العثمانيين، فأرسلوا بعضهم إلى اللورد كرومر يعلمونه بما هم صائرون إليه، فأخذ تلك الأوراق إلى دار الوكالة البريطانية، ولا تزال فيها إلى اليوم؛ وبذا مكن الله عدله، وخلص مئات بل ألوف من الأحرار كادوا يقعون في مخالب المفترس الكاسر لولا اللورد كرومر. وقد أشرت إلى هذا في أحد الفصول المتقدمة في معرض الكلام عن مصلح مصر ونصير العثمانيين.
ولقائل أن يقول: كانت السياسة تقضي إذ ذاك بمثل هذه الأمور، ولو أن المعية شاركت الأحرار في جهادهم لأدى ذلك إلى مسائل قد لا يصل إلى كنهها القادمون. فأقول هذا يجوز. غير أنه ليس في الناس من طالب المعية بشيء هو فوق وسعها. ولقد كان في القدرة أن تتغاضى وتترك هؤلاء المجاهدين في جهادهم غير معترضة لهم بخير ولا بشر. فإذا عذلها عاذل من جراء ذلك فالجواب هو تقول: بلادنا حرة وأنا لا قبل لي بمخالفة النظام ولو أمكن لي منع هؤلاء لفعلت. وإذا لم يكن للمعيد بد من مطاردة الأحرار واسترضاء المستبد، فيكفيها أن تكلف أحد رجالها مخاطبة الأحرار ظاهرا في الكف عن الحروب القلمية، وأن تدع ذلك يذكر لها في صحف الأخبار، فتسقط في مجادلتها حجة الظالمين.
ولكن أمراء الشرق إلا قليلهم، يحبون الاستبداد طبعا، ولهم في ذلك فلسفة لا يفلح في تخطئتها برهان؛ فقد لقنوا منذ صباهم عقائد من قوم يفتون بتحريم الشيء في يومهم، ثم يفتون بتحليله في غدهم، والحال واحدة ومأخذ الحكم واحد. فأيقن هؤلاء المسيطرون المتألهون أن الله خلق العامة من أجل الخاصة، وخلق الرعية لتؤنس الملوك في وجوههم؛ فكيف يطمع بعد ذا صاحب عقل أن يدخل ذرة من الإنصاف في تلك القلوب؟!
يسافرون إلى أوروبا أم يؤتى لهم بأساتذة أوروبيين ليتعلموا منهم ما يتعلم أمراء أوروبا، لا يفلحون؛ سواء عليهم علموا أم لم يعلموا، أنصفوا أم ظلموا. هم الملوك يجب أن يقدسوا، وأن يقرن ذكرهم إلى ذكر الله. وإذا لم يكن ذلك كذلك، فما لهؤلاء المؤرخين يذكرون لنا في كتبهم عواقب ما صار إليه الباغون. أكانت بينهم وحدة مصلحة، فتواطئوا على الكذب وافتروا إثما وبهتانا على ملوك زمانهم، أم هذه زيادات تخرصها المتأخرون؟
هذه صورة الرجل الحر، العثماني الصادق، حسين بك طوسون، أحد نخبة الضباط الذين يفتخر بهم الوطن. وقد فاتني ذكره سهوا في عداد إخوانه الذين خلصهم من الأسر غير مبال بما يقع فيه من الخطر. وقد فر إلى أوروبا ثم عاد مختفيا كما يراه القارئ في صورته هذه، وبقي سجينا حتى أعلن الدستور، فخرج من السجن بهذا الزي الجركسي الجميل.
صفحة غير معروفة