فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ونظروا إلى «يلديز» ومن يتقربون إليها وأنشدوا ساخرين:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا
وأبنا بالملوك مصفدينا
وبدل رضاء القصر الحميدي غضبا، ونادى مناديه سيفا ونطعا. وخذلت المعية أحلافها وأنصارها، وعاد الجفاء إلى سابق عهده، وكثرت الوشايات والسعايات، وبينا هي كذلك إذ حلت إحدى النقم بحاميها وموئلها عزت العابد، وكان أرسل أحد أبنائه إلى مدرسة من مدارس باريس؛ فاتهمه أحد أعدائه عند السلطان بأنه أرسل ابنه ليكون واسطة في مراسلته للأحرار. فبلغ ذلك ابن هولو، فبادر من وقته واسترجع ابنه وجعل يؤنبه على مخالطة الأحرار، وقال لن ترجع إلى باريس. ولكن الولد كان على علق لبه بتلك العاصمة الفاتنة، وشجته شواطئ «السين» بجسورها العالية ومسارحها الحافلة؛ فأجاب إليها داعي الصبا وطار على أجنحة الشوق لا يلوي على من خلف وراءه من أب ولا غيره، فكم من وشاية يومئذ وكم من سعاية! لو أدرج ابن هولو في تلك الأوراق التي رفعها أعداؤه ليحطوه لكانت أكفانا له ولمن يلوذ به، فكان كالشاعر الذي يقول:
فصرت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال
ولقد أفلح الكاشحون وخر عزت على وجهه، فلزم بيته وانقطع عن «يلديز» وانقطع أصحابه عن طروق داره. وقال أبو الهدى وأحلافه إن ابن عزت لحق بأمير مصر ولجأ إلى عابدين ورسل منها إلى القبة، فأفرد له مكان خاص به وبات ضيفا كريما بجوار مضيف كريم، فأشار على عبد الحميد جماعة من مقربيه أن ينفذ إلى مصر جاسوسا ممن يثق بهم ليتنسم له الأخبار ويطلع مولاه على ما يدور بعابدين من الأعمال؛ فقدم مصر ذلك الرسول المتنكر مستصحبا معه آخرين جربهم وعرف حسن بلائهم. فكان هؤلاء الشياطين يرصدون قصر الإمارة، وجاسوسها «ز...» يقتص أثر جماعة غيرهم، ويواصل أسفاره من الرحمانية إلى الغربية إلى الإسكندرية، ولا يدري ما قدر له في الغيب.
ولما لاحت تباشير النجح على ما دبره رجال عبد الحميد طلبوا المزيد، وقالوا: إذا رميت فأجهز. فاستفزوا جمهورا من أهالي جزيرة «طشيوز» واستقدموهم إلى الآستانة مشتكين مما لحق بهم من الضر بقطع أشجارهم، طالبين نقلهم من الجزيرة إلى موضع يكون بمعزل عن هذا الاعتداء، فكتبوا بذا عريضة وقالوا في وقف «قواله» ما لا أحب أن أقوله الآن. فوقعت العريضة موقع القبول عند خاقان البرين والبحرين وطيب نفوسهم ووعدهم النظر في أمرهم والأخذ بناصرهم، وبقي واحد من الجمهور بالآستانة ليأتيهم بما يتجدد من الأنباء.
وقد حدثت أمور في دائرة الأميرة الجليلة الطيبة الذكر عصمت هانم بنت المرحوم الأمير طوسون باشا. وتلك الأمور هي فيما يتعلق بالأعمال الإدارية. فقضت الحاجة بسفر الجنرال أحمد جلال الدين باشا زوج الأميرة إلى مصر للنظر في مهام تلك الأمور. فظن رجال «يلديز» وخلصاء قصر الإمارة أن سيقدم الجنرال مصر ليخاطب أحرار العثمانيين النازلين بها في العودة إلى الآستانة. ومنهم من أذاع بين الناس أن سيكون للجنرال موضع بالقوميسرية العثمانية ليرقب الغازي مختار باشا ويستطلع خفايا أعماله تخرصا وتلفيقا. فبادر «م. س» باشا وأنفذ إلى صديقه «م. ش» باشا كتابا يستبطئ فيه أعماله ويذم سكوته وسكوت قصر الإمارة ويظهر التعجب من تغافل صاحبه عن هذه الفرصة التي سنحت لاستعادة الصفاء بين التابع والمتبوع بعدما بلغ التجافي حده، ويعده بالرتب العالية والهبات الجذلة. وما اتصل هذا الكتاب بيد «م. ش» باشا إلا ترك شواغله وانصرف عن همومه، واستدعى إلى داره صاحب «عثمانلي» وجعل يؤنبه على إصدار جريدته، ويقول له ينبغي علينا أن نتكتم عيوبنا عن أعدائنا وأن نستر على زلات رجالنا، فما لكم تنشرون من مساوئنا ما انطوى؟! أتريدون أن نفتضح عند خصومنا فنعيش مذممين على ألسنتهم منتقصين في أعينهم؟! وعند سلطاننا لو شئتم ما يفرج المكروب ويحيي ميتة الآمال. فكان مخاطبه يسمعه ويتبسم ويقول: إن مع العسر يسرا.
صفحة غير معروفة