على أن أبا الحرية وصاحبها الأمير الجليل المرحوم مصطفى فاضل باشا نال الشرف وحده في مجاهدة الاستبداد، فكان هو ورشيد باشا قطبي المجد في الملك العثماني، ولكن تكاثرت عليهما الأعداء، وقلت الحيلة، وبقي للأخلاف من بعدهما أن يسيروا على إثريهما.
ولي الأمير فاضل نظارة المعارف ثم نظارة المالية، لا يتقاضى راتبا ولا يراقب كسبا، بل جاد بقناطير من الذهب ورثها من أبيه، فأهدى المعرض الأول الذي أقيم بالآستانة العلية خمسا وعشرين ألف ليرة، وأهدى السلطان مرادا الخامس خمسا وسبعين ألف ليرة، وهاجر من عاصمة الملك يؤم بلاد الغرب حتى استقر به النوى في باريس سنة 1765، وكان استصحب معه الشاعرين الكاتبين الشهيرين كمال بك وضيا باشا، فجاهد بماله ورأيه، وجاهد صاحباه بقلبيهما ويراعيهما، فهزا قصور الظلم هزا. وسار على طريقه شهيد الحرية والوطن مدحت باشا الشهير، وما زال يجاهد ويعمل حتى تمكن من خلع عبد العزيز في قصة معروفة يطول شرحها، وأجلس على سرير الملك مرادا الخامس.
فبينا يجتهد الأمير مصطفى فاضل مع صاحبيه اجتهاد أبي حنيفة وصاحبيه، إذ أتى عبد العزيز. وقد تخلص من عالي وفؤاد بموتيهما واستخلص لنفسه محمودا نديما المعروف عند العثمانيين بنديموف، وإنما سمي بذلك لأنه كان صنيعة آغناتيف، وأول من جعل السياسة الروسية رابحة السوق في المابين. فانطلق هذا الخئون في زمان صدارته يرتكب من الموبقات ما لم يسبقه إليه سواه، استغوى السلطان عبد العزيز حتى أغواه، وحارب به الحرية والأحرار، ثم طلع مدحت في سماء الصدارة، فعنت الوجوه وشخصت الأبصار.
ولا بد لي من ذكر شيء من لائحة أبي الأحرار المرحوم الأمير مصطفى فاضل قبل الكلام على مدحت وأعماله. هذه اللائحة أنفذها الأمير مصطفى فاضل إلى السلطان عبد العزيز حين مهاجرته إلى باريس، وأودعها من الحقائق والكلام الموجع ما نزل على المابين نزول الحديد المذاب. وهذه اللائحة كانت كإعلان حرب من حزب تركيا الفتاة الذي تأسس إذ ذاك على السلطان المستبد.
قال مؤسس الحرية الأمير فاضل بعد الديباجة: أصعب ما يدخل قصور الملوك هو الحق. ومن يحيطون به يخفون الحق حتى عن أنفسهم؛ لأن هؤلاء لما عاشوا في مركز الحكومة وبين لذتها حسبوا أن المشقة التي تكابدها الرعية هي من فتورها، وهم يزعمون أن وقوع الدول في الضعف هو من حوادث الكون التي لا حيلة في درئها.
لا بد من جرأة في الصدق؛ ليبصر الحق من غير وقوع في الأوهام الباطلة، ولا بد من جرأة أكثر من ذلك لبيان الحق للملك. وهذا الصدق لم يتخط عبدك أبدا، وإثباتا لذلك أرجع إلى ذاكرة جلالتك ومن كانوا سببا في نفيي إلى ديار الغربة.
نعم، لم تتهيأ لي إلى الآن خدمة ترى الآثار البادية لهذه الصداقة واستعدادي لها ؛ أي لم أتمكن من خدمة صالحة تستوجب إصلاح وطننا وإعادة الحياة إليه، ولكن أول من أماط الحجب عن وجوه الدول وعرض سيئات حكومتك وجراحاتها لذاتك الهمايونية، وجل أفكار عبدك متجهة إلى خدمة ذاتك الشاهانية. وإني؛ لإخلاصي لذاتك الهمايونية ومحبتي لوطني، لم يبق لي صبر للتفرج عن بعد على الأسواء التي أحاطت بنا ظاهرا وباطنا، وإذ كنت على ثقة من المروءة التي اتصف بها قلبك الشاهاني عددت من وظائف التابعية أن أبين هذه الأسواء مرة أخرى، غير كاتم منها واحدا؛ لنجد لنا سبيلا إلى خلاصنا في حينه.
مولاي صاحب الشوكة، إن ما يقوم به في دولتك من أعمال الفوضى رعاياك المسيحيون، هي كلها من أعمال أعدائنا في الخارج. على أن الإدارة الحاضرة أيضا لها من ذلك نصيبها الأوفر؛ لأن أعمالا لم يكن بها بأس فيما سلف من الأزمان تلوح اليوم وكأنها ظلم وجور على الرعايا من كل جنس، والأوروبيون يحسبون أن المظلومين والممتهنين والمحقرين كل التحقير في تركستان هم من الأمة المسيحية المحكومة. وليس الأمر كذلك؛ إن المسلمين - ولا تحميهم دولة من الدول الغربية - سحقوا ومحقوا أكثر من الملل غير المسلمة، المسلمون كابدوا هذه الكرب إلى الآن بما اتصفوا به من النخوة في الصبر والانتظار. أما الأوروبيون فلا يعلمون ذلك. على أن المسلمين لما كانوا من دم ذاتك الشاهانية التي بيدها زمام حكومتهم، يعدون محبتهم وطاعتهم لعرش سلطنتك من الأوامر القرآنية، ولكن ائذن لي يا مولاي صاحب الشوكة أن أقول لك: إنه لم يبق للملة الإسلامية جلد، لا على الإخلاص ولا على احتمال الكرب. إن أصوات السخط وإن عولجت بالإسكات ما عولجت، أخذت ترن في كل صوب؛ فإنزالهم إذن إلى هذه الدركة من اليأس مضر بنسلك وبهم.
إن من سيئات أصول الإدارة الحاضرة التي ربما كانت على من يخالف رضاءك الشاهاني خاصة ويخالف رضاء الوكلاء أيضا، بل من أنواع الظلم التي لو علمت به ذاتك الهمايونية لأزاحته. إن أعراض التناقص بدأت تبدو في سلالة الأتراك يوما بعد يوم، وإن البعض من عبيدك الصادقين الذين يفتخرون بأنهم من هذه السلالة العلية يرون قلة هذه الأمة فيأسفون أسفا حقا، ولئن كان السبب الأصلي لهذا خطأ الأصول العسكرية، إلا أن الأمر الذي يخيف عبدك أكثر من ذلك ليس هذا، بل الذي يخيفني جدا من أحوالنا الآتية هو - كما يرى في الملل المحكومة - ازدياد سوء الأخلاق الذي عرض لأمتنا العثمانية وتمكنه كل آن وانتشاره.
مولاي صاحب الشوكة، محا آباؤنا قبل أربعمائة سنة إمبراطورية الشرق من على وجه الأرض، وجاءوا البلدة المشهورة التي اتخذها قسطنطين مقرا لملك العالم في أبهتهم وجلالهم وسكنوها، فما كان هذا الشرف التاريخي الذي أحرزوه ناجما عن غيرة دينية أو شجاعة عسكرية، بل كانت الغيرة الدينية والشجاعة العسكرية عكسا لأشعة أخلاقهم الملية، وإنما نالوه لأنهم كانوا مطيعين قوادهم، ولكن هذه الطاعة كانت قائمة على أساس حرية اختاروها وقبلوا بها من أنفسهم، وكان قلب كل منهم وعقله حرا فيما يختار. ولا أدري أية حرية فطرية وأي شمم غريزي اجتمعا فيهم واستحدثا لهم نظاما، وجعلا أخلاقهم الحية ومشاربهم في حالة من الاطراد. هذا هو السبب، سهل لهم الظفر بدولة عظيمة قامت فيها حكومة الظلم وأضحت الذلة والمسكنة وكل المعايب الأخرى دستورا للعمل.
صفحة غير معروفة