مني بعلمي الذي أعطت وتجريبي
الجرائد المصرية في سنة 1892 وما قبلها وما بعدها
كانت الجرائد المصرية إلى سنة 1892 معتدلة السياسة على اختلافها في مذاهبها، ولم تكن السياسات إلا ثلاثة ضروب: عثمانية محضة مسالمة للاحتلال الإنكليزي. وهي التي امتازت بها جريدتان يوميتان «المقطم» و«النيل». وفرنساوية مصرية. وهي التي اختصت بها: «الأهرام» و«المؤيد». ومصرية محضة مع إنصاف المحتلين. وهي التي سارت عليها جريدة «الوطن».
فأما «المقطم»؛ فقد ثبت على سياسته إلى يومنا هذا، ولم يبد منه أدنى تغير فيؤاخذ عليه. وأما «النيل» فقد تغير في أواخر أيامه وظهر تغيره للعيان؛ وما غيره صاحبه بل غيرته أنا. على أنه لم ينتقد السياسة البريطانية ذاتها، بل استكبر حمايتها للأحرار العثمانيين ممن هبطوا مصر ليستمتعوا بحريتها ويحتشدوا بها على حرب الحكومة المستبدة المنقرضة، فكنت أنا وصاحب النيل - رحمة الله عليه - ننكر على الأحرار مساعيهم ونأبى مشاركتهم فيها. ومن هنا يتبين للمتأمل أن اختلاف «المقطم» مع «النيل» لم يكن إلا من الوجهة العثمانية الداخلية، وذلك لأن أصحاب «المقطم» نشئوا في أعظم مدرسة غربية أسست في الشرق. وهي الكلية الأمريكية الكائنة ببيروت، وأخذوا علومهم عن أعظم حكيم غربي قطن الشرق؛ وهو طيب الذكر الدكتور كارنيليوس فانديك؛ فعرفوا التمدين العصري وبرعوا في العلوم الجديدة، وأشربوا الحرية فشبوا عليها وكأنهم ولدوا في أوطانها. وصاحب «النيل» لم يكن كذلك؛ فإن الرجل كان من الراسخين في العلوم العقلية والنقلية مما نحله إياها أحزاب الفكر القديم؛ فكان مؤرخا فقيها وكاتبا ألمعيا، ولكن لم يخل قلبه من التعصب. كانت نفسه الكبيرة لا تستحب النزوع عن القديم ولا تستطيب شيئا من الجديد، فاهتديت أنا برأيه، ولكن وقعت في أخطائه.
وأما «الأهرام» فكان صاحباه - رحمهما الله - محميين بقوة فرنسا، فلم يريا من المروءة أن يخالفاها في سياستها الاستعمارية. ولولا ما سبق منهما من الإفراط في التعصب لها لكان عذرهما أوسع . على أنهما سعيا لخير مصر من حيث ظنا أنه صواب. ولم ينصفا الإنكليز بل أصرا على حربهم، ولم يذكرا للقوم يدا وإن جلت ولم يسترا لهم هفوة وإن صغرت. وأما «المؤيد» فقد ظهر واهي القوى، شديد العزيمة، خلق الجلباب، جديد الهمة، رابط الجأش، جميل الصبر، يعاني الشدائد ويعاين المهالك، رحب الصدر باسم الثغر، فكان يزداد كل يوم شهرة، ويجد من إقبال الناس عليه ومؤازرتهم له ما يبعث نشاطه ويستعيد فتوته. ولم يرض صاحبه أن يمشي في الأرض مكبا، بل سار في مناكبها شامخ العرنين، سامي الطرف، بادي الخيلاء، ثم جنح إلى السياسة الفرنساوية شيئا على يد صديقه من قبل وخصمه من بعد المرحوم مصطفى كامل، رئيس الحزب الوطني الأول ومؤسسه، وصاحب المسيو «دلونكل» أحد ساسة الاستعمار في فرنسا إذ ذاك. وقد أمسى «المؤيد» محالف «الأهرام» كما أصبح «النيل» مخالف «المقطم».
فكانت جريدة «الوطن» وحدها تغني مصر كما تهوى مصر، بل كما يجب عليها لمصر. حفظت العهود؛ عهود أجدادها؛ الصيد الأول، نسل الشمس، وخدمت قومها كما أراد قومها. ولما كان الأقباط، أولو مصر، قوما امتازوا بحب وطنهم وشرف نفوسهم وبعد هممهم ومحبتهم الجد ومجانبتهم المعايب؛ لم تثن هماتهم عداوات البعض من مواطنيهم المتعصبين، وكما حموا مجدهم على قلتهم وكثرة حسادهم وظلم حكامهم أعانوا جريدتهم فعاشت لهم واستفادوا بها.
على أن هذه الجرائد لم تكن متمتعة بمثل حريتها اليوم؛ فإن قانون المطبوعات الذي وضع في سنة 1881، ونصب معه البارون مالورتي الشهير مديرا لقلم المطبوعات، ضيق الخناق على أرباب الصحف والأقلام، وسلب الأمة المصرية حريتي الفكر والسياسة.
فكانت الجريدة من الجرائد تنشر الخبر لا يوافق سياسة الحكومة، فيأتيها الإنذار من الداخلية تنشره في أول عدد يصدر منها بعد وروده، وإذا أنذرت مرتين ألغيت في الثالثة، وقد يحكم عليها بتعطيلها شهرا أو أكثر أو أقل. وقد تلغى بغتة. وكل ذلك على ما يبلغ ذنبها وجنايتها السياسية. ولكن لم يطل أمد هذا الظلم، وأعلنت حرية المطبوعات في وزارة الرجل الحر مصطفى باشا فهمي، وكان ذلك في أواخر سنة 1892 على ما أظن، ثم أتت الوزارة الرياضية فهمت برفع هذه الحرية، فلم تفلح وذهبت غير مأسوف عليها.
غير أن الجرائد المصرية لم تشبه أخواتها في الغرب بحال من الأحوال، لا في عهد أسرها ولا بعد عتقها. وسبب هذا النقص اتحاد الصحافيين على استرضاء الشعب؛ فهم يرون أن الشعب المصري لا يحب في صحفه إلا أن تكون هكذا، وفاتهم أن الجرائد هي ألسن العقلاء تنطقها الحكمة ولا يستميلها الهوى، وأن الواجب عليها أن تقود لا أن تقاد.
وكم أسف أجده عندما أتذكر ماضي الشباب، أيام كان الفتى منا شغله مقالة يكتبها أو قصيدة ينظمها لتذكرها له الصحف السيارة ناعتة إياه بالفاضل والأديب. أيام كان الشاب منا يقضي ليله في معاقرة ولهو وسماع، ثم يصبح فينادي في الصحف باسم الوطن ويدعو إلى مكارم الأخلاق، وإذا صادف من أديب غرة انبرى له طالبا مناضلته طامعا في مساجلته، اقتساما لشهرته، ولك يقال إنه ناظر فلانا فغلبه. كانت أمامنا ساحات المطبوعات متباعدة الأطراف، مباحة الحمى، نجول فيها كما نحب، نقول فنجد من يسمعنا ونهذر فنلقى من يشاركنا. فيوما نحن أعداء «قوم» نحض الناس على مقاتلتهم، ونزين لهم مناوأتهم ونحبب إليهم بغضتهم، ويوما نحن أنصارهم نفديهم بالأرواح ونبغض من يريدهم بسوء؛ ذلك بأننا دخلنا أبوابا لم نكن أهلا لدخولها، وادعينا السياسة وما كنا إلا فتيانا لا يعلم الواحد منا أحوال نفسه، فكيف كان يتسنى لنا كشف غوامض حارت فيها الدهاة وأخطأها أهل الصواب.
صفحة غير معروفة