وهكذا فإن امتلاك «القوة» ممثل في شكل استعداد لفعل كل ما هو ضروري لتحقيق المجد والعظمة المدنيين، سواء كانت التصرفات اللازمة لتحقيق ذلك خيرة في جوهرها أو شريرة في طبيعتها، وهذا يعتبر في المقام الأول السمة الأكثر أهمية للقيادة السياسية. وكما فعل مكيافيللي في كتاب «الأمير»، فقد أوضح هذه النقطة عن طريق الإلماح إلى الفلسفة الإنسانية لشيشرون، واستنكارها على نحو ساخر. كان شيشرون قد أكد في كتاب «الواجبات» على أن رومولوس عندما قرر أنه «من الأنسب له أن يحكم منفردا» ومن ثم قتل شقيقه، قد ارتكب جريمة لا سبيل للتغاضي عنها؛ وذلك لأن دفاعه عن تصرفه هذا «لم يكن معقولا ولا مقبولا على الإطلاق» (3 : 10، 41). على عكس ذلك، يصر مكيافيللي على أنه ما من «فكر حصيف» من شأنه أبدا أن «يدين أي شخص في عمل غير مشروع كان الهدف من استخدامه تنظيم مملكة أو إقامة جمهورية». ثم يستشهد بحالة قتل رومولوس لأخيه، فيذهب إلى أن «هذا الفعل يدينه ولا شك، لكن نتيجته يجب أن تشفع له، وطالما كانت النتيجة خيرا، كنتيجة ما فعله رومولوس، فإنها دائما ما ستشفع له؛ لأن من يمارس العنف ليدمر هو من يجب أن يدان عنفه وليس من يمارس العنف ليصلح» (218).
ويعتقد أن الاستعداد لإعلاء مصالح المجتمع على كل المصالح الخاصة والاعتبارات الأخلاقية المتعارف عليها، لا يقل ضرورة وأهمية في حالة المواطنين العاديين. ومن جديد، يوضح مكيافيللي هذه النقطة عن طريق السخرية من قيم الفلسفة الإنسانية الكلاسيكية. كان شيشرون قد أعلن في كتاب «الواجبات» أن «بعض التصرفات إما مقيتة للغاية وإما شريرة للغاية إلى حد أنه ما من رجل حكيم سيقدم على ارتكابها، حتى إن كان هدفه من ورائها إنقاذ بلاده» (1 : 45، 159). يدحض مكيافيللي هذا الرأي بقوله: «عندما تكون المسألة برمتها مسألة سلامة دولة المرء»، يصبح من واجب كل مواطن أن يدرك أنه «لا مجال للنظر إلى ما هو عادل أو ما هو غير عادل، وإلى ما هو رحيم أو ما هو قاس، أو ما هو جدير بالثناء أو ما هو مشين، وإنما لا بد أن يتخلص المرء من أي تردد، ويتبع أقصى خطة ممكنة من شأنها أن تنقذ حياة الدولة وتحافظ على حريتها» (519).
هذه، إذن، أمارة على «قوة» الحكام والمواطنين على حد سواء؛ إذ يجب على كل امرئ أن يكون على استعداد «لإعلاء المصلحة العامة على مصالحه الشخصية ، وإعلاء مصلحة الوطن المشترك على مصلحة ذريته» (218). لهذا السبب يتحدث مكيافيللي عن الجمهورية الرومانية باعتبارها مستودعا «للكثير جدا من «القوة»»؛ حيث كان الشعور بالوطنية يكاد يكون «أقوى من أي اعتبار آخر»، ونتيجة لذلك أصبح العامة «طوال أربعمائة عام أعداء لصفة الملك، ومحبين للمجد والصالح العام لمدينتهم الأم» (315، 450).
لكن الواضح أن الزعم بأن مفتاح الحفاظ على الحرية يكمن في ترسيخ صفة «القوة» في عامة المواطنين ككل، يثير سؤالا آخر أهم من كل ما سبق، ألا وهو: كيف يكون لنا أن نأمل في غرس هذه الصفة على نطاق واسع بما فيه الكفاية، وأن نحتفظ بها لفترة طويلة بما فيه الكفاية، كي نضمن بلوغ المجد المدني؟ من جديد، يعترف مكيافيللي بأن الأمر دائما ما يتضمن عنصرا من حسن «الحظ»؛ فما من مدينة يمكنها أن تأمل في تحقيق العظمة ما لم يحدث مصادفة أن يضعها أب مؤسس عظيم على الطريق الصحيحة، يرد إليه الفضل في ميلادها «كأنها ابنة له» (223). أما المدينة التي لم «تصادف مؤسسا حكيما»، فغالبا ستجد نفسها «في موقف بائس إلى حد ما» (196). على عكس ذلك، المدينة التي تحوي ذاكرتها «قوة» مؤسس عظيم وأساليبه، مثلما تحوي ذاكرة روما رومولوس، تكون قد «صادفت أوفر قدر من حسن «الحظ»» (244).
والسبب في حاجة أي مدينة إلى هذا النوع من «الحظ الأوفر»، هو أن تأسيس جمهورية أو إمارة لا يمكن أبدا أن يتحقق «من خلال «قوة» الجماهير»؛ لأن «اختلاف آرائهم» دائما ما سيمنعهم من بلوغ «التوافق اللازم لتنظيم الحكم» (218، 240)، وبناء على ذلك فإنك «إذا أردت أن تؤسس جمهورية، فمن الضروري أن تكون وحدك» (220). يضاف لذلك أن أي مدينة ما إن «تتدهور جراء الفساد» فإنها ستحتاج بالمثل ««قوة» رجل يكون موجودا على قيد الحياة حينئذ»، وليس ««قوة» الجماهير» كي تستعيد عظمتها (240). ومن ثم يخلص مكيافيللي إلى أننا «يجب أن نعتبر ما يلي قاعدة عامة: من النادر، أو من المستحيل، أن يتم تنظيم أي جمهورية أو مملكة تنظيما جيدا من البداية، أو يعاد تنظيمها بالكامل» في وقت لاحق ، «ما لم يكن نظمها رجل واحد» (218).
لكن مكيافيللي يعلن بعد ذلك أن أي مدينة إذا كانت بالغة الحمق بحيث تعتمد على هذا «الحظ» الحسن المبدئي، فإنها لن تكون بذلك تخدع نفسها بأنها عظيمة فحسب، وإنما ستكون إلى جانب ذلك على شفا الانهيار. صحيح أن «امرأ واحدا فقط يمكنه وحده أن ينظم» الحكم، لكن ما من حكم يسعه أن يأمل في البقاء «إذا كان يقوم على أكتاف امرئ واحد فقط» (218)؛ فالنقيصة المحتومة في أي نظام حكم يضع ثقته في ««قوة» رجل واحد وحيد» تتمثل في أن هذه ««القوة» تفنى بفناء حياة هذا الرجل، ونادرا ما ينجح الورثة في إعادة سيرتها الأولى» (226)؛ ومن ثم فإن «وجود أمير يحكم بالحكمة طالما ظل على قيد الحياة» ليس بالأمر البالغ الأهمية لنجاة أي مملكة أو جمهورية، وإنما المهم «وجود أمير سينظمها بحيث» لا يعتمد حظها فيما بعد عليه، وإنما على ««قوة» الجماهير» (226، 240). وأعمق أسرار فن الحكم أن تعرف كيفية تحقيق ذلك.
ويؤكد مكيافيللي أن هذه المشكلة ذات صعوبة استثنائية؛ لأنه في حين يمكننا أن نتوقع وجود درجة فائقة من «القوة» لدى الآباء المؤسسين للمدن، فلا يمكننا أن نتوقع توافر نفس الصفة بطبيعة الحال وسط صفوف المواطنين العاديين. بل على العكس من ذلك، معظم البشر «أميل للشر منهم للخير»، ومن ثم فإنهم يميلون لتجاهل مصالح مجتمعهم كي يتصرفوا «وفقا لفساد أمزجتهم متى تسنت لهم حرية التصرف» (201، 215). وهكذا فإن جميع المدن تميل لأن تتراجع عن مستوى «قوة» مؤسسيها و«تنحدر إلى حالة أسوأ»، وهذه عملية يلخصها مكيافيللي بقوله إنه حتى أرقى المجتمعات عرضة لأن يضرب الفساد أطنابها (322).
إن الصورة التي ينطوي عليها هذا التحليل صورة أرسطية؛ فكرة اعتبار نظام الحكم كجسد طبيعي - شأنه شأن كل مخلوقات الدنيا - معرض لأن «يوهنه الدهر» (45). ويبرز مكيافيللي الاستعارة التي تصور نظام الحكم في شكل جسد إبرازا خاصا في بداية «المطارحة» الأولى؛ حيث يعتقد أنه «من الواضح وضوح الشمس أن هذه الأجساد إذا كانت لا تتجدد فإنها تفنى ولا تبقى»؛ لأن ما تملكه من «قوة» يفسد بمرور الزمن، وهذا الفساد سيقضي عليها لا محالة إذا لم تداو جروحها (419).
بناء على هذا، ظهور الفساد يعادل خسارة «القوة» أو تبديدها، ومكيافيللي يظن أن هذه عملية اضمحلال تنشأ بإحدى طريقتين؛ فقد يفقد جسد عامة المواطنين «قوته»، ومن ثم حرصه على الصالح العام، وذلك من خلال فقدان الاهتمام بالسياسة تماما، ما يجعل الجسد «كسولا وغير مؤهل بدنيا لأي من الأنشطة التي تتطلب القوة» (194). لكن التهديد الأكثر خطورة ينشأ عندما يظل المواطنون على حالهم من النشاط فيما يتعلق بشئون الدولة، لكنهم يبدءون في إعلاء طموحاتهم الفردية أو ولاءاتهم الفئوية على حساب المصلحة العامة. وهكذا يعرف مكيافيللي الخطة السياسية الفاسدة بأنها الخطة التي «يطرحها رجال مهتمون بما يمكنهم الحصول عليه من الجمهور، وليس بما هو في صالح الجمهور» (386). ويعرف الدستور الفاسد بأنه الدستور الذي يستطيع فيه «الأقوياء وحدهم» أن يقترحوا التدابير، ولا يفعلون ذلك «لخدمة الحرية العامة، وإنما لتعزيز سلطتهم الخاصة» (242). ويعرف المدينة الفاسدة بأنها المدينة التي لم يعد يشغل مناصبها العليا «من يملكون أكبر قدر من القوة»، وإنما من يملكون أكبر قدر من السلطة، وبالتالي من الراجح جدا أن يعملوا كل ما من شأنه أن يحقق أغراضهم الشخصية الأنانية (241).
شكل 3-1: لوحة تصور مكيافيللي بريشة سانتي دي تيتو في قصر فيكيو بفلورنسا. (© Bettman/Corbis)
صفحة غير معروفة