ووجه الشيخ وجهه شطر صوت التميمي وقال: سل الآن ما بدا لك، فأجاب التميمي: أدركت يا شيخنا ما عنيت.
فقال أبو العلاء: اكتبوا إذن. وطفق يفسر كلمات الدرس ويشرح الأبيات ويعرب لتلاميذه ما أشكل عليهم، ويحل الرموز، وأذن العصر فانصرفوا.
وكان للشيخ تلميذ يؤثره، وكان هذا الشاب يعين شيخه، يقدم له حذاءه ويأخذ بيده ليقوم إلى حاجته. ومن عمله أيضا أن يكتب ما يمليه عليه ويحفظه في صندوقة موضوعة دائما بقرب الشيخ. وسأل الشيخ تلميذه عن الطالب الجديد؛ أي التميمي، ما سنه؟ وماذا أبدى في أثناء الدرس، استحسانا أم استهجانا؟ وهل استغرب شيئا مما أملي عليه، وأين يقيم، وهل اكترى بيتا؟ إلخ ...
فأجاب الطالب: فوق الثلاثين، فقال الشيخ: أف! وأتم الفتى: أما الدرس فقد دهشه. وظل الشيخ ساكتا فقال الشاب: ما عودتني مثل هذه السؤالات، أتخشى منه بأسا؟ فأومأ الشيخ أن لا، ثم قال: إنه آت من مصر، وسوء الظن من حسن الفطن. وتنهد أبو العلاء تنهدة يعرفها تلميذه أنها علامة الانصراف، فقبل يده وخرج.
وشرع أبو العلاء، على عادته، يعد الأمالي للدرس الآتي. ومع الشمس جاء تلاميذه فجلسوا حوله في السماطين حتى إذا وفد المتأخرون صاروا حلقة. وكان التميمي قد بكر وقعد من الشيخ مقعد الطالب المدلل لا يفصل بينهما أحد. وتحركت شفتا الشيخ للإملاء حركات بطيئة فسريعة، وقد رفع رأسه كأنه ينظر إلى أعلى الجدار، فتهيأ الطلاب لاقتبال البذور التي يلقيها الزارع الخالد، فأملى ولكن من «سقط الزند»:
أرى العنقاء تكبر أن تصادا
فعاند من تطيق له عنادا
وظن بسائر الإخوان شرا
ولا تأمن على سر فؤادا
وعض على كلمة سر كأنما هو يعني شيئا، ثم قال:
صفحة غير معروفة