نظروا إلى أشياء غيرهم فتذكروا قوله تعالى:
لكم دينكم ولي دين ، ولكنهم لم يقفوا عند هذا الحد، فانبروا يجادلون أهل الكتاب، ثم رأوا أن ذلك لا يكفي؛ ففي الميدان أهداف وأغراض لا بد من بلوغها والسعي لإدراك بعضها؛ فهناك كتب الأقوام والجماعات الدينية فيها ما يوافق الكتاب العزيز وفيها ما يعارضه. ووقعوا على كتب أنتجها العقل الإنساني في عصوره المتقادمة؛ كتب تدرس مسائل عويصة لا بد للمفكر من التأمل في معضلاتها ليهتدي إلى فك أختامها، فعكفوا عليها يتدارسونها. ورأوا علوما لا عهد لهم بها يذهب المتبحر فيها مذاهب شتى؛ فهي تمس يقينه حينا وتشككه أحيانا؛ فهناك الطب والصيدلة والكيمياء والحساب والهندسة والهيئة والحيل والتنجيم وغيرها؛ علوم كلها تنخس العقل البشري المطمئن بمهماز الشك، فيشرئب ويثب.
رأوا حولهم علماء يفلسفون في أديانهم، ولا يقبلون الأمور على علاتها كما تعلمهم إياها أديانهم في كتبها المنزلة؛ لأن العقل يرفض الكثير منها ولا يصدقها، فنهجوا نهج أولئك العلماء.
حاول فريق منهم - كما في كل ملة - أن يوفق بين الحكمة والدين، وفريق آخر خلع نير الإيمان وفكر تفكيرا حرا أدى به إلى الكفر والإلحاد، فطاح سيف الإمام برءوس كثيرة ليرد الأمة إلى حظيرة الاستسلام، ولكن الدم لا يوقف تيار العقائد ولا يصده، فهو كالفصاد يخفف الضغط ولكنه يعود.
كانت الثقافات المختلفة في تفاعل مستمر، تخلق كل يوم جسدا جديدا؛ فهناك ثقافة نصرانية سلاحها المنطق، ورجالها معروفون؛ فلسنا هنا نؤرخهم ولا نترجم لهم، وثقافة يهودية ولأحبارها يد طولى في الشرح والتفسير والتأويل والاستنباط، ولهم تلمودهم، فغذوا الأذهان بأساطيرهم وحكاياتهم، فكان للمسلمين مثلها فيما بعد، وكما انتظر اليهود مجيء المسيح ولا يزالون، وكما يترقب النصارى المؤمنون المسيح الدجال، ثم المسيح الفادي ليقتله عند أبواب أورشليم المقدسة، تولدت في أذهان الخاصة والكافة من المسلمين حكاية المهدي المنتظر، الذي وصفه ابن عربي، فيما بعد، بقوله: «إن لله خليفة يخرج وقد امتلأت الأرض جورا وظلما فيملؤها قسطا وعدلا، لو لم يبق في الدنيا إلا يوم واحد طول الله ذلك اليوم حتى يلي هذا الخليفة من عترة الرسول يواطئ اسمه اسم رسول الله ... وهو أجلى الجبهة، أقنى الأنف.» إلى آخر الأسطورة، كما وردت في كتاب الفتوحات المكية.
وهناك الثقافة الفارسية وفيها، كما في التوراة، حكاية الخلق وما يليها من مبادئ وجدانية؛ مبادئ يواجه بعضها بعضا، ويشبه بعضها بعضا، فتنبري الشكوك، وتدلهم ظلمات الظنون. وهناك المجوسية، والزرادشتية والمانوية والمزدكية. وهناك ثقافة هندية قديمة الأجيال استمدت منها الأديان الجديدة بعض العناصر الغذائية. وهناك آراء ومذاهب لا نستطيع تفصيلها حتى ولا عدها؛ فنحن لا نعد لقارئنا سماطا بل ما يقرب من السندويش.
ونظر العرب إلى الكتاب العزيز فرأوا غمائم الشك تنتشر في الأجواء حتى بلغت القحة بزعيم المعتزلة - النظام - أن ينكر الإعجاز ويقول: إن القرآن معجز بالنسبة إلى عصره، ولكن من الممكن أن يتوصل البشر إلى تأليف مثله، فهال هذا القول العلماء المؤمنين، فانبروا للدفاع والتأويل والتفسير، وظهرت المذاهب الأربعة والسنة والشيعة، ثم تناسلت البدع والطرق فملأت الأرض، فكانت المعتزلة والرافضية والقدرية والجبرية والخوارج والمرجئة والمعطلة.
ومن الشيعة، التي هي أعظم ثورة فكرية في الإسلام، ظهرت الزيدية والكيسانية والإمامية والموسوية والإسماعيلية والفاطمية والسبيئية والباطنية والمشبهة والحلولية والقرمطية والصوفية، ومن كل فرقة اشتقت عشرات الفرق، وهكذا دواليك، إلى ما لا آخر له.
وظل تفاعل هذه المبادئ مستمرا حتى قام الأشعري يحللها، فكون منها مذهبا عرف باسمه وأحبه كثيرون واتبعوه.
أما الصوفية فظهر فيهم أئمة لا يحصيهم العد، وكلهم يحاولون التوفيق بين الدين والقلب. وذهبوا مذاهب غريبة، فتعددت عندهم الطرق التي يزعم أصحابها أنها تؤدي بهم إلى الله ذاته لا إلى ملكوته. كل واحد يزعم أنه يقول الحق. و«الله أعلم» كانت تفض أخيرا مشاكل الجميع.
صفحة غير معروفة