لكن ما صار مثيرا للاهتمام هو أن أمي ، التي كما رأيناها لم تكن تمتلك قط ناصية اللغة العربية، أرادت أن ينشر كتابها باللغة العربية وبها وحدها؛ لأنها - كما شرحت - لم تكتبه إلا من أجل قراء وقارئات كتب زوجها في العالم العربي كله. فإليهم وإليهن إنما كانت تريد أن تتوجه وأن تكشف ربما عن جوانب جديدة ومجهولة من حياة هذا الرجل العظيم.
قضت سوزان سنتين كي تنهي هذا العمل، وهو عمل هائل في النهاية حين يكون موضوعه استعادة أكثر من خمسين سنة من حياة مشتركة، وهو عمل صعب بما أنه يعتمد بصورة شبه كلية على الذاكرة لا على الأرشيف والوثائق غير الموجودة أصلا. لقد أعجبني كثيرا أن تتمكن أمي في الثمانين من عمرها من إعادة بناء كل هذا الماضي الغزير في أدق تفاصيله. أحاول أن أفعل مثلها اليوم وأعرف من ثم، من خلال التجربة، كم يمكن لهذا أن يكون أحيانا أمرا عسيرا، مملا، بل ومثبطا. فسوزان التي كان نظرها رديئا بسبب إصابة عينيها بتكثف في العدسة، رغم العملية الجراحية الناجحة، والتي كانت كتابتها صعبة وشبه فوضوية؛ ملأت بصبر وبانتظام خلال أشهر وأشهر مئات الصفحات في وحدة تامة بالرامتان؛
2
حيث كانت تقيم منذ ذلك الوقت وحدها؛ إذ كانت المرأة التي تساعدها على إدارة هذا المنزل الواسع تنصرف نحو الساعة الخامسة بعد الظهر.
وعلى العكس مني، كانت سوزان تكتب باستمرار مع تعديلات، وتغييرات، وحذوفات، وإضافات، وتراجعات. لم يكن المخطوط الذي وضعته بين يدي الضاربتين على الآلة الكاتبة سهلا على التفكيك. ورغم أنها بلغت عمرا متقدما، وكانت قد ولدت بمصر واحتفظت منها بذكريات رائعة، فقد عكفت هذه الإنسانة على العمل بشجاعة وقامت بعمل ممتاز. كنت أرى النص وهو يطبع على الآلة الكاتبة بالتدريج. وكانت أمي عند تواجدها بباريس تراه أيضا، وهو ما لم يكن يتوقف عن أن يثير ضروب الفزع كلها لدي؛ إذ إنها كانت تزعم وهي تعيد قراءته أنها لا تزال تضيف عليه التصحيحات، والتغييرات، والتدقيقات، وما لا أدريه.
وأخيرا، تمت طباعة الصفحات الثلاثمائة على الآلة الكاتبة وصورتها في نسخ عدة .
بقيت المسألة الجوهرية: ترجمتها إلى اللغة العربية. كان علي أن أعثر على مترجم ... ومترجم جيد! توجهت نحو صديقي جاك بيرك، المستعرب الفرنسي الكبير، والأستاذ في الكوليج دو فرانس والمترجم الممتاز للقرآن. كان قد عرف أبي وأحبه كثيرا، بل وخصص له كتابا جميلا، «فيما وراء النيل».
3
كان إنسانا غير عادي على كل المستويات، ولن أجعل من نفسي هزأة إذ أقوم بالثناء عليه (...) عثر لي بسرعة على المترجم الذي كنت أبحث عنه (...)، وبعد عدة أشهر كانت الترجمة قد أنجزت وكانت ... ممتازة.
4
صفحة غير معروفة