فقال طومنباي: إننا لا نستطيع الهرب من القضاء يا صديقي. فقد طالما وقفنا في وجه الجيوش الجرارة، ومزقنا صفوفها بصدمة حملاتنا المفردة. كنا أفرادا نقاتل الألوف ونفتك بها، ونخرج من تحت الغبار بغير أن تصل أيدي العدو إلينا. إني أرد عليك جوارك يا صديقي، وسأذهب من هنا.
فرد الأمير حسن والخجل يثير الدماء في وجهه: لن نتخلى عنك يا مولاي إذا شئت البقاء. إنني ما أزال على العهد الذي قطعته لك، ولن يخذلني عن نصرتك ما أراه من قوة عدوك. إنني نصحت لك ناظرا إلى سلامتك، ولكني واقف معك إذا شئت حتى تحكم الأقدار حكمها.
فأطرق السلطان حينا وبدت على وجهه ظلال من التردد، ثم رفع رأسه وقال هادئا: أليس هناك موضع نستطيع أن نتحصن فيه؟
فقال الأمير مبادرا: نعم يا مولاي. هذا وادي الغابة على بعد قليل، هو واد حصين لن يستطيع جيش أن يدخل إليه. إن له مدخلا لا يتسع لأكثر من راكب واحد، وتحف به رمال تغوص فيها الدابة وتغرق في المستنقع الوخيم. ولن تجرؤ الجموع على اقتحامه ما بقي عند ذلك المدخل عدد قليل يحميه.
فقال السلطان في وجوم: إذا شئت فسر بنا إليه أيها الأمير.
ثم أسرع نحو الخيام ليأمر أصحابه بالاستعداد ليسيروا سراعا إلى الوادي الحصين. •••
وكان اليوم مثل سابقه قاتم السماء قلق الريح، يثور غباره مع هبات الهواء التي تسفي الرمال.
واعتلى السلطان طومنباي ربوة في الوادي الذي دخله مع أصحابه في أول الصباح، وأطل على المدخل الضيق يتأمل الرمال السمراء التي تحف بجانبيه.
وكان قلبه ثقيلا يكاد يغوص في أعماق صدره وهو ينظر في حسرة إلى الفئة الضئيلة التي بقيت له من فرسانه ومماليكه.
وتمنى لو انصرف هؤلاء عنه وتركوه حيث هو على تلك الربوة ليقاتل في المعركة الأخيرة وحده. ورأى عند الأفق البعيد جيش ابن عثمان يملأ الفضاء، فعرف أن الأمير العربي أخلص له النصيحة عندما أشار عليه أن ينجو مع أصحابه إلى الصحراء الفسيحة قبل أن يحيط به عدوه بألوفه المؤلفة. واندفع هابطا من الربوة إلى الوادي الأغبر، ثم استمر حتى بلغ الساحل وهو ذاهل عما يريد أن يصنع. وهناك وقف حينا ينظر إلى الموج الهائج ويستمع إلى صوت هديره العنيف، كأنه وجد في ثورة البحر الصاخب ما يواسي ثورة قلبه الحانق. وتصاعدت الشمس نحو كبد السماء وهو ثابت في مكانه وحيدا لا يملك من ملك مصر كله سوى الدرع التي عليه والطبر الفولاذي الذي طالما صاحبه في المعارك وسيفه الباتر الذي ورثه عن سلسلة السلاطين الأبطال. وخيل إليه أنه يسمع صوتا يناديه من ثنايا الموج: «ها قد قضي الأمر، فلا تقاوم القضاء.»
صفحة غير معروفة