مع الزمان
مع الزمان
تأليف
محمد فريد أبو حديد
مقدمة الطبعة الثالثة
هذه لمحات من صور النفس البشرية في مغامرتها الطويلة على مدى القرون جيلا بعد جيل، نرى فيها أشباها لأنفسنا؛ إذ نسعد أو نشقى، وإذ نندفع مع عواطفنا التي تسف بنا تارة وتسمو بنا أخرى. وما تزال الإنسانية تكتب قصصا جديدة في كل يوم وكل ساعة، ومن مجموع هذه القصص الإنسانية نستمد عقائدنا ومثلنا العليا ونواميس حياتنا الاجتماعية. وما من قصة قديمة إلا وفيها عرق نابض متصل بحياتنا الحاضرة، وما من خلجة من خلجات نفوسنا في عصرنا هذا إلا وفيها عرق متصل بمنابع الإنسانية الأولى. وأنا إذ أقدم هذه المجموعة إلى أبناء هذا العصر إنما أهدي إليهم جانبا من نفسي وعصارة من فيض قلبي، وقد زدت على القصص التي ظهرت في الطبعة الأولى عدة قصص أخرى تصل خطوات الزمان في أحداثه الكبرى إلى وقتنا هذا الذي نعيش فيه، وما يكون أسعدني إذا وجد القراء فيها بعض لحظات سعيدة أو بعض خطرات تبعث على التأمل.
فنان طيبة
«الحب أزلي والكبرياء أزلية.»
كان «أمنكارع» بقية عصر قديم كاد الناس ينسونه، فقد عاشر الملك «أمنحتب» الكبير جد الملك «أمنحتب» المجيد، وكان أهل طيبة ينظرون إليه كما ينظرون إلى التماثيل الخالدة التي تحف بمعبد آمون. ولكنه كان مع ذلك فتي الروح وسيم الوجه برغم التجاعيد الكثيرة التي تعلو جبينه العريض. وكانت عيناه ما تزالان تلمعان ببريق الشباب وتشع منهما أنوار تنم عن طيبة قلبه، ولا سيما إذا تبسم وهو ينظر إلى ابنته الشابة الجميلة «نفرتويا»، أو إلى تلاميذه الأعزاء في «حصن طيبة».
وكان الأمراء الشبان الذين يتعلمون في حصن طيبة يحبونه كصديق بقدر إجلالهم له كأستاذ، ويلتفون حوله كلما رأوه ليستمعوا إليه وهو يحدثهم عن الأيام الجليلة التي شهدها في أيام شبابه، وما كان أكثر ما يدخره في ذاكرته من القصص العجيبة عن مغامرات الحروب عندما كان يصحب «تحوتمس» الكبير في غزواته ببلاد لبنان وسوريا، وفي زحوفه المظفرة على شواطئ الفرات أو جبال الشمال حيث دك حصون «الخيتا»، وكثيرا ما كان يقص عليهم كذلك قصص مغامراته في صيد فرس البحر والتمساح والأسود والفيلة عندما ذهب مع تحوتمس العظيم إلى ما وراء جنادل النيل في بلاد «كوش»، فإذا ما فرغ من أحاديثه ذهب هو وتلاميذه إلى حجرة الرسم وأخذ يكشف لهم عن أسرار الفنون الخالدة ويبهر عقولهم ببراعته في بعث الحياة في الحجارة الصماء. ولم يكن علم أمنكارع بالتواريخ القديمة أقل من وعيه لذكريات شبابه، فكان يتحدث عن آثار «أون» و«منف» كما يتحدث عن معابد طيبة نفسها. فإذا وصف الدول الماضية منذ آلاف السنين ملأ القلوب خشوعا لعظمتها وإجلالا لمجدها؛ لأنه كان يكشف لتلاميذه عن آيات الإبداع في آثارها العظيمة كأنه قد شارك في بنائها وعرف كوامن أسرارها. وكان من عادته إذا بدأ أحاديثه أن يشخص ببصره في الفضاء وينطق بصوت هادئ كأنه يناجي نفسه، فيخشع تلاميذه من حوله ويسبحون معه في صور القرون الماضية كأنهم قد انتقلوا إليها وعاشوا فيها بسحر ساحر، حتى إذا أمسك عن الحديث تنفس التلاميذ أنفاسا عميقة ونظروا إليه بعيون ملؤها العطف والإجلال. وقد اختاره فرعون أمنحتب العظيم الثالث ليكون أستاذا للفن والتاريخ للتلاميذ الأمراء الذين كانوا يتعلمون في «حصن طيبة»؛ لأن فرعون أمنحتب كان حريصا على أن يتلقى هؤلاء التلاميذ علومهم من أفذاذ العلماء والحكماء، حتى إذا ما كبروا وعادوا إلى بلادهم كانوا أهلا لوراثة الملك عن آبائهم الذين يحكمون الأقطار المنضوية تحت لواء فرعون صاحب التاجين.
صفحة غير معروفة