114

واتفق لي أن رجعت إلى القاهرة لأشهد الاحتفال الكبير الذي أقيم فيها لذكرى الثورة، وذهبت إلى ميدان التحرير لأشترك مع الألوف المؤلفة التي جاءت من كل البلاد لتحتفل بالحادثة التاريخية الكبرى. وهناك قابلت صاحبي مصادفة وهو يجوس خلال الجموع المتزاحمة. وكان أول ما أدهشني منه أنه كان يمسك في يده سبحة من الكهرمان الأصفر اللامع، ويلبس ربطة عنق ذات ثلاثة ألوان، الأسود والأحمر والأبيض، وهي ألوان الثورة كما هو معروف.

وقال لي ونحن نتعانق: أنا سعيد بلقائك. ألم أقل لك إنها آتية؟

فقلت: من هي؟

فقال : الثورة.

وكان شوقي إليه عظيما، فسحبته من يده إلى أقرب قهوة وجدنا بها مكانا خاليا وجلسنا نتحدث، وكان مرحا مستبشرا أكثر من عادته. كان يتحدث عن الثورة كأنه هو الذي أحدثها، وأخذ يتكلم على غير عادته كلاما مفهوما. ودعاني إلى قضاء يوم معه في المرسم لنتغدى معا ونتحدث. وكنت مشتاقا إلى رؤية مرسمه مرة أخرى بعد غيبتي الطويلة عنه، ونحن نعرف مقدار حنين الإنسان إلى الأماكن التي تعود الذهاب إليها في شبابه.

وفي اليوم التالي تلاقينا في الصباح على موعدنا في قهوة الفيشاوي، ثم سرنا في الطريق إلى المرسم، وكنت أنا في هذه المرة أتلفت حولي إلى مناظر الناس والدكاكين التي لم تقع عيني عليها منذ خمسة عشر عاما، وإلى الأطفال في الأزقة الضيقة والمنازل القديمة المتهدمة، وشعرت بحنين يشبه حنين الذي يعود إلى وطنه بعد غربة طويلة. وسار صاحبي في نشاط بخطواته السريعة، يحيي أصحاب الدكاكين الصغيرة ويدعوهم بأسمائهم ويبادلهم الفكاهة، ثم عرج بي فجأة على دكان «مسمط» ليعد الوليمة التي دعاني إليها، واشترى شيئا من لحم الرأس واللسان والمخ، ولفه في كيس من الورق وسار يهزه في يمينه، ثم عرج على دكان بائع «طرشي» ثم على مخبز وعربة برتقال حتى جهز كل أصناف الغداء، وسرنا نحمل في أيدينا لفائف كثيرة. ولست أنكر أني شعرت بكثير من الحرج ونحن نعرج على جانبي الطريق لشراء طعامنا، إذ كانت الطرق مزدحمة بالمارة الذين ينظرون نحونا. وزاد حرجي حتى شعرت بأن الدم يتصاعد إلى وجهي عندما مر بنا أحد المعارف القدامى وسلم علينا من بعيد ونحن نشتري رطلا من السكر لإعداد الشاي بعد الغداء، وخيل إلي أنه يتبسم في شيء من السخرية عندما لمح القراطيس في أيدينا، فشعرت بكثير من الخجل، ولكن صديقي الفنان صاح به قائلا: تفضل معنا.

وجعل يكرر دعوته في إصرار حتى جعل ذلك الصاحب القديم يرفع يديه إلى رأسه شاكرا ويسرع متباعدا عنا. واخترقنا ما بقي من العطفات حتى بلغنا المرسم وصعدنا في سلمه ذي الدرجات العالية. وألقيت القراطيس التي كانت في يدي على منضدة عرجاء من الأبنوس المطعم بالصدف، وهي إحدى التحف العزيزة على صديقي. وجلست على الكرسي «الأربسكة» الذي تعودت أن أجلس عليه من قبل، وأخذت أنظر في دهشة إلى المرسم.

كان منظره العام مختلفا عن منظره الكئيب الذي عرفته، وكان جوه العام غير جوه الأول القاتم. وبعد لحظة فطنت إلى السر في ذلك التغيير الكبير؛ إذ رأيت في صدر الغرفة الكبيرة صورة تضيء بألوانها الزاهية. فوقفت أنظر إليها وأتعجب من الأثر الذي أحدثته في الغرفة. كانت الأركان هي الأركان التي عهدتها من قبل، وكان الأثاث هو الأثاث القديم، ولكن الصورة الجديدة خلعت على المرسم كله شخصية أخرى. وتأملتها طويلا، وخيل إلي أني رأيتها من قبل، ولكني لم أذكر أين رأيتها. كانت تمثل ربوة خضراء عليها خمائل ذات ظلال رائعة، وينحدر منها جدول من الماء المتألق منسابا إلى أحواض مزدهرة، وإلى جانب الربوة من اليمين صورة مسجد يصعد بمئذنته الرشيقة كأنها تبتسم لضوء الشمس، وإلى الجانب الأيسر كانت دار صغيرة متواضعة، ولكنها بديعة في بساطتها، وعلى جانبها تصعد كرمة تتدلى منها قطوف العنب.

ووقفت عند باب الدار طفلة متهللة الوجه كأنها ملاك يسبح في السماء، تفتح ذراعيها لجدها الشيخ الذي كان يميل أمامها ليرفعها بين ذراعيه. عند ذلك فقط هجمت علي ذكرى المنظر القديم الذي رأيته من قبل، وتذكرت تلك الأطلال المتهدمة والكوخ الحقير المتداعي والجدار المستند إلى المئذنة وشعاعها الخافت الذي يجاهد ليخترق سحابة الغبار، وقلت في شبه صيحة: إنها هي هي!

فقال صاحبي: ما هي؟

صفحة غير معروفة