ومع ذلك فالفن عندنا يخطو - كما قلت - خطوات واسعة إلى الأمام، وشخصيتنا المستقلة قد بدأت تظهر في كثير من الفنون، وأصبح في وسعنا أن نتقدم بإنتاجنا إلى شعوب الأرض المستنيرة لنقول لها: هذه لوحة مصرية، أو هذا تمثال مصري، أو هذه مسرحية مصرية.
ولكن فنا واحدا تخلف عن الركب، وظل مستواه في انحدار مستمر، بل متزايد، حتى اليوم، ولم ننتج فيه أي إنتاج نستطيع أن نفخر به، أو أن نعده معبرا عن مشاعرنا وأحاسيسنا ... ذلك هو الفن الموسيقي.
أجل، فالموسيقى في بلادنا في محنة ... وهذه المحنة تحس بها قلة واعية متفتحة، ولكنها تكتم إحساسها هذا، وتكتفي بإشباع نهمها إلى هذا الفن الرفيع من إنتاج عباقرة الأمم الأخرى، وتنفصل انفصالا شبه تام عن متابعة أحوال هذا الفن في مصر.
والحق أن لهذه القلة الواعية بعض العذر في انفصالها وانعزالها هذا؛ فقد ابتلينا في بلادنا بجماعة من المنتمين إلى المجال الفني، نصب أفرادها أنفسهم مدافعين عن قضية الفن المصري، فلا يكاد يرتفع صوت بالنقد، وبالدعوة إلى مزيد من النهوض، وإلى تجاوز الأوضاع البالية التي تسود بيننا، حتى يهب هؤلاء مدافعين عن كل ما هو سائد ليبقى كما هو سائدا، ومهاجمين للناقد بأساليب لها مظهر براق، ولكنها في حقيقتها زائفة خداعة، كالقول بأن الناقد يتأثر بالفن «الأجنبي»، وأن «وطنيتنا» تحتم علينا ألا نأخذ من الأساليب «الدخيلة» شيئا؛ لهذا آثرت القلة الواعية الصمت، واكتفت بالسير في الطريق الذي اقتنعت بأنه هو الصحيح، تاركة الباقين على ما هم عليه.
ولكن من المحال أن تظل الأمور على هذا النحو، وأن يدوم هذا الازدواج الحاد بين أقلية واعية وأغلبية غير واعية، بل هذه الثنائية ذاتها أكبر خطر يصيب قضية الفن، وقضية الثقافة بوجه عام؛ فما قامت نهضة حقيقية إلا كانت المشاركة فيها عامة، وكل اتجاه أرستقراطي في الفن وفي الثقافة قد يأتي - من آن لآخر - بإنتاج فردي رفيع، ولكنه لا يمكن أن يسمى «نهضة» بالمعنى الصحيح؛ إذ إن كل نهضة لا بد أن تكون إنسانية، يشارك فيها أكبر قدر ممكن من الناس. ومن هنا كانت الضرورة تقضي بالدعوة إلى محو هذه الثنائية، لا بأن تقبل الأقلية الواعية الأوضاع التي خدعت بها الأكثرية، بل بأن تنبهها إلى ما في هذه الأوضاع من أخطاء، وتشاركها في هذا السعي إلى النهوض على أسس سليمة.
فما هي مظاهر محنة الموسيقى في مصر؟
للموسيقى - بوجه عام - لحظات ثلاث: لحظة التأليف، وذلك بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، وهو يشمل تأليف الألحان وتأليف الكلمات معا؛ ولحظة الأداء، وهو يشمل الأداء الصوتي في الغناء، والعزف على الآلات؛ ولحظة الاستماع. فالعلاقة الموسيقية إذن ثلاثية: بين المؤلف والقائم بالأداء والمستمع؛ فلنتحدث عن كل عنصر من عناصر هذه العلاقة على حدة. «أما التأليف الموسيقي عندنا» فلا شك في انحدار مستواه، وأستطيع أن أقول مطمئنا إن الأكثرية من مؤلفينا الموسيقيين غير مثقفة فنيا. وقد يبدو هذا القول غريبا، ولكن يكفي أن يدرك القارئ أن «العالم» من مشاهير الملحنين هو من يعرف التدوين الموسيقي، وقراءة المدونات (النوتة)، مع أن هذه من الأوليات التي يجيدها تلاميذ المدارس الابتدائية في البلاد المتقدمة! أما الباقون، وهم كثيرون، فحتى هذه الأوليات لا يعرفونها.
ومن المؤسف حقا أن جهود هؤلاء المؤلفين الموسيقيين جميعا لا تنصرف إلى التزود بالعلم الصحيح، وحسبهم تلك الثروات الضخمة التي تنهال عليهم، ففيم الحاجة إلى العلم إذن، ما دامت الغاية قد تحققت؟
قد يكون هذا الحكم قاسيا، وقد تكون لهجته عنيفة، ولكني أقولها صراحة: إننا في حاجة إلى جيل آخر من الموسيقيين، نحن في حاجة إلى جيل من الموسيقيين «العلماء» بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، يقضي الواحد منهم سنوات طويلة من عمره في دراسة شاقة مضنية، يجني ثمرتها في النهاية، ولا يتوقف عن تحصيل المزيد من العلم طوال حياته، مهما أصاب من نجاح ... فالفنون اليوم لم تعد تلقائية، ولم تعد الفطرة السليمة تجدي فتيلا إن لم تصحبها دراسة عميقة. والعلم قد تغلغل في كل نواحي حياة الإنسان، حتى في نتاج خياله ... فمن من موسيقيينا الحاليين أدرك ذلك؟ ومن منهم عمل على تحقيق هذا الهدف؟
إن فن الصوت - وهو أرفع الفنون وأعمقها - له مجالات واسعة، وتشكيل الأصوات له إمكانيات لا تنفد، ولكننا في مصر لم نفد من هذه الإمكانيات الضخمة إلا على نحو ساذج، بل على نحو يكاد يكون بدائيا: ألحان تسير على وتيرة واحدة، آلات قليلة تسير كلها في تيار واحد وليس لها إلا بعد واحد، إيقاع سطحي راقص ... إلى آخر العيوب الكثيرة التي ترجع كلها إلى سبب واحد، هو الافتقار إلى العلم.
صفحة غير معروفة