ولكن ظهور المسيحية أدى إلى فصم هذه الوحدة؛ إذ إن المسيحية غلبت النفس على الجسم، ورفضت الرقص الذي نظرت إليه على أنه فن جسمي ودنيوي، كما قللت من قيمة الدراما بوجه عام، وبذلك قضت على الوحدة التي عرفتها الفنون في العصور القديمة. وأدى انتشار القيم الدينية، بعد ظهور المسيحية، إلى تغليب العنصر الأخلاقي على العنصر الجمالي، وتأكيد المضمون على حساب الشكل، والروح على حساب المادة.
ولكن الامر الذي ينبغي أن نتنبه إليه هو أن فصم هذه الوحدة بين الفنون، وتجاهل الإيقاع المرتبط بالحياة وبالجسم، كان له أثره العظيم في إنعاش الموسيقى؛ ذلك لأن الموسيقى كانت هي الفن الوحيد الذي استطاع أن يصمد لهذا التغيير الجديد في القيم، وفي النظرة السائدة إلى الحياة والعالم، فهي فن يستطيع أن يعيش دون أن يتصل بالجسم اتصالا مباشرا؛ لأن الجسم لا يشترك في أدائه بصورة ملحوظة؛ ولأن نتاجه النهائي ذو طبيعة غير جسمية، وغير مرئية أو ملموسة، في أساسها، وهي فن لا يقدم، في بعض أنواعه على الأقل، إيحاءات جسمية مباشرة. ومن هنا كانت الموسيقى وحدها، من بين الفنون الإيقاعية جميعا، هي التي استطاعت أن تظل باقية في تصنيفات العصور الوسطى للفنون؛ إذ نجدها واحدة من «الرباع
quadrivium »، مع الحساب والهندسة والفلك؛ أي ضمن علوم الاستدلال الخالص. وكان من رأي القديس توما الأكويني أنها «تحتل المرتبة الأولى بين الفنون الحرة السبعة، وأنها أرفع العلوم الإنسانية.»
ولقد وجدت المسيحية في الموسيقى وسيلة للتأثير في النفس مباشرة، دون تصوير مادي، فأخذت تعمل ببطء على أن تجعل منها فنا مستقلا عن الشعر والرقص، قادرا على أن ينفذ إلى مجالات لا تنتمي إلى العالم المحسوس ولا تعبر عنها كلمات اللغة اليومية، وفي نهاية الأمر أدخلت المسيحية الموسيقى في شعائرها وطقوسها، وبذلك اكتشفت أسمى دلالاتها، التي هي دلالة روحية في أساسها؛ فالموسيقى تصل مباشرة إلى القلب، وأنغامها تبدو كما لو كانت تهبط من السماء، وتنفذ إلى أعماق النفس البشرية، وليس أدل على استعانة المسيحية بها في تحقيق أغراضها الخاصة، من أحد البابوات، وهو القديس جريجوري، قد خلد اسمه في التاريخ بأن أعطى اسمه لأحد أنواع الغناء الشعائري.
وفي القرن الثالث عشر وقع أهم حدث في تاريخ الموسيقى الغربية، وهو إدخال الهارمونية، التي أضفت على الموسيقى بعدا جديدا لم تعرفه في الأزمان السابقة، أو في غير الحضارة الغربية من الحضارات. والواقع أن التناسب كان عكسيا، في الفترة التي نتحدث عنها، بين الاهتمام بالإيقاع والاهتمام بالهارمونية؛ فقد ربطت الكنيسة، كما رأينا، بين الإيقاع وبين الجسد والحيوية الحسية (ولم تكن في ذلك مخطئة كل الخطأ)، واتجهت في مقابل ذلك إلى تأكيد العالم الباطن، وعنصر العمق في الإنسان. وهكذا يبدو أن روحانية الكنيسة مسئولة إلى حد بعيد عن اكتساب الموسيقى الغربية طابعها الهارموني المعروف.
وازداد هذا الاتجاه وضوحا في العصور الحديثة، التي أضيف فيها الاهتمام بالعقل إلى الاهتمام بالروح، والتي كون الإنسان لنفسه فيها بيئة أغلبها صناعي، يبتعد بها عن منابع الطبيعة الأصلية، وكان لذلك أثره في الإقلال من ظهور الإيقاع، وزيادة الهارمونية عمقا وتعقيدا. وإذا كانت بعض ألوان الموسيقى الحديثة تعود إلى تأكيد الإيقاع، فما ذلك - كما قلنا - إلا محاولة من الإنسان الغربي للتخلص من ذهنيته المفرطة، وللرجوع - في لحظات قصار - إلى تلك المنابع الأولى التي كادت حضارة الإنسان الحديث أن تنساها.
ولا يعني عدم ظهور الإيقاع في هذه الموسيقى الحديثة أنه أصبح فيها عنصرا ضئيل الشأن، بل إنه قد تحول فيها إلى «إيقاع مضمر» - إن جاز التعبير - بعد أن كان ظاهرا صريحا، بل صارخا في بعض الأحيان؛ فما زال الإيقاع ينظم حركة الموسيقى خلال الزمان، وما زال هو والهارمونية يكونان جسد الموسيقى وروحها، أو عنصر الحركة وعنصر السكون فيها. ومن خلال التآلف بين هذين العنصرين، الاستاتيكي والديناميكي، المادي والروحي، تتقدم الموسيقى الغربية الحديثة وتغزو ميدانا بعد ميدان، وتكشف عن أعماق مجهولة في نفس الإنسان. •••
بالإيقاع إذن تربطنا الموسيقى بالمنابع العميقة للحياة، وفي هذه الحقيقة ربما كان يكمن سر ذلك التأثير الذي تمارسه الموسيقى في نفوسنا، بل في أجسامنا بدورها. أليس من الجائز أن يكون إيقاع الموسيقى حلقة اتصال بيننا وبين ذلك الإيقاع الكامن في أعماق الطبيعة والكون؟ أليس ذلك النبض الذي يسري في أرواحنا وأبداننا بفضل الإيقاع الموسيقي، انعكاسا لنبض الحياة ذاتها في داخلنا؟ تلك على أية حال أسئلة يكفي أن يطرحها المرء دون أن يحاول تقديم إجابة قاطعة عنها؛ لأن الأصول الحيوية للفن ما زالت بعيدة عن متناول البحث العلمي الدقيق. وعلى أية حال فحسبنا أن نكون قد أكدنا الارتباط الوثيق بين الإيقاع في الموسيقى وإيقاع الحياة، وقدمنا لمحة عن ذلك النبض الخفي الذي يسري في الكائن الحي فيحركه ويبعث فيه قوة متجددة، ويسري في النفس البشرية فتستجيب له بكل ملكاتها، وتتخذ استجابتها شكل مجموعة رائعة من نواتج الروح، ربما كانت أسمى ما استطاع به الإنسان أن يحقق لنفسه مكانة ترتفع به فوق سائر الكائنات.
علم الآثار الموسيقية1
يشاء سوء حظ الموسيقى أن تكون أكثر الفنون تعرضا للنسيان والاندثار؛ ذلك لأن كل حضارة سابقة تترك من بعدها آثارا مادية ملموسة تتيح للعلماء دراستها وتحليلها وإعادة تصور نمط الحياة السائدة فيها. أما الموسيقى التي كانت تعزف وتسمع في الحضارات الغابرة فإنها تظل صامتة إلى الأبد. وهكذا يستطيع عالم الآثار أن يهتدي إلى أدوات مصنوعة أو تماثيل منحوتة، أو مبان أو رسوم يسترشد بها في فهمه للتاريخ العام، ولتاريخ فنون كالنحت والتصوير والعمارة، أما عالم الآثار الموسيقية فلا يجد إلا الصمت المطبق. وأقصى ما يستطيع أن يعثر عليه، آلة موسيقية أثرية، قد تكون محطمة وفي حالة لا تصلح للاستعمال، فيقف أمام الآلة الخرساء عاجزا عن بعث النطق والحياة فيها. أما الوثائق المكتوبة فلا تفيد في هذا المجال كثيرا؛ ذلك لأنك لو وصفت قطعة موسيقية بألوف الصفحات من اللغة الكلامية، فلن تستطيع أن تقدم عنها فكرة كافية للأجيال التالية. •••
صفحة غير معروفة