فامتلأ صدر كسرى غيظا، وراح زيد يطعم ناره وقودا فتزداد ضراما.
وسمع النعمان بغضب كسرى، وأتاه كتاب كسرى يدعوه إليه، فحمل أهله وسلاحه وما قوي عليه من متاع، فلجأ إلى بني طي، وكان متزوجا فيهم، وسألهم أن يدخلوه بين جبليهما المنيعين، ويحموه من الملك الفارسي إذا وجه الجيش في طلبه، فخاف بنو طي من بطش كسرى.
فارتحل النعمان عنهم وطاف القبائل حتى نزل سرا في بني شيبان، فاجتمع بكبير من كبرائهم هو هانئ بن مسعود، واستجاره فلباه هانئ، ولكنه قال له: ما أظن الخرق قد اتسع على الراقع، وما ينبغي لك أو لي أن نهجم هجوما على أمر قد يكون فيه هلاكك وهلاكي سدى، وما أحبك أن تفهم من هذا أنني أريد تملصا من رعي ذمامك، على أنني رأيتك رجلا مكذوبا عليه، فلو انطلقت إلى كسرى وحملت إليه الهدايا وأخبرته اليقين، لكان لك حظ في النجاة مع السلم، ولعدت إلى عرشك ملكا، ولئن مت فذلك خير لك من أن تعيش مخلوعا ساءت بك الحال وانقلبت من عز إلى ذل.
فأجابه النعمان: رأيك نعم الرأي، فكيف أصنع بحرمي؟ فقال هانئ: يمكثن في حفظي لا يخلص إليهن أحد وفي وفي قومي رمق.
فقبل النعمان، وتوجه إلى كسرى، فلم يكن كسرى أقل هياجا عليه من فيلته التي طرحته تحت أرجلها فوطئته وعجنته بدمه في السنة 602.
واستعمل كسرى إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة، وأمره أن يجمع ما خلفه النعمان فينقله إليه، فأرسل إياس إلى هانئ بن مسعود يطلب منه تركة النعمان، فأجاب هانئ: إني أحد رجلين، إما رجل استودع أمانة فما ينبغي له أن يردها إلا إلى صاحبها، وإما رجل قيل عنه ما قيل افتراء وبهتانا، ولا أرى لأحد علي في الحالتين حقا.
فبعث إياس بجواب هانئ إلى كسرى فثارت ثائرته، وطفق العرب من بني بكر يغيرون على السواد، وطفق بنو شيبان، وهم قوم هانئ وبطن من بني بكر، يغيرون في طليعة المغيرين وينخسون خاصرة الدولة الفارسية، ففكر كسرى في تجريد حملة على البكريين، ليوقع بهم كما أوقع من قبله سلفه كسرى أنو شروان ببني تميم، في يوم الصفقة، إذ اعتدوا على متاع كان قد سيره إلى عامله باليمن ، فطوقهم وذبح منهم خلقا كثيرا في حصن المشقر بالبحرين، ولعل كسرى أبرويز رجع بالذاكرة إلى عهد سابور الثاني حين حمل على العرب حملته المنكرة، فقبض على كثيرين من ساداتهم، وخلع أكتافهم من مواضعها، فسمي سابور ذو الأكتاف؛ وحظر على العرب دخول عاصمته، وبنى مدينة آلوس على جزيرة في وسط الفرات وجعلها قاعدة مسلحة، واحتفر خندقا عظيما أنشأ عليه القلاع، وقرض دويلة الضجاعمة العربية، وافتتح مدينتها الحضر،
2
وأمن مملكته من شر غارات العرب.
أجل، ربما قلب كسرى أبرويز الثاني هذه الصفحات من تاريخ الأمس في ذاكرته، وربما ألحت عليه شهوة إلى تجديد ما فعل سابور، ولكنه رأى في الروية خيرا، فأبرويز يحس أن الدولة الفارسية لم تبق قادرة على بذل ما كانت تبذل من قوى؛ وهو يعلم أن بلاده معرضة للفتن الداخلية طمعا في العرش، بل يعلم أنه لولا زواجه بابنة إمبراطور الروم موريقي، ولولا مساعدة الجيوش الرومية له، لما استطاع بالأمس أن يقضي على القائد بهرام الذي عصاه واغتصب منه العرش وطرده، فإذا كانت الحال بينه وبين الروم سلما اليوم، فمن يعرف مباغتات الزمان؟
صفحة غير معروفة