2
فأبو العلاء يعلل لنا في هذا الفصل إيثاره للعزلة بعد أن علل في الفصل الذي فرغنا من الحديث عنه إيثاره للحياة الفلسفية. وهو في ذلك الفصل ينبئنا بأنه ظل ثلاثين سنة يأمل الخير ويرقبه، ويعاني مع ذلك ألوان الشدة والسهول، يعد في هذا الانتظار أعوامه، بل أيامه ولياليه، فلما بلغ الثلاثين ولم يبلغ الخير استيأس منه، واستأنف حياة جديدة.
وهو في هذا الفصل ينبئنا بأنه كسير الجناح، لا يستطيع أن ينهض وحده، وإنما هو مستطيع بغيره، كما قال في غير هذا الموضع، ولو استطاع بنفسه لكان سعيدا. وفقد بصره هو الذي اضطره إلى هذا العجز، وهو ينبئنا بأنه قد شارك الناس في جدهم وهزلهم، فرأى أنه لا ينفذ في جد ولا في هزل. وليس فقد بصره وحده هو الذي أعجزه عن أن ينفذ في الجد والهزل، فقد جد قبله بشار وهزل. وإنما أعجزه عن ذلك فقد بصره، وأعجزته عن ذلك طبيعته التي كانت إنسية الولادة، وحشية الغريزة، وأعجزته عن ذلك فلسفته التي اضطر إليها، بعد أن ارتقب الخير ثلاثين عاما فلم يظفر به. وإذن فلم يكن له بد من أن يتم حياته الفلسفية الجديدة بهذه العزلة التي ينقطع بها عن الناس، وعما يكونون فيه من هزل وجد. والعزلة شاقة عسيرة الاحتمال، فليستعن عليها بالصبر، فلا بد للمبهمة من أن تنفرج حين يأتي الموت، فيريحه ويريح منه!
وما أعرف أروع من هذين الفصلين في تصوير الناحية الإنسانية من شخص أبي العلاء، على أن الصبر لم يكن هينا عليه دائما، وإنما كان يعوذه أحيانا، فيكاد يخرج عن طوره لولا فضل من قوة الإرادة، وحزم الأمر، وضبط النفس. فاقرأ هذا الفصل الذي يصور ضيقه بالعزلة، ويأسه مما كان قدر أنه قد يظفر به فيها من الأمن، وراحة الضمير، والعزاء عن تركه بغداد.
فإذا هو لا يظفر من هذا كله بشيء، وإذا هو يندم على ترك العراق بعد أن انقطعت الأسباب بينه وبين العراق، كالراهب يفرض على نفسه لزوم الدير، ثم يتبين له بعد فوات الوقت أنه قد حاول ما لا يطيق فيندم حين لا يغني الندم عنه شيئا.
وقد كان أبو العلاء يرى ترك العراق ولزوم بيته لونا من ألوان الطاعة والبر، والتواضع، والإعراض عن غرور النفس، وكذب الشهرة والصيت. فلما تم له من ذلك ما أراد رأى أنه قد حرم خيرا لا تطيب عنه نفسه، فما عسى أن يكون هذا الخير؟ ليس خيرا ماديا، فلم يكن أبو العلاء ناعم البال في العراق، ولا مستمتعا بطيبات الحياة، وإنما هو خير عقلي، هو هذه الحياة العلمية الفلسفية التي كان يحياها بين إخوانه وأصفيائه من العلماء والأدباء والمفكرين: «لا عتيبة بقي ولا قتيبة، كم فتى من هذيل، يضرب بالذيل، كان العذيق والجذيل، غودر برمل أو رميل، ما خلفه النضر بن شميل، خير من خلف أبي مليل، والفرخ أبي العديل. عيلا عيلا! قد ورث كعب جعيلا، وترك عتر قيلا، وسار في توبة رثاء ليلى، ثم أضحوا بالترب هيلا، لم يصيدوا جميلا. طويت المنازل عن العراق كأنني في الطاعة، وأظن ذاك بعض المعصية، وأحسبني لو وفقت لانقلبت عائدا على أدراج!»
3
وقد يبلغ الضيق بأبي العلاء أقصاه، وينتهي الحرج به إلى أبعد آماده، فيفكر في أن يصوم عن الطعام والشراب حتى يدركه الموت، ولكنه خائف دائما، خائف مما بعد الموت، فهو مضطر إلى أن يصبر، وإلى أن يحتمل، يؤثر ذلك على أن يسرع إلى الموت، فيلقى من ورائه ما يكره. فاقرأ أول هذا الفصل:
لو أمنت التبعة لجاز أن أمسك عن الطعام والشراب حتى أخلص من ضنك الحياة، ولكن أرهب غوائل السبيل!
4
صفحة غير معروفة