قد كنت أريد ذلك منذ اضطررت إلى الأخذ في إملاء هذا الحديث، ثم ثبتني على ما أريد بيت من شعر أبي العلاء وقفت عنده فأطلت الوقوف، وفكرت فيه فأطلت التفكير، وتأثرت به فكان تأثري به قويا عميقا، وكان انتهائي إلى هذا البيت أثناء تفكيري في هذا الرفق مصادفة من المصادفات كما يقول بول فاليري، وقضاء من سالف الأقضية كما يقول أبو العلاء. وماذا تريد أن أصنع وعمل المصادفات في هذا الحديث لا يريد أن ينقضي؟
وهذا البيت هو قول رهين المحبسين:
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى
إني أخاف عليكمو أن تلتقوا
لست أدري أتشعر كما أشعر، وتجد من قراءة هذا البيت مثل ما أجد؟ ولكن قلبي يمتلئ لإنشاده رحمة وبرا، وحنانا وإشفاقا. أترى أبا العلاء فكر في نفسه، وفيما سيقول الناس فيه بعد موته؟ أتراه أشفق من ظلم الناس له بعد موته كما ظلموه أثناء حياته، ومن تجني الناس عليه بعد ارتحاله عنهم كما تجنوا عليه حين كان مقيما بين أظهرهم؟ أم تراه لم يفكر في نفسه، ولم يحفل بما سيقول الناس فيه، وإنما فكر في غيره من الموتى، وفيما كان الناس يقولون فيهم، ويحملون عليهم؟ أم تراه لم يفكر في نفسه، ولا في غيره، وإنما عرض له المعنى فسجله وصوره في هذا اللفظ الحلو الرقيق الذي لا يبلغ قلبا رحيما رقيقا إلا أثر فيه؛ لأنه صدر من قلب رحيم رقيق؟
إذا قرأت اللزوميات فما أكثر ما ستجد فيها من ازدراء أبي العلاء لما سيقال عنه بعد الموت. وإذا قرأت اللزوميات فما أكثر ما ستجد فيها من قسوة أبي العلاء على الأحياء والأموات جميعا. وإذن فهل تراه فكر في نفسه، أم هل تراه فكر في غيره حين قال هذا البيت؟ أم هل تراه في لحظة من لحظاته قد أشفق على الموتى من حيث هم موتى؟ تصور عجزهم عن أن يدفعوا عن أنفسهم، وقصورهم عن أن يردوا ما يصب عليهم من الظلم، فرحمهم وأشفق عليهم؛ لأنه كان رحيما شفيقا. ولماذا يخاف أبو العلاء على الأحياء الذي يظلمون الموتى أن يلقوهم؟ ماذا يخاف على الأحياء، وماذا يخاف من الأموات؟ أتراه ينذر ويهدد ويخوف من الانتقام والبطش، أم تراه ينبه عاطفة الحياء، ويشفق على الظالم أن يلقى المظلوم فيستحي منه؟ أم تراه لا ينذر ولا يخوف، ولا ينبه عاطفة الحياء، وإنما يشير إلى أن من الجائز ألا يكون الموت خاتمة للإنسان، وأن يكون للنفس حظ من خلود، ومن شعور بهذا الخلود، وأن يكون من نتائج ذلك أن يلتقي الموتى في عالم آخر كما كان الأحياء يلتقون في هذه الدنيا؟ وكما أن الناس في هذه الدنيا يخوفون من أن يظلم بعضهم بعضا بالانتقام مرة، وبتنبيه عاطفة الحياء في أعماق الضمير مرة أخرى، فليخوف الموتى هذا الخوف المشترك بين الانتقام والحياء أيضا! فمن الناس من ينتصف إذا ظلم فيبطش بظالمه، ومن الناس من يعجزه هذا الانتصاف فيستعدي الله على ظالمه، والله شديد الانتقام. ومن الناس من يحلم فلا يبطش بظالمه، ولا يستنزل عليه غضب الله، وإنما يعفو، ويكون من عفوه أقسى عقوبة للظالم، وأعظم تنكيل به؛ لأنه يؤذي منه عاطفة الحياء، وهي أرق العواطف وأدقها حسا.
مهما يكن من شيء فإني قد أطلت الوقوف عند هذا البيت، وتصورت أني لقيت أبا العلاء في هذه الحياة أو في حياة أخرى؛ فآلمني أن ألقاه ظالما له، متجنيا عليه، ولو كان ذلك في سبيل العلم، واستكشاف الحق من أمره. وما تصورت أبا العلاء باطشا بي أو موعدا لي، وإنما تصورته معرضا عني، مشفقا علي من ظلمي له، وتجني عليه، وتصورت نفسي معتذرا إليه، ومستعطفا له؛ فكرهت أشد الكره أن أقف منه هذا الموقف، وأن أكون منه بهذا المكان، والغريب أني قد وعيت هذا البيت وفقهته كما ترى، وتأثرت به أشد التأثر، وقبلت وعظ أبي العلاء بالقياس إلى أبي العلاء نفسه؛ ولكني لم أقبله، وما أرى أني سأقبله، بالقياس إلى غيره من الشعراء والكتاب الذين عرضت لهم أو سأعرض لهم بالدرس والبحث في يوم من الأيام! إني أتصور من شئت من الشعراء والكتاب الذين ارتحلوا عن هذه الدار في العصور القديمة أو في هذا العصر الحديث، وأتصور أني أعرض لهم بالنقد، وأعرض لحياتهم الخاصة بالدرس، وأقول فيهم ما لم يكونوا يحبون أن يقال فيهم، وأظهر من أمرهم ما لم يكونوا يريدون أن يظهر من أمرهم، ثم ألقاهم بعد ذلك في هذه الدار أو في دار أخرى فأجد منهم سخطا على ما قلت فيهم، وضيقا بما أظهرت من أمرهم؛ وقد يعرض لي بعضهم بالأذى، وقد يكتفي بعضهم بالعتاب، وقد ينالني بعضهم بالعفو والإغضاء، ولكن شيئا من ذلك لا يهمني ولا يخيفني، ولا يصرفني عما يجب أن أقبل عليه من البحث ما دمت مطمئنا إلى أني لم أتعمد ظلما ولا تجنيا، ولم أقل إلا ما اعتقدت - مصيبا أو مخطئا - أنه الحق.
أتراني أشفق من لقاء المتنبي مثلا وقد قلت فيه ما قلت، وأظهرت من أمره ما أظهرت؟ أتراني أشفق أن ينالني الأذى من يده أو لسانه؛ لأني لم أصدقه فيما زعم لنفسه من هذه المفاخر أو تلك؛ ولأني لم أرض من أخلاقه عن هذه الخصال أو تلك، ولأني وقفت من نسبه موقف التردد والشك؟ كلا! لأني لم أصدر فيما قلت عن المتنبي إلا عن رأي رأيته بعد روية وتفكير، وبعد تمهل وترجيح. فأنا لم أرد به شرا، ولم أقترف في ذاته ظلما، لم أرد أن أرضيه، ولم أرد أن أسخطه، وما يعنيني أن أرضيه أو أسخطه، وإنما يعنيني أن أظهر وأظهر الناس من أمره على ما أرجح أنه الحق.
ولو قد كان المتنبي حيا لما حفلت من أمره إلا بما تفرض القوانين والمجاملة أن أحفل به. وقد سرت هذه السيرة نفسها مع بعض الشعراء الذين عاصرونا، ثم انتقلوا عن هذه الدار إلى رحمة الله ورضوانه، واجهتهم بالنقد أحيانا، ولم أغير فيهم رأيي بعد أن قضوا، وما أدري لعلي أن أكون لهم ظالما من حيث لا أريد الظلم، وعليهم متجنيا من حيث لا أريد التجني! وقد أوازن بين أبي تمام والبحتري فأرضى حتى أبلغ أقصى غايات الرضا، وأسخط حتى أبلغ أقصى غايات السخط، وأثني وأعيب كما رضيت وكما سخطت، وما يعنيني وما يخيفني أن يغضب الطائيان أو يرضيا، وما يعنيني وما يخيفني أن يلقياني بالرضا والغضب في هذه الحياة أو في تلك. ولا كذلك أمري مع أبي العلاء، فإني أكره أن أقسو عليه، راضيا أو كارها، مخافة أن ألقاه فإذا هو متأذ بهذه القسوة؛ لأني أحبه كما قلت، ولأني أجد فيه من الرفق والرحمة، ومن الحنان والإشفاق، ومن البر والعطف بالناس وبالحيوان ما لا أجده عند غيره من الشعراء والفلاسفة إلا قليلا. وكيف تتصور القسوة على رجل كان يرحم النحل، ويلح في أن لا يشتار ما تجمع لنفسها؛ وكان يرحم الدجاج، ويفزع إذا قدمت إليه، ويرد الناس أشنع الرد عن إيذائها؟ وكان يحاور الديك هذا الحوار الحلو الذي قد أقف عنده في وقت من الأوقات؛ وكان يترجم عن الضأن للناس، فينبئهم بأنها تعذر عدوان الذئب عليها؛ لأنه يقوم على العدوان من غير بصيرة وعقل، ولا تعذر عدوانهم هم عليها؛ لأنهم يقدمون عن روية وتفكير، وعن تعمد للقسوة، وإصرار عليها؟ وكيف تتصور القسوة على رجل ما أظن أحدا فهم عن ذوات الأطواق مثل ما فهم عنها، وما أظن أحدا رحمها من عدوان الناس، وعدوان سباع الطير، وعدوان حوادث الأيام كما رحمها؟
أبنات الهديل أسعدن أو عد
صفحة غير معروفة