ولكن الحروف به عكسنه
غنى زيد يكون لفقر عمرو
وأحكام الحوادث لا يقسنه
وما أريد أن أقف عند فنها اللفظي؛ فهو أظهر وأدنى من أن يحتاج إلى الحديث عنه، أو إلى تقريبه إلى القارئ. ما أريد أن أقف عند القيمة الفلسفية لمعاني هذه الأبيات؛ فقد يدفعني ذلك إلى ألوان من القول، وإلى فنون من الإطالة لست في حاجة إليها. وإنما أريد أن أقف عند شيئين اثنين تصورهما هذه الأبيات تصويرا قويا واضحا، ويحتاجان إلى كثير من التعمق والاستقصاء:
الأول: أن هذه الفكرة التي يصورها الشيخ في البيت الأول، ويقيم الدليل عليها في البيت الثاني مشتركة بينه وبين أصحاب أبيقور، لا في جوهرها فحسب، بل في طريقة عرضها أيضا. فأي الناس قرأ ديوان الشاعر اللاتيني لوكريس الذي يعرف بطبيعة الأشياء يعلم أن هذه الفكرة شائعة في هذا الديوان كله، وأن الشاعر اللاتيني يعرضها غير مرة على نفس النحو الذي يعرضها عليه أبو العلاء.
فهو يتحدث عن تشابه الأشياء وإن اختلفت صورها الظاهرة، وهو يمثل لذلك بألفاظ لاتينية يعبث بها نفس العبث الذي يعبثه أبو العلاء ب «جرم»، و«جمر» في البيت الثاني.
ومن المحقق أن أبا العلاء لم يقرأ لوكريس، ولم يظهر عليه، وأكبر الظن أنه لم يسمع بديوانه، بل لم يسمع باسم الشاعر نفسه، ولو قد قرأه لقرأه بالعربية، وليس من سبيل إلى ترجمة هذا العبث اللفظي من اللاتينية إلى اللغة العربية، وقد ظهر عجز التراجمة الفرنسيين عن نقله من اللاتينية إلى الفرنسية.
ليس من شك إذن في أن أبا العلاء لم يتأثر بالشاعر اللاتيني من قريب ولا من بعيد، وكل ما يمكن أن يفترض هو أن فلسفة أبيقور قد عرفت عند المسلمين على نحو ما، واتصلت أصولها بأبي العلاء، فصادفت من مزاجه استعدادا وقبولا، ففكر فيها واستقصى مذاهبها مجتهدا مستنبطا من نفسه، وانتهى إلى مثل ما انتهى إليه القدماء من أصحاب أبيقور، وإلى مثل ما انتهى إليه الشاعر اللاتيني من مذاهب التفكير، والتعبير ومن مذاهبهم في السيرة أيضا.
والشيء الثاني هذا البيت:
غنى زيد يكون لفقر عمرو
صفحة غير معروفة